فرضت السلطات حظر التجوال في تونس، بعد أيام من احتجاجات اجتماعية لم يسبق لها مثيل منذ ثورة 2011، طالت عدداً من المدن، وامتدت حركة الاحتجاج على البطالة والتهميش إلى العاصمة، التي شهدت أيضاً أعمال حرق ونهب، وسط تخوفات من تفاقم الأزمة بعد تراجع الثقة في السياسيين، وفقدان الأمل في تحسين الأوضاع المعيشية للتونسيين، في الذكرى الخامسة للثورة. وتعيد الاحتجاجات الحالية إلى الأذهان أحداث الثورة التي أطاحت بحكم الرئيس السابق، زين العابدين بن علي، كونها تحمل المطالب الاجتماعية نفسها. مخاطر وتحديات قبل خمس سنوات، بدأت أول انتفاضة شعبية في العالم العربي في تونس، وجلبت معها آمالاً كبيرة، لكنها أشاعت الفوضى أيضاً. ويبدو أن الحروب الأهلية التي تعصف ببلدان عربية، مثل سورية وليبيا، قد أثرت سلباً في تعافي تونس من أزمة سياسية واجتماعية مزمنة. ويصف مراقبون التحول الديمقراطي في هذا البلد بالصعب والمحفوف بالمخاطر والتحديات، ولو أنها استطاعت عبور المرحلة الانتقالية ببعض النجاحات، إلا أن خطر الإرهاب يتهدد تونس. ويقول محللون غربيون إن مشكلة تونس تكمن في بناء الثقة بين السلطة والشعب، إذ يتفشى الفساد بقوة في مؤسسات الدولة، ما يجعل التنمية في المناطق المعزولة مستحيلاً. ويعتقد الحبيب زيتوني، وهو خبير سياسي تونسي، أن المصالحة مع رموز النظام السابق زادت الطين بلة، والعفو عن الفاسدين كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. ولا يستبعد مراقبون حصول تعديلات حكومية عميقة وتحالفات سياسية جديدة من أجل تهدئة الشارع التونسي. وفي ذلك يروي الصحافي الفرنسي، ماتيو غالتييه، الذي زار تونس أخيراً، عن أحد المحتجين، الذي التقاه مع شباب آخرين وهم يتدافعون أمام مركز ولاية القصرين من أجل تسجيل أسمائهم والمؤهلات، بطلب من السلطات، على أمل الحصول على وظيفة، قائلاً إنها محاولة لتهدئتنا ولكننا لن نفعل. ويأتي ذلك في وقت نفت الحكومة التونسية ما أعلنته سابقاً عن استحداث 5000 وظيفة جديدة. لاتزال البطالة في تونس مرتفعة جداً، خصوصاً بين الشباب، بنسبة تزيد على 30%، ومع مرور الوقت تراجعت شعبية الحكومة التي عجزت عن تحقيق نمو اقتصادي، وتحسين ظروف الشباب. ويقول مراقبون إن حزب نداء تونس الحاكم على وشك الانفجار. وفي ذلك يقول المحلل السياسي، سليم خراط، إن الطبقة السياسية في البلاد تهدر طاقتها في جدال سياسي عقيم، موضحاً لم يتمكن أي حزب سياسي من أن يطور رؤية جديدة لتونس في المستقبل. ولم تسمح الظروف السياسية ببروز حركة شبابية، على غرار ما حصل في إسبانيا عام 2008، عندما عصفت بها أزمة سياسية حادة. تتشابه صورة الشاب التونسي، رضا يحياوي، الذي توفي في القصرين قبل أيام، وما تلاها من موجة احتجاجات تطالب بالتنمية والتشغيل؛ مع صورة البوعزيزي الذي حرق نفسه في سيدي بوزيد في 2010، وعمت على إثرها الاحتجاجات ورفعت المطالب نفسها، ونادت بإسقاط النظام. لا شيء تغير منذ الثورة في القصرين وسيدي بوزيد، وفي عدد من المناطق التي تعاني أوضاعاً اقتصادية واجتماعية صعبة، فالحال كما هي قبل نحو خمس سنوات، كما يقول أهالي المنطقة. وذلك على الرغم من التغييرات التي طرأت على الطبقة السياسية، وألوان الأحزاب الحاكمة، وتعاقب الوزارات. ويتساءل كثيرون في تونس عن سبب إخفاق الثورة في تحقيق أهدافها، وعلى رأسها تغيير ملموس في حياة الناس اليومية. غضب الثورة ويرى محللون أن الشباب الذي صنع الثورة، وانتفض ضد الظلم والفساد مطالباً بالحرية وفرص العمل، وجد نفسه اليوم خارج المشهد السياسي، من دون دور في العجلة الاقتصادية. فالمشهد العام ما بعد الثورة، لاتزال الوجوه القديمة تواصل التحكم في دواليب الدولة، وتبسط نفوذها داخل الأحزاب. ويقول المحلل السياسي