تحاول مصر في السنوات الأخيرة الاعتماد على الثقافة كقوة ناعمة لتخليص المجتمع من الأفكار المتطرفة والفهم المغلوط والانغلاق، علاوة على جعل الثقافة وسيلة تنموية بالغة الأثر، وفي هذا الإطار تسعى وزارة الثقافة المصرية للانفتاح أكثر على الجهات المنسية والمهمشة. القاهرة – انتظمت الدورة الخامسة والثلاثون من مؤتمر أدباء مصر على مدار أربعة أيام، بين التاسع والعشرين من ديسمبر والأول من يناير، بمشاركة عدد كبير من المثقفين والأدباء بعد انقطاع دام عامين بسبب الأوضاع الصحية التي فرضها فايروس كورونا. وتسعى وزارة الثقافة المصرية من خلال المؤتمر للبحث عن صلات وعوامل مشتركة بين المثقفين والفئات المهمشة في محافظة الوادي الجديد (جنوب غرب القاهرة) التي ينعقد فيها المؤتمر لأول مرة. جذب المواطنين حظيت الدورة الأخيرة من المؤتمر، التي اختتمت الأحد، باهتمام العديد من المثقفين المصريين الذين ينتظرون انعقاده كل عام ليلقي الضوء على المشكلات التي تواجهها الحركة الثقافية مع تزايد الأزمات الاقتصادية والفكرية، والتركيز على مستقبل السياسات الثقافية التي تأتي ضمن عناوين الموضوعات التي تتطرق إليها. وحملت الدورة اسم الناقد والمفكر الراحل شاكر عبدالحميد وزير الثقافة الأسبق، وعقدت تحت عنوان “الفعل الثقافي ومشكلة المعنى”، لتتطرق إلى دور المثقفين والتفرقة بين الإبداع والطموح الشخصي ووهم السلطة، والتركيز على المعنى بين سلطة المؤلف والقارئ، لإيجاد صيغة مشتركة يصل فيها الإبداع الفكري إلى قطاعات شعبية مختلفة. بوكس وقالت وزيرة الثقافة المصرية نيفين الكيلاني في تصريحات إعلامية إن مكان انعقاد المؤتمر (محافظة الوادي الجديد) استهدف تحقيق العدالة الثقافية والوصول بالأنشطة والفعاليات إلى المناطق التي ظلت محرومة لفترات طويلة من الخدمات والأنشطة الثقافية، ما يساعد على اكتشاف المبدعين في كل ربوع مصر ودعم مواهبهم. ويؤكد المؤتمر أن محافظة الوادي الجديد ستكون عاصمة للثقافة المصرية في العام 2023، على أن تشهد قرى ومراكز المحافظة في الصحراء الغربية الشاسعة أنشطة ثقافية وفنية، تُلقي الضوء على التنوع الثقافي والتراثي والفني الفريد الذي تتمتع به. وتبرهن الخطوات الثقافية الرسمية أن الحكومة تريد جذب المواطنين لأفكار مستنيرة بعيدا عن التصحر الثقافي في تلك المناطق، والتي اصطحبت معها أزمات أمنية السنوات الماضية، من دون أن تتبنى رؤية محكمة وشاملة تجعلها قادرة على غرس الأفكار التي يقدمها المبدعون والمثقفون في المنتديات والمؤتمرات والأنشطة التي يقومون بها في مناطق متباينة بالدولة، وتبقى عملية الانفصال بين المهمشين والمثقفين مستمرة في ظل تباعد الاهتمامات بين الطرفين. ودائما ما تكون المؤتمرات التي تناقش قضايا أدبية متخصصة، مثل مؤتمر أدباء مصر، قاصرة على المثقفين أنفسهم ولا تجد أصداء شعبية، وقد يقتصر الأمر على الحضور الشعبي للفعاليات الفنية التي تقيمها، لكنها لا تثير نقاشات حول العناوين التي يغوص فيها الأدباء الذين يحرصون سنويا على المشاركة في الملتقى والخروج بتوصيات يتم تقديمها لجهات حكومية تستهدف الارتقاء بأوضاع الحركة الثقافية. ويؤكد الناقد الأدبي مصطفى بيومي أن كلمات “مؤتمر أو منتدى أو ندوة” أضحت سيئة السمعة في الوسط الثقافي لأنها تتكرر في توقيتات وأماكن مختلفة على مدار العام ولا ينتج عنها سلوك مغاير يؤثر إيجابا في الحركة الثقافية، وقد تكون المعاني التي تحملها هذه الكلمات فرصة فقط لتنشيط العلاقات الإنسانية بين المثقفين، وأن الإطارات الموضوعية التي تتطرق إليها المؤتمرات والندوات دائما ما تكون شكلية، الهدف منها إبراء ذمة ثقافي، ويمكن انسحاب الأمر أيضا على المؤتمرات السياسية والاقتصادية. ويضيف في تصريح لـ”العرب” أنه يصعب النقاش حول موضوعات المؤتمر وأهدافه طالما أنه لن يأتي بجديد، لأن التوصيات دائما ما تأتي مكررة على مدار ما يقرب من 40 عاما بلا أثر حقيقي واضح على الحياة الثقافية، وبالتالي فإن المكانة المدنية للثقافة في اهتمامات المواطنين سوف تبقى كما هي دون تغير ولن يحقق المؤتمر أهدافه ما لم تكن هناك رغبة من جانب المثقفين والحكومة في تغيير الوضعية الراهنة. ويشدد بيومي على أن مصر تعاني من تراجع الاهتمام بالثقافة، من جانب المواطنين أو متخذي القرار، وتقبع في ذيل الأولويات بعد المأكل والملبس والمشرب، ويعد الذهاب إلى السينما أو شراء كتاب عملية ترفيه لا يقدر عليها الكثير من المصريين، كذلك الوضع بالنسبة إلى العديد من الأنشطة الثقافية الأخرى، مثل دراسة العمارة والآثار، والتي تحولت إلى رفاهية مع تراجع فكرة القيمة المعنوية وتردي الثقافة بوجه عام. ولا يتعلق الأمر فقط بالمواطنين، لأن هناك أزمة موازية تطرق إليها الكاتب والأديب المصري بيومي تتعلق بتقديم المبدعين الجدد وانتشار ما يمكن وصفه بـ”صناعة النجوم الوهميين” الذين يحققون انتشارا سريعا بفعل ارتباطهم بشلة أو مصالح متبادلة في إطار نفعي يقود لتصدرهم المشهد بلا استحقاق فكري، في حين أن من يقومون بالبحث والإبداع قد لا يجدون مكانا لهم على رأس الحركة الثقافية، ومن ثم يصعب الحديث عن إحداث تأثير إيجابي في مناطق مهمشة. العصف الذهني الفعاليات الثقافية قيمة إيجابية لا على مستوى البيئة الجغرافية التي تقع فيها بل في الأفكار التي تقدمها ومواءمتها للواقع الفعاليات الثقافية قيمة إيجابية لا على مستوى البيئة الجغرافية التي تقع فيها بل في الأفكار التي تقدمها ومواءمتها للواقع تواجه فكرة اعتماد الهيئات الحكومية على تدشين ملتقيات متخصصة في أقاليم ومحافظات عدة اعتراضات من جانب مثقفين يرون أن التقدم التقني خلال العقدين الماضيين لم يجعل هناك حاجة للذهاب إلى مناطق بعيدة بهدف التواصل والبحث عن تدشين صِلات جديدة معهم، وأن المواطنين لن يجدوا صعوبة في الوصول إلى إبداعات المثقفين، فالمشكلة تتمثل في رغبتهم للتواصل مع ما يتم تقديمه، ومدى ملاءمة المحتوى الإبداعي لأفكارهم والبيئة الثقافية من عدمه. وهؤلاء يرفضون المصطلحات المعلبة من قبيل “أدباء الأقاليم” ويعارضون فكرة ضرورة البحث عن المبدعين المدفونين في تلك المناطق، لأن الوضع تغير وهناك العشرات من الأدباء استطاعوا الوصول بإبداعهم إلى قطاعات واسعة من المواطنين والمثقفين وانتقلوا بعد ذلك من محافظاتهم إلى العاصمة أو لم ينتقلوا، لكن أعمالهم وقيمتها الإبداعية استطاعت فرض نفسها، وبينهم الكاتب والمؤلف جارالنبي الحلو والروائي فؤاد حجازي والأديب مصطفى نصر والكاتب يوسف فاخوري وغيرهم. في المقابل، تشكل الفعاليات الثقافية قيمة إيجابية ليس على مستوى البيئة الجغرافية التي تقع فيها، لكن على مستوى العصف الذهني للخروج بأفكار تتماشى مع الواقع الثقافي والتعامل مع المشكلات المحيطة بالمثقفين، وهو ما يشكل هدفا رئيسيا لمؤتمر أدباء مصر بعيدا عن الأهداف الرسمية التي تسعى إليها وزيرة الثقافة. ويشير الناقد الأدبي محمد عبدالباسط عيد إلى أن إمكانيات المؤتمر تتحكم في قدراته ونتائج ما يتوصل إليه على مستوى قدرته على طرح موضوعات تتواصل مع الجمهور العام والتخفيف من القيود التي تضع حوافز بين المثقفين والجماهير، والميزانية المحدودة للغاية، ومدى قدرة المثقفين على التواصل مع الناس، وأن قدرة المؤتمر على الاستمرارية طيلة هذه السنوات أكدت أن لديه ما يقدمه، وإن كان المردود ضعيفا. ويذكر في تصريح لـ”العرب” أن المؤتمر يحقق لفت الانتباه إلى محافظة ليست ضمن اهتمامات الكثيرين ويتيح التعرف على الثقافات الشعبية بها، ويعبر عن حقيقة راسخة وهي أن المثقفين المصريين لا يتوقفون عن الصراخ في الفراغ العام مطالبين بإيجاد مسارات تجديد للسياسات الثقافية، لكنها في النهاية تبقى مجرد مقترحات وإن وصلت إلى مرحلة وضع الإستراتيجيات العامة سوف تبقى متاحة أمام الجميع في الفضاء الإلكتروني ضمن أساليب التوعية التي تعد هدفا رئيسيا للمثقفين. وتبلورت فكرة مؤتمر أدباء في العام 1983 بعدما تقدم محمد الجمال مدير إدارة الثقافة العامة في وزارة الثقافة المصرية بطلب لتدشين وعاء ثقافي يناقش أزمات الحركة الثقافية لتنعقد أولى دوراته في العام 1984 ورأسها الأديب الراحل شوقي ضيف ليخرج مؤتمر أدباء مصر بتوصيات مهمة.
مشاركة :