قراءة: د. وليد جاسم الزبيدي المقدمة/ منذ أكثر من ثلاثة عقود، كنّا نتفيّأ ظلال الحرف في تكايا الشعر ، عند حسن عجمي، واتحاد الأدباء، أو في ركنٍ من أركان جريدة، لعلّنا ننشر بعض ما نخربشه زمنَ أباطرة الشعر، الذين كانوا يتسيّدون صفحات الثقافة ولن يتركوا لنا إلا ما فاض عن حاجتهم.. هناك عرفتهُ الشاعر والصديق (طالب عبد العزيز) وبعد كل هذه العقود من الزمن التقيتهُ في معرض الكتاب الدولي ببغداد –دون موعد- ليهديني مجموعته الشعرية الجديدة(طريقانِ على الماء.. واحدٌ على اليابسة). فقرأتهُ هكذا .. غلاف المجموعة الشعرية/ يحيلك الغلاف، الى مناخ المكان، ورائحته، حيثُ البابُ القديمُ، الدّال على التاريخ، والشناشيل وهي رمز المدينة-البصرة-، وأزمنة (بنت الجلبي)، وأولها وليس ختامها، النخلُ، العمّة والأم والحبيبة. عتبة المجموعة الشعرية/ (طريقانِ على الماء.. واحدٌ على اليابسة).. عنوانٌ يراهُ ويقرأه المتلقي بدءاً، كأنه لقاء النقيضين، أو هو عنوان للإثارة للدخول في عوالم المجموعة الشعرية، لكنّك ستعلم بعد حين ، كم هو مرتبطٌ بكل نصوص المجموعة ولم يكن عنواناً لنصّ واحد (ص41)، فالماءُ واليابسة هما جغرافية المكان حيث الماء الأنهار والخليج واليابسة (المدينة). دلالة المكان في المجموعة الشعرية/ وأنتَ تقرأُ –المجموعة الشعرية- تجدُ المكان هو الهواء والشمس والذاكرة، يحفرُ حضوره في كل صورةٍ، ومع كل جملةٍ شعرية، وهذا المكان، جعلهُ الشاعرُ، يتحرّرُ من الجغرافية الضيّقة، ومن أساليب توظيفاتهِ التقليدية، الى خصوصية أخرى ، خصوصية الحركة والتمحور، بل أن المكان يتعشقُ ويتناغمُ بجسدٍ واحد بالزمان والانسان، وخروجه من رداء ومنهج الوصف نحو اختلاط المرئي بالمتخيّل والمسموع، في جِرسِ اللفظةِ والحرف والاشارات والعلامات. فالمكانُ سُرّةُ النّص عند (طالب عبد العزيز)، ويضحى قناديلَ المبهم في شفرات المعنى ، وللمكانِ في النّص شفراتُهُ أيضاً التي تتشظى(تاريخاً، سلوكاً، زماناً، انساناً، حركةً، عقيدةً، مجتمعاً..). 1- المكان المدينة : مدنٌ عاشها عشقها وكرهها، وضعَ بصمةً هنا، وذكرى هناك، علقت بروحه وخيالاته، وضعها على خارطة حروفه ليرسم لنا مدناً جديدةً كأنها تتوحّد وتتقارب ، في موسيقى هارموني. المدينة الحقيقة وما يريدها أن تكون. المدن التي لا تحدّها حدود السياسة ولا الطبيعة. من المقدمة التي كتبها الشاعر وسبقتْ نصوصه(إنّي ليوحشني أنْ أدنوَ من فسيلٍ/ لا أشمّ رائحتك فيه). الارتباط الواضح بالمكان وأنّ حبلهُ السّريّ ظلّ ممتداً في درابين المدينة أو المدن. ويسوحُ بنا الشاعر في مدينته البصرة، والكويت، مصر، ومدن السعودية، وتركيا، وايران، وأرمينيا، وأربيل، والحلة. ومنها على سبيل المثال( الذي أبحر من الفاو الى سومطرة/ والذي تمزّقتْ غيمتهُ في عدن/لأبي الخصيب بعبد الليان/ بنهر الخوز/ أم النعّاج/ البصرة القديمة/ الزريجي/ البطحاء/ سوق الشيوخ/ المعامر/ المخراق/ الواصلية/ الفداغية/ الدويب/ الأُبلّة/ المعقل/يصل الهرم بمنارة الاسكندرية/ بين بابل والهاشميات/ ...). 2- المكان الانسان: الانسان ، الصديق، نبلاء الزمان القديم ، والشخصيات الشعبية، والشعراء، الانسان الذي التقاه الشاعر، أو منْ لم يلتقه بل سمع عنه أو قرأ له. وهم جزء مهم في سبب حب الشاعر للمكان. هكذا تعلّمنا بل وأحسسنا صدق المقولة( المكانُ بالمكين) فلولا البشر لما أصبحت الأرض جنة، ومأوى ،وسكن بما تحمله من معنى، الارتباط بالمكان يصحبه ارتباط بصحبةٍ فيه، حبيبة/ أصدقاء/ نهر/ نخلة/ شجرة/ حيوانات... ويقول الشاعر( أتراني سعيداً صُحبةَ منْ ثوت أقمارهُ هناك..) / أبي ، جدّي ، آدمهم الأول / حيثُ يرقدُ أشياخي: السيّابُ والبريكان، وعبد الوهاب../ حسين الحمداني/ طه البربوري/ الأسطى جودي/ عبد الرزاق اسحق/ صالح بيك/ الجاحظ/ دخيل الخليفة/ حسين عبد اللطيف/ بيير لوتيه/ آزادي/ حبيب أوغلو/ سركون بولص/ .. 3- المكان / القبر: هذا الهوس الذي يظل فزاعة الانسان في كل عصر منذ جلجامش وأنكيدو،وهو المكان الذي ينبئ (الطريق الى النجف جدُّ طويل/ وسّدوني الرمل../ فقدّ أبي ظلاله/ أنا المحمولُ أبداً من هناك الى البساتين./تحجبُنا عن دكّة المُغتسل/ تحدّثَ بعضُنا عن بيوتٍ مهجورةٍ تحت التُراب/ ..). 4- المكان / النخلة – النهر: النخلة رمز العطاء والخير، ورمز من رموز المدينة (البصرة/ العراق)، وما تحمله من تاريخ وعطاء وخصب وديمومة الحياة، والأنهر والسواقي التي يتابعها الشاعر وهو يعرفها ويحفظ مساراتها ليلا ونهارا في صحوه وسكره. الخاتمة/ المجموعة الشعرية تستحق قراءاتٍ أخرى ورؤ تختلف عمّا قرأت، ومن زوايا ومناهج متنوعة، فالشاعر مرتبط حدّ العطش ببصرته، بجذوره الأولى، بكل شيخ وصبي، وكل دكان ومحلة، ونخلة وفسيلة وسفينة ، الاشعر طالب عبد العزيز يرسمُ لنا جغرافيا وتضاريس شعرية لأمكنةٍ توقظ فينا الحنين والمحبة ..
مشاركة :