ليس بالزمن البعيد عندما كانت الخطابات المتشددة تعتبر فكرة الديمقراطية هي وأخواتها الماسونية والشيوعية والبعثية حركات شيطانية تهدف إلى اختراق الأمة وثوابتها وبث الفساد وإعلاء كلمة الطاغوت, وقد كتب في هذا السياق الكثير أذكر منه كتابا صدر عن المنظمة العالمية للشباب الإسلامي تحت عنوان( موسوعة المذاهب الفكرية المعاصرة ) , أيضا مازلت أذكر زميلة عمل كانت تعتب وتستاء لأن كلمة الديمقراطية قد وردت في مقال لي ..... دون أن تحدد السياق الذ ي وردت فيه أو الفكرة التي عبرت عنه, مجرد وجودها كان يحاصر بحمولة ثقيلة من الرفض والصدود. الأمر الذي بات يشكل مفارقة الآن بعدما أن أصبحت الديمقراطية المطلب الأول لجميع التيارات والتوجهات وعلى رأسها الأحزاب الإسلامية في العالم العربي . بل أصبحنا نفاجأ بالكثير من رموز التيار الديني الذين عرف عنهم التحفظ والاسترابة ضدها, على النقيض من ذلك باتت مفردة الديمقراطية والاحتكام إلى صناديق الانتخابات في العمل السياسي ....تهيمن على خطابهم الوعظي. المفارقة هنا أن الديمقراطية في العالم العربي هي تيار مستنبت طارئ ولم ينبثق عن تجربة سياسية أوممارسة اقتصادية اجتماعية خاصة بنا, فثقافتنا مابرحت يغلب عليها الأطر الاستبدادية والأحادية . داخل ثقافتنا لم تحدث القطيعة الجذرية بين النظام (الثيوقراطي) وفكرة المدنية التعاقدية التي تولدت الديمقراطية عنها ويقول الفيلسوف الأمريكي (وليم جيمس) 1842 -1910(إن الديمقراطية لايقسرها أي قانون ثابت فحقيقتها من طبيعة الحدث, وهي تتهيأ وتعيد تعريف نفسها باطراد مع ظهور نتائجها). لذا عندما وصلت الأحزاب التي تجعل لنشاطها السياسي غطاء دينيا, تلاشى الخطاب الديني المناهض للديمقراطية وعفا الله عما سلف وتحولت الديمقراطية بين أيديهم إلى عقيدة تحمل صفات السكونية والثبات, بجميع استنتاجاتها القسرية, وحقائقها القطعية. وفي مصر مثلًا باتت صناديق الانتخابات هي تابو مقدساً لايأتيه الباطل من خلفة أو من بين يديه أي انه صار ذاتاً مقدسة لايخضع للاستجواب أو يستجيب لتحولات الإرادة الشعبية التي هي المصدر الأول للشرعية !! بعد عام من الفشل الذريع لحكم الأخوان هم يرفضون الانتخابات المبكرة لأن نتائج الصناديق السابقة لديهم أحيطت بهالات القداسة التي يمنحها عادة النظام الثيوقراطي لرموزه. بينما الديمقراطية هي صيرورة وتحول هي ابنة لرأس المال والمصنع البرجماتي الذي يحتاج دوما لمغامرة راديكالية تلبي المتطلبات الشعبية ودائما غايتها تبرر وسيلتها ... يقول أيضا الفيلسوف وليم جيمس وهو فيلسوف البرجماتية - الذرائعية - ( ليس في النظام الديمقراطي اي نموذج كامل يعلو على الواقع كي يلقن معايير غير ملموسة فالسياسة في الديمقراطية هي دوما قيد التكوين). في مصر تحولت الديمقراطية إلى عقيدة .. تقسم التيارات السياسية مابين أخيار/ وأشرار , كفار/ ومؤمنين, خلط المقدس بالسياسي لاستقطاب العامة والسذج مع غياب المشروع التنموي, وفشل في الأداء السياسي ...وكمية كبيرة من التنظير العاجز عن الانتقال إلى مرحلة التطبيق . يقول الكاتب المصري ثروت الخرباوي وهو أحد القيادات التي انشقت عن حزب الأخوان في كتابه (سر المعبد) ( أن سبب تسميته كتابه بذلك يرجع إلى أن تنظيم الأخوان من الداخل يشبه معبدا لأحد الديانات السرية الغنوصية الغامضة التي تسعى إلى السيطرة والاستئثار بالسلطة مختبئة خلف شعارات إسلامية هي عاجزة عن تطبيقها). بينما الديمقراطية هي خطة تنفيذية تشغيلية , هي ممارسة تؤمن بالتحول والتبدل , هي قابلة للاستجابة والتطور والتأقلم مع جميع المفاجآت, لذا عندما نزل المصريون كلهم إلى الشوارع من جديد رافضين حكم الأخوان لمصر , إنما كانوا يمارسون حقهم الديمقراطي في العصيان المدني ضد حكومة قادت اقتصاد مصر إلى الانهيار الشامل .... الديمقراطية هي صيرورة براجماتية تستجيب لتغيرات الواقع ...وليست عقيدة مؤزلة كما يحاول تنظيم الأخوان أن يجعلها.
مشاركة :