هشام ناظر وملحمة التنمية «3-3»

  • 1/22/2016
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

بعد ان تعرفنا في الحلقتين السابقتين على شخصية الشيخ هشام ناظر وجهوده وإبداعه في حقبة وزارة الملك خالد - رحمه الله - التي ساهمت في تأسيس الهيئة الملكية، وتأثيره على التفاوض والمباحثات وصياغة العقود مع كبرى الشركات العالمية للقيام بأعمال الخدمات الاستشارية لمشروع الجبيل، سنقف في هذه الحلقة الثالثة والاخيرة على بعض الجزئيات من حياته المليئة بالنجاح والمثابرة، إضافة لكشف عدد من الجوانب المضيئة في مسيرته الحازمة ضد التجاوزات والمشجعة للمبادرات الوطنية في نفس الوقت. تخطي الروتين في سبيل تخطي الروتين والبيروقراطية وتأخر البريد وما يتبعه من تعقيدات سجلات الوارد والصادر ، ولان إدارة المشروع قد انتقلت - كما جاء في الحلقة السابقة - إلى الخبر أولاً ثم إلى موقع المشروع بالجبيل بعد ذلك، ولان هناك الكثير من القرارات التي يجب اتخاذها في أسرع وقت، إما من قبل نائب الرئيس أو مجلس الإدارة بموجب الصلاحيات المقررة ، فقد أقر الشيخ هشام برنامجاً خاصاً للقائي به في كل أسبوع ، حيث يخصص اليوم كله للجلوس معي ومراجعة كل ما تحتويه حقيبتي البيروقراطية من أوراق ، ما يتعلق بالعقود والمناقصات الخاصة بـ (الاستشاريين والمقاولين) ، أو أمور القوى العاملة في المشروع، وغير ذلك مما يلزم اتخاذ قرار فيه من قبل معاليه أو من المجلس. لذلك أحمل أوراق كل ذلك كل أسبوع، وأتوجه إلى الرياض وأجلس معه وجهاً لوجه، نفلفل تلك الاوراق ، يقرؤها بعناية ، يناقش بعضها ، يستفسر عن بعض الأمور فيها ، ليوافق بعد ذلك ، على ما هو من صلاحياته إن اقتنع. ويحيل ما يلزم منها لمجلس الادارة، حيث تتولى الأمانة العامة للهيئة الملكية إعداد مشاريع القرارات اللازمة، وأعيد لحقيبتي ما لا يحتاج للعرض على المجلس، أو لا يحتاج لقرار مكتوب. كل تلك الأوراق التي تضمها حقيبتي كل أسبوع ، وما فيها من طلب الموافقات ومشاريع القرارات والتوجيهات ، نناقشها سوياً، موضوعاً بعد آخر، في تؤدة وتفرغ من معاليه، دون تدخل من أحد، أو إزعاج من زائر أو مكالمة هاتفية ، الا ما قل، حيث يوجه مدير مكتبه بالاعتذار عن المقابلات والمكالمات ، أثناء اجتماعي به ، إلا ما هو ضروري ولا يقبل التأخير ( حتى الشاي كان يمنع تقديمه للزائرين في هذه الحالات، ويكتفي بالقهوة العربية، منعا للاحراج وتجنبا لاضاعة الوقت ما أمكن). في بعض الأحيان قد أحضر معي مشروع قرار لست متأكداً من سلامته، فأطلب منه العرض على الخبراء الموجودين في الامانة لدراسة الموضوع قبل البت فيه، فإذا اقتنع بذلك أحال الموضوع للأمانة لدراسته والعرض عليه من جديد، لكنه - حسبما أتذكر - لا يبت في الموضوع إلا بعد التشاور معي حول موقف الخبراء ، ما يعزز روح الثقة والمسؤولية لدي، والاكبار لشخصية ذلك الرجل ( في بعض الحالات أيضاً قد يرى هو أن يستمع لرأي الخبراء فيما أعرضه، قبل إعطاء موافقته النهائية ، وهنا أيضاً لا يأخذ برأي الخبراء فيه إلا بعد إطلاعي عليه، والاستماع لوجهة نظري ، وكنت أقدر منه ذلك كثيراً بالطبع). ويحصل في كثير من الأحيان ألا ننتهي من فصفصة كل الأوراق خلال ساعات عمل المكتب الرسمية، وحتى لا يؤخر العاملون معه في المكتب ، كان إذا وصل الأمر إلى ذلك ، يطلب مني أن أضب حقيبتي وأرافقه إلى منزله، وهناك نكمل فصفصة الأوراق مع وجبة غداء سمينة ( أدمنت عليها، وصرت أتطلع إليها بشغف، لذلك أكثر من