في المعهد الملكي للقضايا الدولية شاتام هاوس، ديفيد باتر، إن ما تحتاج إليه تونس هو خطة للحفاظ على اقتصادها ومنعه من الانحراف عن المسار الصحيح. ويعتقد الخبراء أن بإمكان تونس التعافي من عدم الاستقرار الحالي، وتجاوز غضب ثورة لأن الوضع كان في حالة جيدة من منظور الاقتصاد الكلي. فقد كان معدل التضخم منخفضاً، وكانت لدى البنك المركزي احتياطات عملة لمدة ثلاثة أشهر، وكان الاقتصاد ينمو بمعدل مقبول سنوياً. وحتى مع الاضطرابات الناجمة عن الثورة لايزال البنك الدولي يتوقع أن تنمو تونس بنسبة 1% عن العام الماضي. يلاحظ مراقبون عزوف الشباب عن المساهمة في الحياة العامة، نظراً إلى فقدانهم الثقة بالمؤسسات الحكومية والأحزاب، فهذه المؤسسات ليست لديها سمعة جيدة بسبب ماضيها السيئ. ويقول الشاب الجامعي، لطفي بوعلي، إن هذه المؤسسات هي ثمرة عشرات السنين من السلوك الحكومي الخاطئ والفاسد، معتبراً أنه ليس من السهل استعادة ثقة الناس بمؤسسات الدولة، وبالتالي يتعين على المسؤولين بذل جهود هائلة لاسترجاع الثقة المفقودة، تاركين الوعود والخطب السياسية جانباً، ويضيف الشاب التونسي عليهم العمل بصدق لإخراج بلدنا من هذا النفق المظلم، لأن استمرار الوضع على ما هو عليه سيؤدي إلى عواقب غير محمودة. في ما يخص العمل السياسي، هناك حاجة إلى ديمقراطية حقيقية داخل الأحزاب، واستيعاب تدريجي للشباب في المنظومة السياسية، حتى تتعزز مبادرات إشراكهم في إدارة الشأن العام بشكل فعلي. في ولاية القصرين، مكان العمل الرئيس الوحيد هو مصنع الورق القديم، الذي يوجد في وسط المدينة، وهو مصدر للغازات السامة وآلاف الغالونات من المواد الكيميائية الضارة التي تصب في المجاري وتنتهي في الأراضي الزراعية. ويقول الشاب التونسي، عمار بوطيفي (27 عاماً) نشعر كأنه لا شيء تغير بعد الثورة، مضيفاً في الواقع، أصبح الوضع أكثر سوءاً. وعود كاذبة تكرر سيناريو الاحتجاجات في البلاد مرات عدة في السنوات الأخيرة، ابتداء من احتجاجات عام 2008 في منطقة التعدين بولاية قفصة، وقد دمرت الهجمات الإرهابية، التي استهدفت السياح في المتحف الوطني، باردو، في تونس، ومنتجع شاطئ سوسة، العام الماضي، قطاع السياحة، الذي يعتمد عليه نحو 20% من السكان بشكل مباشر. أما الأموال التي خصصت لمشروعات الأشغال العامة في القصرين، بعد ثورة 2011، فسرعان ما اختفت مع القليل من النتائج الملموسة. لقد وعد الساسة بإنشاء طرق ومستشفيات جديدة، لكنّ عدداً قليلاً من المشروعات تحقق على أرض الواقع. في العامين الماضيين، ظهرت مشكلة جديدة، تتمثل في الجماعات المسلحة التي كانت تنشط سابقاً في شمال مالي. فقد انتقلت إلى جبال الشعانبي الوعرة المطلة على القصرين. وباتت المنطقة تشهد تمرداً، على مستوى منخفض، منذ ذلك الحين، إذ تقوم المجموعات المسلحة في مدينة القصرين بهجمات متكررة على قوات الشرطة، كما تواجه تونس تحدياً لا يقل خطورة عن عدم الاستقرار الاجتماعي، فالاضطرابات في ليبيا توشك أن تتسرب إلى تونس، مع تبني تنظيم داعش المتطرف للهجمات الإرهابية في تونس، العام الماضي. وفي غضون ذلك يبدو السكان المحليون قد اعتادوا على حالة عدم الاستقرار. مثل كثير من أصحاب الأعمال الصغيرة، حزمت سعيدة الظاهري، وهي صاحبة متجر للملابس النسائية، بضائعها، الأسبوع الماضي، خوفاً من النهب، ومع ذلك تقول الظاهري على الرغم من الفوضى في الأيام الأخيرة، أنا أؤيد الاحتجاجات السلمية للمطالبة بفرص العمل، ويشكل الاضطراب الاجتماعي تحدياً كبيراً لحكومة رئيس الوزراء، حبيب الصيد، الذي استنفر أعضاء حكومته، كما أنه يمثل تحديا للديمقراطية التونسية الناشئة. ومع ذلك فإن أهالي القصرين والولايات المحرومة الأخرى لا تنتظر تغييراً وشيكاً.
مشاركة :