لي صديق عزيز وهو ليس نخبويًا. على العكس من ذلك، فقد أمضى عقودًا من حياته في محاربة مظاهر الحيف وعدم المساواة الاجتماعية والعنصرية، كما أنه من مناصري حقوق الفئات المحرومة والمهمشة في المجتمع. لذلك فقد فوجئت عندما قال لي إنه يعتقد أن «كرة القدم هي أفيون الناس». بطبيعة فإن هذا الوصف يحيلنا إلى مقولة ماركسية معروفة «الدين أفيون الشعوب»، وهي مقولة كتبت عن الدين في سياق تاريخي محدد. يعتبر صديقي أن الدول تستخدم الأحداث الرياضية الجماعية لصرف الانتباه عن المشاكل السياسية أو الصراعات الاجتماعية. صديقي على حق جزئيًا.. فهو يعتبر أن الحكومات لا تستثمر في الرياضة كشكل من أشكال الإلهاء فحسب، بل إنها تحول الرياضة أيضًا في كثير من الأحيان إلى شكل من أشكال الشرعية السياسية، وهو ما تتفوق فيه الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص. في فيلمه الوثائقي المؤثر لعام 2010 والمعنون «ليست مجرد لعبة: السلطة والسياسة والرياضة الأمريكية»، يوضح الصحفي والمخرج ديف زيرين بما لا يدع مجالاً للشك أن الساحات الرياضية -من المدارس الابتدائية إلى مباريات السوبر بول الشهيرة- هي مساحات سياسية تُستخدم حصريًا لدعم الاتجاهات السياسية المهيمنة، إن لم يكن دعاية صريحة. يستند الفيلم إلى كتاب زيرين المهم (2009) الذي اختار له عنوان: «تاريخ الناس في الرياضة في الولايات المتحدة الأمريكية». تفهم السلطات الحاكمة بحق أن الرياضة هي شكل حاسم من الإشعاع والتأثير في الشعوب. في كأس العالم لكرة القدم 2022، كانت التوقعات تشير إلى أن نسبة المشاهدة بلغت أكثر من خمسة مليارات شخص، وفقًا لتقديرات لمحطة NBC Sports. تمت مشاهدة الألعاب الأولمبية الصيفية الأخيرة التي أقيمت في طوكيو من قبل عدد مثير للإعجاب بنفس القدر: أكثر من 3 مليارات شخص، وفقًا للأرقام الرسمية التي كانت قد أعلنتها اللجنة الأولمبية الدولية. عندما يتجه نصف البشرية لمتابعة حدث ما، أي حدث، فإن هذا سوف يجذب بطبيعة الحال انتباه الشركات العالمية الكبرى، وخاصة تلك الشركات المعروفة بكثرة وانتشار منتجاتها الاستهلاكية، وبالطبع السياسيين. هذا هو بالضبط سبب حرص بعض قادة العالم على حضور مباريات كرة القدم في بلادهم شخصيًا. لم يكن ظهور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو يلوح للحشود في نصف نهائي فرنسا والمغرب لبضع ثوان مثالا على حب الرئيس لكرة القدم. لقد كانت تلك فرصة ذهبية بالنسبة إليه ليكون رمزا لبلد منتصر وموحد. في الواقع، غالبًا ما توحدنا كرة القدم وترتقي بنا فوق اعتبارات الطبقة والدين والعرق، وهو أمر شبه مستحيل في عالم السياسة المتصدع والمأزوم اليوم في كل مكان في العالم. لكن هذا هو المستوى الذي يخطئ فيه صديقي. في الحقيقة فأن تستغل الحكومات، جميع الحكومات، الرياضة لخدمة أجنداتها السياسية فإن ذلك لا يعني أن أهدافها يجب أن تمر من دون أن تثير أي جدل أو نقاش. في الواقع لم يحدث ذلك. إن الساحات الرياضية هي مساحات متنازع عليها. ليست مملوكة لحكومة أو شركة أو مطبوعة شهيرة. فكل هؤلاء، بالطبع، حريصون على التحكم في المعاني والعروض الرياضية، وإن أمكن، في نتائج الأحداث الرياضية الكبرى. لكن كل هؤلاء لا يستطيعون القيام بذلك، ببساطة لأن المتفرجين يقاومون دائمًا، ويدافعون عن معناهم الخاص للرياضة، ويعيدون النضال لاستعادة هذه المساحات بطرق تمثل مجتمعاتهم ودولهم بدقة، وبالتالي، تطلعاتهم الشعبية الخاصة. لهذا السبب أحببنا إنجازات المغرب غير المسبوقة في كأس العالم 2022. قد يجرؤ المرء على الادعاء