الاوراق وأكثر من النقاشات والمداخلات حتى أحظى بذلك الغداء السمين، وهل أفضل من غداء في بيت الوزير. وكان الغداء دائما جاهزا بمجرد وصولنا، ولا أدري هل كان يخطط لذلك أم أنه بيت الكرم ، وأرجو ألا أكون قد أثقلت كثيرا على أهله، أو شغلته عنهم كثيرا). تطبيق النظام في جلسة الفصفصة كان يحدث بعض الأمور (المضحكة أحياناً)، وفي (غاية الأهمية في أحيان أخرى) لكنها تقول الكثير عن شخصية الشيخ هشام واهتمامه بالعمل واستغلال الوقت والمحافظة على مصلحة الوطن وتطبيق النظام والنزاهة. من ذلك مثلاً مجيء شخص لمكتبه في أحد الأيام ، تجمع الشيخ هشام مع والده علاقة قديمة، سمح له الشيخ هشام بالدخول فبدأ يحدثه عن والده ويبلغه تحياته... إلخ، ولما سأله هشام عما إذا كان هناك ما يستطيع ان يخدمه فيه، اعتذر وقال: إنما أتى فقط للسلام ، وخرج تاركاً بعض الاوراق التي تناولها الشيخ هشام، وبعد أن قرأها عرضها علي، وإذا فيها رسالة من شركة لتلك الشخصية، تطلب منه التوسط لدى الهيئة الملكية لترسية مناقصة عليهم. تذكرت عند قراءة الرسالة أن تلك المناقصة قد تمت ترسيتها بالفعل الأسبوع الماضي، وعلى الشركة نفسها. فأخبرت الشيخ هشام بذلك، فاتخذ في الحال الإجراءات الرادعة واللازمة في مثل هذه الحالات. وفي حادثة أخرى، حضر إلى المكتب ونحن نفصفص الاوراق، شخصية ذات مكانة عالية وما أن جلس على كرسيه حتى بدأ يلوم الشيخ هشام على ترسية مشروع على شركته، لكنه مشروع صغير لا يليق بمقام الشركة، وطلب من الشيخ هشام أن يصدر أمرا (هكذا) بأن تكلف شركته بجميع أعمال المشروع التي تدخل في مجال تخصص الشركة. في البداية هنأه الشيخ هشام على فوز شركته بذلك العقد (الصغير) وأخبره أن فوز الشركة كان بالفعل مستحقا في ضوء خبرة الشركة وتخصصها وما قدمته في أوراق المناقصة من نواح فنية وأسعار مناسبة ، وهو ما تستطيع الشركة ان تكرره مستقبلاً إذا ما دعيت لمناقصة أخرى. أما إصدار (الأوامر) فهو ليس من صلاحيته، فالوزير مخول فقط بإصدار (قرارات) بموجب النظام ، وما يتفق مع النظام الذي ائتمنته الدولة على تطبيقه، ولا يجوز له مخالفته ، وهو - أي الضيف - اعلم بذلك ، وليلطف الشيخ هشام الجو مع الضيف دعاه إلى الغداء مع (مدير عام المشروع) الذي يجلس أمامه، فزعل الرجل وخرج. ومن محاولات بعض أصحاب النفوذ الذين كان الشيخ هشام يوجه بعدم الاستماع اليهم، والرجوع إليه عند اللزوم، اتصل بي مندوب إحدى الشركات التابعة لاحدى الشخصيات النافذة، وأبلغني بطلب صاحب الشركة بترسية إحدى المناقصات على شركته، وكان ذلك هاتفياً بعد منتصف الليل، فأخبرته بسياسة الهيئة الملكية، وبأننا مؤتمنون من الدولة على تطبيق النظام وإعطاء كل ذي حق حقه وليس غير، فإذا كانت الشركة تستحق الترسية سيرسو عليها، وإلا فسيرسو على المتقدم الاصلح، وإذا كانت الشركة تعتقد أن المسؤولين في الهيئة الملكية لم يحترموا النظام فإن الابواب مفتوحة للشكوى، ليتم التحقيق وتسود العدالة، لم تعجب المندوب ردودي، ووعد بمراجعة صاحب الشركة وانتهت المكالمة. وفي الصباح اتصلت بالشيخ هشام وأخبرته بما دار بيني وبين مندوب الشركة فأيد تصرفي، ووعد بوقوفه ضد أي محاولة للخروج على النظام ، ولا أدري ماذا حصل بعد ذلك مع صاحب الشركة، لكن المناقصة لم ترس على شركته بالتأكيد. وفي نفس السياق، اعترف لي أحدهم - ونحن في الطائرة ذات يوم - بأنهم حاولوا اختراق الهيئة الملكية، إلا أنهم جوبهوا بوجود بعض الشخصيات تعوق اختراقهم، وذكر الشيخ هشام