«التطفيل وحكايات الطفيليين» .. قراءة في العقل العربي التاريخي

  • 1/23/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تكشف مدونة التراث العربي في مجمل نتاجها التاريخي عن وقفة طويلة للدارسين والفقهاء عند الظواهر الاجتماعية المتبدلة في الثقافة العربية، إذ يحاول الكتّاب تشخيص العقل الجمعي العربي بكل تجلياته البسيطة منها والمعقدة، طارحين بذلك صورة عميقة لحركة الحضارة العربية في سياقها الاجتماعي التراكمي. يظهر هذا في الكثير من المؤلفات التي تعاين البخل، أو الحياء، أو الجنون، أو البلاهة، أو غيرها من الظواهر الاجتماعية التي تتشكل في المجتمعات بصورة عامة، ويشكل ظهورها جماعة ذات وحدة متماسكة تشترك في الصفات، والذهنية والمواقف، والحكايات، فنجد أبا بكر البغدادي يؤلف كتاباً بعنوان التطفل وحكايات الطفيليين. يمضي البغدادي في كتابه وفق منهج معرفي واضح، إذ يعرف التطفل في اللغة ويبين الجذر اللغوي الذي جاءت منه هذه الصفة، ويقسم كتابه إلى فصول، كل واحد منها يتناول تفصيلاً من صفات المتطفل، ومواقفه، فيعرض حكاياتهم، ومآثرهم، وما ورد فيهم وعنهم من شعر. لا يشكل هذا النوع من الكتب مؤلفاً في الفكاهة والضحك، وقراءة النوادر من تراثنا العربي وحسب، وإنما يقدم قراءة في العقل العربي التاريخي، في القرن الخامس للهجرة، إذ لا يتشكل نوع هذه الكتابة من الفراغ أو من الكاتب نفسه، وإنما يتشكل نتاجاً لمرحلة تاريخية وتحولات جذرية تدفع لظهور هذا النوع من التأليف في القرنين الخامس والرابع الهجريين. ليس ذلك وحده ما يمكن الوصول إليه في نصوص البغدادي، فالآلية التي يكتب فيها، والشواهد التي يستند إليها في طرح رؤاه وتوثيق مرحلته تكشف الكثير لقارئ العقل العربي، ومشوار تحوله التاريخي، إذ يشترك النص الديني والنص الشعري في توثيق الحوادث، وترصين طرحها على الصعيد المعرفي، انطلاقاً من ركيزتين في التاريخ المعرفي للعرب ما بعد ظهور الإسلام، الأولى أن النص الديني سواء القرآن أو السنّة حجة لا جدال فيها، والشعر ديوان العرب الراسخ. عند الوقوف عند النهج الذي يكتب فيه البغدادي سيرة المتطفلين، وقراءة ما يمكن الولوج إليه في قراءة المجتمع العربي في تلك المرحلة، يجد الباحث أن النص يقوم في بنائه على تتابع الروايات، أي حدثنا فلان عن فلان عن فلان، وهذا الأسلوب يتشاكل في بنائه مع ما جاء من صورة للحديث النبوي بعد عصر التدوين في القرن الثاني الهجري. الأمر الآخر، هو الانطلاق من اللغة بوصفها الأداة المعرفية الأولى في الإحاطة بالمفاهيم الإنسانية كلها، فلا يبدأ الكاتب مشوار بحثه من دون التعريف اللغوي للتطفل، والعودة إلى التاريخ الذي نشأت منه هذه المفردة، إذ يقول: قولهم طفيلي للذي يدخل وليمة لَمْ يدع إِلَيْهَا، وَهُوَ منسوب إِلَى طفيل، رجل من أهل الكوفة من بَنِي غطفان، وكان يَأْتِي الولائم من غَيْر أَن يدعى إِلَيْهَا، فكان يقال لَهُ طفيل الأعراس والعرائس، والعرب تسمي الطفيلي: الرائش والوارش. وهذا بحد ذاته يكشف لنا الآلية التي تشكلت منها الكثير من المفاهيم في الحضارة العربية، إذ قد يتحوّل اسم الشخصية المغالية في الصفة إلى مدلول الصفة نفسها. إلى جانب ذلك يمكن قراءة مستويات السلطة وحذر الكاتب في تلمس نظام الحكم في مرحلته، فالكثير من الكتّاب الحاذقين اشتغلوا على هذا النوع من الفئات الاجتماعية، للحديث برمزية، وحرية تعري المجتمعات، وفساد الحكم وغيرها، كما فعل الجاحظ في الحيوان، والبخلاء. مقابل هذا الكشف الوفير الذي يطرحه نص البغدادي، يمكن تلمس مفهوم التراكم في المعارف العربية من حيث المعالجة والبحث، فالبغدادي زمنياً لاحق للكثير من الكتّاب والفقهاء الكبار، لذلك يكشف نصه عن حالة تأثر واضحة بأولئك الشيوخ الكبار والعلماء، فالمقاربة يمكن أن تتحقق بين كتاب التطفل وحكاية الطفيليين ومؤلفات الكتّاب الذين توقفوا عند عقلاء المجانين، أو البهاليل، أو البخلاء، أو غيرها، مثل: الجاحظ، وابن أبي الدنيا، وأحمد بن لقمان. يبين الكتاب مستويات الحجة المعرفية في قراءة العقل الحضاري للمجتمعات العربية، إذ تتنوع الشواهد التي يستفيد منها الكاتب بين النص الديني أولاً، يليها النص الشعري، ثم المرويات والحكايات، وصولاً إلى الأساطير الموروثة، فنجد الكاتب يقول في باب التغليط عَلَى من أتى طعاماً لَمْ يدع إِلَيْهِ: قَالَ عَبْدُ اللَهِ بْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَى اللَهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ: من دُعِيَ فَلَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ دَخَلَ عَلَى غَيْرِ دَعْوَةٍ فَقَدْ دَخَلَ سَارِقاً وخرج مغيراً. وينكشف حضور الشعر في مجمل أبواب الكتاب، فيجد القارئ في باب وصايا الطفيليين: إِذَا دخلت عرساً فلا تلتفت تلفت المريب، وتخير المجالس، فَإِن كَانَ العرس كثير الزحام فأمر وانه، ولا تنظر فِي عيون أهل المرأة ولا فِي عيون أهل الرجل، ليظن هَؤُلاءِ أنك من هَؤُلاءِ، ويظن هَؤُلاءِ أنك من هَؤُلاءِ، فَإِن كَانَ البواب غليظاً وقاحاً، فابدأ بِهِ ومره وانهه من غَيْر أَن تعنفه، وعليك بكلام بَيْنَ النصيحة والإدلال. ويتابع: لا تجزعن من القريب ولا من الرجل البعيد/ وادخل كأنك طابخ... بيديك مغرفة الثريد/ متدلياً فوق الطعام تدلي البازي الصيود/ لتلف مَا فوق الموائد كلها لف الفهود

مشاركة :