تصريحات الأمير هاري ابن الملك تشارلز الثالث عن «قِطع الشطرنج» التي لم يندم على تحطيمها في جولته العسكرية في أفغانستان تتفاعل في بريطانيا والعالم. هي ليست خارج سياقها، وغير صادمة لكثير من الناس في الغرب والشرق، إذ هي امتداد لغوانتنامو، وسجن أبو غريب، وأحد أعراض العلاقة المأزومة بين المسلمين والغرب. اجتهد المسلمون منذ عام 2001م لتحسين صورتهم الذهنية عند غير المسلمين من الغربيين، وأجروا تحديثات عميقة في مناهجهم الدراسية وأسرفوا في الترويج للاعتدال والتسامح لدرجة الذوبان حباً في الآخر، لكنني لم اطلع حتى الآن على دراسة جادة تقيس حجم التغير الإيجابي في وجهة نظر الآخرين عن المسلمين. المشكلة تعود في جذورها إلى المقولة الخالدة «الشرق شرق والغرب غرب»، وفي القناعات المتأصلة التي نفرق فيها بين بني البشر من أناس «يشبهوننا» إلى أناس لا يشبهوننا»، ولا أريد في هذه المرحلة أن استدعي النصوص الدينية لدى الطرفين التي تؤطر العلاقة على أسس عقدية. لا أحد بريء، ولكن هناك من لديه القوة على فرض وجهة نظره، والضعيف الذي يجتر الشكوى ويجأر بالمظلومية. في دراسات استطلاعية ليست حديثة، وغير منتهية الصلاحية أيضاً يعتقد ما بين 53 إلى 68 % من المسلمين أن الغربيين أنانيون، عنيفون، جشعون، مغرورون، متطرفون وعديمو الأخلاق، في مقابل ما بين 29 إلى 44 % يرون احترامهم للمرأة، وأنهم أمناء، متسامحون، وكرماء. ويعتقد 58 % من الغربيين أن المسلمين متطرفون، و51 % يرونهم أمناء، و50 % يرونهم عنيفين، ويرى 30 % أن المسلمين متسامحون، أما احترام المسلمين للمرأة فلم يتجاوز 22 %. هناك ساحات اشتبك فيها الغرب مع المسلمين منذ الفتوحات الإسلامية مروراً بالغزوات الصليبية، فالاستعمار وانتهاء بتحميل العرب والمسلمين وزر الإرهاب نتيجة التفجيرات الانتحارية والمفخخات التي نفذها عرب ومسلمون في عواصم ومدن غربية أدت لاحقاً إلى احتلال العراق وأفغانستان والاشتباك المباشر بين العرب والمسلمين في ذينك البلدين مع الجيوش الغربية، مما صبّ المزيد من الزيت على نار الاختلافات الدينية والحضارية والعرقية المتأصلة بين أتباع الطرفين. بريطانية كبيرة في السن بدت متحفزة وهي تتعامل معي في إحدى القرى وسط إنجلترا، وتتحدث إلي بنصف وجه، وسألتني متوجسة: «هل عندك عائلة؟» وفهمت من نبرة صوتها أنه لم يكن سؤالاً استفهامياً وإنما استبعادياً. وعندما أجبتها بأن لدي عائلة، التفتت إليّ بكامل وجهها وبدأت تتحدث معي كإنسان طبيعي. أن ينظر طرف إلى آخر، في هذين المعسكرين، بأنه طبيعي هو الهدف الذي يجب أن تسعى إليه العلاقة بين العرب والمسلمين من جانب، والغربيين على اختلاف مللهم من الجانب الآخر. القفز إلى القبول والتعايش والأخوة الإنسانية لا تزال أهدافاً بعيدة، على الرغم من الرغبة الصادقة من العقلاء وبذل أطراف إسلامية كرابطة العالم الإسلامي جهوداً كبيرة، لكن المعوقات المتأصلة في الوعي، ونوازع التباين المتجذرة في الأفهام تحول دون تحقيق نتائج ترتقي إلى مستوى الجهود المبذولة. بحسب موقع بيو البحثي؛ «تعتقد الأغلبية في إسرائيل (63 %)، وإسبانيا (63 %)، وألمانيا (59 %)، والولايات المتحدة (54 %)، وبريطانيا (52 %)، أن بعض الأديان أكثر ميلاً إلى عنف من الآخرين. وعندما يُسأل أولئك الذين يتشاركون هذا الرأي عن الدين الذي يعتقدون أنه الأكثر عنفًا، فإن الأغلبية الكبيرة في كل من هذه البلدان تسمي الإسلام». المسلمون من طرفهم لا يستطيعون (تديناً) وصف اليهودية أو المسيحية بأنهما أو أحدهما دين عنيف لأنهم يؤمنون بالدينين ورسلهما وأنبيائهما، وهذا خلاف جوهري بين أناس ينطلقون في حكمهم على الآخرين من منظور ديني (المسلمون) وآخرون يبنون رأيهم في المسلمين على العرق الذي يجمعهم (العرق الأبيض) وعلى القيم المشتركة فيما بينهم (الليبرالية، العلمانية، الديموقراطية، الحريات حقوق الإنسان). الاصطفاف الغربي مع أوكرانيا ليس من أجل المصالح فقط، إنه اصطفاف عرق إلى بعضه، وقيم تدافع عن وجودها المهدد، ولذلك ظهرت تصريحات من إعلاميين ونخب سياسية غربية تصف المهاجرين الأوكرانيين بأنهم يشبهون بقية جيرانهم في أوروبا الشرقية والغربية، على عكس المهاجرين القادمين من الشرق الأوسط الطارئين على العرق والبيئة البيضاء وقيمها المشتركة. تصريحات الأمير هاري هي إحدى انتكاسات مسيرة التقارب المتعثرة وغير المتكافئة في جديتها بين الطرفين، وبطون الكتب حبلى بالصور النمطية في كل معسكر عن الآخر، والجهود التي تبذلها الدول العربية وبخاصة المملكة في الانفتاح على الآخر ترسل رسائل مكثفة وصادمة للعقلية الغربية التي تحولت نخبها من ناقد للانغلاق السعودي الذي يمثّل، في وجهة نظرها، الإسلام بعمومه، إلى حواجز صد دون وصول الرسائل السعودية للرأي العام في المعسكر الآخر، بل إن بعض حراس البوابة الغربيين تحولوا إلى وعاظ ينذرون بالويل والثبور وعظائم الأمور من تفريط السعودية في دينها، حسب زعمهم.
مشاركة :