كإحدى تلك الشخصيات. هكذا كانت الأمور تسير مع اهتمام الشيخ هشام بتطبيق النظام، وعدم السماح لأحد بتجاوزه لمصلحة أي كان، كما أنه شخصياً - حسب علمي - لم يوجه بتجاوز النظام لمصلحة أي شخص. وحدث في إحدى المرات أن زار الجبيل الشيخ عبدالله الطريقي - رحمه الله - أول وزير للبترول والثروة المعدنية في المملكة للدخول في إحدى منافسات الأعمال الاستشارية، فتم اطلاع الشيخ هشام على ذلك، فأوصى بالاهتمام بتلك الشخصية الوطنية، وتقديم أي مساعدة ممكنة له، على ألا يكون ذلك على حساب أي جهة أخرى، وألا يكون في ذلك مخالفة لاي نظام. وقد أوضح الشيخ هشام حينها، أنه يكن تقديراً كبيراً للشيخ الطريقي ، الذي عمل معه في الخمسينات (بالمناسبة ، أبدى الشيخ الطريقي ملاحظة، خلال تلك الزيارة، حول مشاريع الجبيل، قائلا : إن هذا ما كنا نعمل عليه منذ ثلاثين سنة، والحمد لله انه يتحقق الآن). اختلاف لا خلاف طبعاً لا يعني ما جاء أعلاه ، أنه لم يكن هناك نقاط اختلاف مع الشيخ هشام، ومظارفة في بعض الأحيان، لكنها لم تكن تتعلق بأمور أساسية أو مبدئية ، أو تتعلق بالمصلحة العامة ، اللهم ما يندرج منها في نطاق وجهات النظر ، وفي هذه الحالة لا بد للجنود من تنفيذ رأي القيادة عندما يتخذ القرار (فعلى سبيل المثال اختلفنا على اختيار الالوان ، وعلى مسمى بعض الأسماك مثل ما نسميه في المنطقة الشرقية سمك (الصافي ) ويصر الشيخ هشام على أن يسميه (سيجان) كما هو شائع في المنطقة الغربية ، وكان يحضنا على تشجيع الاتحاد ، وكان اهتمامي بالرياضة يقترب من الصفر، كما اختلفنا على موضوع السكك الحديدية وكان موقفه يلقى تأييدا من أكثرية أعضاء المجلس، واختلفت مع بعض أعضاء المجلس حول مدينة الجبيل القديمة). القوى العاملة السعودية في ضوء اهتمام الشيخ هشام بالقوى العاملة السعودية وتعليمها وتدريبها، فقد بدأت الهيئة التدريب في الجبيل مع أول أعمال البناء ، حيث كانت هناك حاجة لسائقي المعدات الثقيلة والسيارات الكبيرة لنقل الرمال وتسوية الأرض. ومع محاولة تشغيل أكبر عدد من المقاولين السعوديين في هذا المجال ، فقد بدأت الهيئة تدريب الشباب السعودي ، محدودي التعليم، على تلك الأعمال مع إعطائهم الفرصة ومساعدتهم في العمل مع المقاولين السعوديين المتعاقدين مع الهيئة. بدأ هذا التدريب يتقدم مع تقدم المشروع، حيث بدأت جرعات من التدريب في اللحام وأعمال السباكة والكهرباء وغير ذلك من أعمال البناء، في الوقت نفسه بدأ التحضير لاقامة مركز أو معهد تدريب كبير ، للاهتمام بتدريب القوى العاملة اللازمة لتشغيل المصانع، ابتداء بتدريب المتدربين. وقد وضعت الخطط التي أخذت بهذا المركز بعد عدة سنوات، ليتحول إلى كلية تقنية، ثم كلية جامعية، مع تأسيس مركز آخر للتدريب الحرفي. وما دمنا في ذكر اهتمامات الشيخ هشام بتطوير القوى العاملة السعودية، وخارجاً عن أعمال الهيئة الملكية ، فقد كنت مطلعاً على جهوده في استقدام فريق من كوريا الجنوبية متخصص في التنمية البشرية لتقديم المشورة للملكة في هذا الصدد ، ولعدم التوفيق كان الفريق متسرعاً في استخراج استنتاجات غير مشجعة ما حدا به العودة إلى بلاده دون إتمام المهمة. وهنا عمد الشيخ هشام لطريق آخر ، حيث اقترح إنشاء (مجلس القوى العاملة) الذي ترأسه في البداية صاحب السمو الملكي الامير سلطان بن عبدالعزيز - رحمه الله - ثم آلت رئاسته لصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز رحمه الله. مواقف وطنية وأنا أتحدث عن الشيخ هشام، لابد أن أسجل له بعض المواقف الهامة التي قد تكون لها علاقة بي ولها دلالتها الوطنية، من ذلك مثلاً: تدخله أثناء بعض الأحداث المؤسفة وقيامه بدور إيجابي في التواصل مع القيادة للوصول لحلول عملية ومناسبة. وعندما تسلمت الهيئة الملكية رسالة قوية من احدى الجهات، فيها شيء من الغلظة (بسبب شكوى كيدية وما أكثرها) لم يكتف الشيخ بالرد القوي على الرسالة ، بل قام بنفسه بمقابلة المسؤولين عن الموضوع. وطالب باتخاذ اجراءات رادعة وعملية لايقاف مثل تلك المحاولات المغرضة ، معتبراً نفسه المسؤول الأول عما يجري في المشروع وتحمله كافة المسؤولية عن العاملين معه. تشغيل المدينة ولعله من المهم أن أشير قبل الختام إلى موضوع هام يتعلق في الأساس بمستقبل كل من مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين، لكن الشيخ هشام كان يريده منطلقاً، وتجربة جديدة، تستفيد منه كل مدن المملكة، وهو قضية تشغيل وإدارة مرافق ومنشآت المدينة لتستمر في شبابها وحيويتها، لتخدم سكانها بأحسن ما يأملون وتأمله قيادة البلاد. فبعد أن اثبتت تجربة الهيئة الملكية نجاحها في إنشاء المدينة وتوفير جميع متطلبات سكانها ومؤسساتها الانتاجية ، كان معاليه يريد لهذا النجاح أن يستمر، مع الزمن في تشغيل وإدارة المدينة، بشكل يمكن تبنيه في كل مدن المملكة، ولا يكون استثناء في الجبيل وينبع. لكن لعدم التوفيق لم تتحقق امنيته رغم اهتمامه بالموضوع منذ بدء العمل في الهيئة، وفي الجلسة الهامة التي عقدها مجلس إدارتها بمدينة الخبر ، ما حدا بالدولة - في وقت لاحق - أن تدخل تعديلات على مرسوم إنشاء الهيئة الملكية يجيز لها البقاء والاستمرار ، ليس للانشاء فقط ، ولكن للتشغيل والادارة أيضاً، ما فتح الطريق - فيما بعد - لتوسيع نطاق عملها فأسندت لها مدينة رأس الخير ومدينة وعد. ثقافة أخيرا أود أن أشير بايجاز إلى الجانب الثقافي في شخصية الشيخ هشام، وقدرته اللغوية والبلاغية العالية، ويسرني أن أنقل هنا - كشاهد على ذلك - بعض ما جاء في كلمته الضافية في حفل وضع حجر الأساس لمشروع الجبيل من قبل جلالة الملك خالد رحمه الله. قال معاليه : يشرفني أن أرحب بجلالتكم في (بقعة الأمل) من بلادكم الحبيبة، وقوله : إن الثروة الناضبة لا تشبع حاضرا ولا تؤمن مستقبلا، إن هي ما تحولت إلى أدوات جديدة للإنتاج، وقوله : إن الجبيل لم تعد تلك الناعسة تسترخي على شاطئ الخليج، تتعانق أمواجه في رفق مع خصائلها ، بل ستتحول - بإذن الله - إلى ولادة تحمل في أحشائها الخير لامتها. وقوله : منذ ألف وأربعمائة سنة جاء رسول الهدى (صلى الله عليه وسلم) فوحدها عقائدياً، ومنذ ثمانين سنة جاء عبدالعزيز فوحدها سياسياً، وها أنت اليوم تعقص شرايين الحياة فيها، في عروة لن تنفصم بإذن الله ابداً ، وأخيراً قوله : وعسى أن يقول التاريخ عن هذا الجيل ما يستحقه بحق إن كانت أيامه تماثل يومنا هذا وفي هذه البقعة الأمل. رحم الله الشيخ هشام، وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان، وجزاه الله خيراً عما قدم لوطنه وأمته ، وجعله نبراساً ومثالاً للعاملين في حقول تنمية الوطن ورفعته وعزته، وما التوفيق إلا من عند الله. الملك خالد «رحمه الله» يستمع لشرح موجز عن مشاريع الهيئة من هشام ناظر الملك خالد «رحمه الله» خلال وضعه حجر الأساس لمشروع الجبيل هشام ناظر في كلمته أمام الملك خالد «رحمه الله» كلية الجبيل الصناعية الآن التي انطلقت كمركز لتدريب اليد العاملة في تلك الحقبة

مشاركة :