بأنه لا يوجد فريق آخر في تاريخ كرة القدم يجسد كل هذه المعاني المتنوعة والرفيعة مثل المغرب. إن اختيار الكلمات التي استخدمتها وسائل الإعلام لتوضيح إنجاز المغرب كان بحد ذاته يروي قصة أكبر: أول دولة عربية وإفريقية تصل إلى نصف نهائي كأس العالم، وهو كلام ذو مغزى سياسي عميق. لقد اخترنا إبراز هذه المؤشرات المحددة، وليس غيرها، لأنها أثارت الكثير من الأحاديث حول عدم المساواة الحالي الموجود، ليس فقط في الرياضة، ولكن في العالم بأسره في مجالات الاقتصاد والسياسة وغيرها من مناحي الحياة الأخرى. هناك أيضا بعض المعاني الفرعية الأخرى مثل إصرار حارس المرمى المغربي الممتاز ياسين بونو على التحدث بلغته الأم -أي اللغة العربية- في المؤتمر الصحفي عقب فوز بلاده على البرتغال في يوم 10 ديسمبر 2022، رغم أنه يتحدث عدة لغات أوروبية أخرى. بالإضافة إلى ذلك، كانت حقيقة أن اللاعبين حملوا الأعلام الفلسطينية، وركعوا للصلاة بعد كل مباراة، مما يدل على هويتهم الإسلامية.. هذه كلها أمثلة مهمة، ناهيك عن تأكيد الوحدة العربية في جميع أنحاء المسابقة، وهو جهد روج له الملايين من المتفرجين العاديين بدعم من اللاعبين. هذا ليس سوى جزء صغير من القصة. فكل فريق، من اليابان إلى السعودية والسنغال، كان يمثل شيئًا يحمل رسائل شعبية وثقافية وحتى سياسية. ولا يمكن حتى لوسائل الإعلام السائدة أن تتجاهل هذا بسهولة. في مقالها بعنوان: «التلويح بعلم الفريق غير الرسمي لكأس العالم»، تحدثت صحيفة نيويورك تايمز عن كيفية رفع العلم الفلسطيني «بكل مجده». رددت وسائل الإعلام الأسترالية والبريطانية والعديد من وسائل الإعلام الأخرى، بما في ذلك الشركات الإعلامية المنحازة تقليديًا الموالية لإسرائيل، نفس الرسالة. لقد فرضت ملكية الرواية الفلسطينية والحب الحقيقي الذي أظهره الملايين من مشجعي كرة القدم شكلاً جديدًا من تمثيل فلسطين في الخيال الجماعي العالمي: الحب والأمل والقوة والنصر، لمقارنتها بالنمطية والسلبية في كثير من الأحيان، فضلا عن تمثيلات العنف والضحية والهزيمة واليأس. على الرغم من أن الرياضات الأخرى يمكن أن تكون بمثابة مساحة للناس العاديين للتعبير عن تضامنهم الجماعي أو تطلعاتهم، فإن كرة القدم فريدة بهذه الطريقة. على عكس التنس أو الجولف أو الجمباز، على سبيل المثال، يمكن الوصول إلى كرة القدم بسهولة أكبر، ولا تقع في المساحات الاجتماعية والاقتصادية المتاحة فقط للطبقات المتوسطة أو العليا. كرة القدم هي رياضة الفقراء، إذ نشأ أشهر أساطيرها، أمثال بيليه ومارادونا ورونالدو -الآن حكيمي وصلاح وزياش- في مجتمعات الطبقة العاملة المتعثرة والمهمشة. على عكس الرياضات الأخرى، توضح كرة القدم أن الحراك الطبقي والاجتماعي ممكن جدًا. إن السبب وراء احتفال الأخوات ويليامز بأبطال التنس، بصرف النظر عن تألقهم الفعلي في الملعب، هو أن الرياضيين السود، عادةً، لا ينتمون إلى طبقة اجتماعية أو اقتصادية تجعل مثل هذا الإنجاز حدثًا منتظمًا. يمكن قول الشيء نفسه نجم رياضة الغولف تايجر وودز، وبعض الأمثلة الأخرى. سيستمر النضال من أجل تملك معنى كرة القدم، بعد فترة طويلة من طيّ كأس العالم، في كل مرحلة وفي كل حي، من نيروبي إلى الرباط، وصولا إلى برازيليا. نعم، تدور كرة القدم حول الفوز في مباراة أو بطولة، لكنها في النهاية تدور حول شيء أكبر -الوحدة، والأمل، والقوة، والصراعات الاجتماعية، وحتى المقاومة الشعبية. وحتى إن كنا، في بعض الأحيان، نبدو غافلين عن هذه المعاني الدقيقة، فستظل دائمًا موجودة وتعيش دائمًا بيننا وفينا.
مشاركة :