قصيدة خلود المعلا تمارس حريتها من نافذة بعرض العالم

  • 1/25/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

أصدرت الشاعرة خلود المعلا خمسة دواوين حتى الآن كما تقول مدونتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وأبرز ما يميز قصائدها الانتماء إلى ما يعرف بقصيدة النثر، وهذه القصيدة كما هو معروف تفتقر الى الموسيقى الخارجية التي يحققها انتظام التفعيلات في البحور الشعرية، وإذا ذهبنا الى أن ما تكتبه خلود ينتمي إلى الشعر فلا بد من تسويغ هذا الموقف، ولسنا هنا بصدد معرفة كيفية انتماء النص النثري إلى الشعر بل كل الذي يهمنا مستوى الشعرية التي استطاعت من خلاله الشاعرة المعلا تحقيق الجنس الأدبي، ولكي نتجه بتحليلنا الى الهدف الدقيق لابد من الإشارة الى أن خلود المعلا تعتمد على القصيدة القصيرة، وتعتمد على الضربة في نهاية القصيدة أو كما يطلق عليها أصحاب نظرية التلقي بكسر التوقع، وتعتمد الاسترسال بالفكرة أحيانا ثم تنحرف به بشكل مفاجئ لتحقيق الضربة الشعرية في نهاية القصيدة، وهذه الضربة هي الأثر المتبقي من القراءة عند المتلقين. لكي نكون على تماس أكبر مع قصيدة خلود نحلل نصاً بعنوان (أنا حرة) من ديوان (دون أن أرتوي) وهذا الديوان عبارة عن قصائد مختارة تمثل خلاصة تجربة المعلا السابقة، في البدء لابد من الإشارة إلى أن العنوان يمثل موقف الشاعرة من الشعر وتمام الحرية يعني التمرد على كل ما يعيق الذات من تحقيق وجودها في هذا العالم سواء كان ذلك الوزن الشعري أو الانتظام أو التوازن، وتعلن القصيدة من العنوان حتى النهاية تمردها على كل شيء يقف حائلاً دون تحقيق الذات، هذه النتيجة هي خلاصة قراءة النص الأولية وهي الانطباع الأول للعنوان الذي سرعان ما يدخل القارئ في متاهات لعبته وصولاً الى المفارقة، فالحرية المطلقة تعني اكتمال الذات و تحرر رغباتها من دون وجود عوائق تحبط إرادتها في الفعل والممارسة، لذلك حين تفتتح خلود النص تبدأ من معنى (الحرية) وتشير إلى أن الحرية التي عرضها السماء هي التي تحياها ثم تتبعها بمفردة هكذا وهي مقابلة في الدلالة لحالة (كما أشاء أنا)، يقول المفتتح: أمارس شغفي بعرض السماء هكذا حرة تماماً، في هذا الافتتاح هناك تقرير لحالة الحرية الكاملة. والنص هنا بدأ بالنتيجة التي مفادها أن الذات وصلت إلى ذروة الخلاص من الآخر حتى أصبحت مكتملة الحرية، وإذا كانت هذه النتيجة هي التي يريد النص إيصالها الى المتلقي، فما جدوى ما تبقى منه، هل يفصل في قول الحرية أم أنه يعيد ترتيب الأشياء من جديد؟، إن التفصيل إذا ما تحقق في النص فعلاً فإنه سيصيب القارئ بالملل حتماً، لكنه يبدأ لعبته مع القارئ بعد لحظة الإقرار حيث ينحرف فكر المتلقي الى قضية خارج التقرير المؤكد يقول النص: حرة تماماً أنظر من نافذتي الضيقة فأرى الكون كاملاً تتجلى أسراره الكبرى، في هذا المقطع يتحول التقرير الى علاقة جدل ليس بين الذات والآخر المقابل فحسب بل مع الكون كله أو الوجود كله، إذ يُدخل النص قارئه في لعبة النقصان/الكمال، فالنافذة الضيقة (التي لا تكتمل) لا تحجب كلية الأشياء (كمالها)، لأن هناك مجموعة من الحواس والأحاسيس هي التي ترى (إنها لا تنظر فقط بل ترى وتحس وتحلل وتعلل) لذلك فالمساحات الضيقة يمكن لها أن تكون عالماً متكاملاً بمؤدياتها (نتائجها)، وذلك من خلال العلاقة الآتية: نافذة ضيقة + كون كامل = وجود.. في هذه العلاقة غير المتوازنة في إضافة النافذة الضيقة إلى الكون الكامل يحاول النص التعبير عن حرية الذات في رؤية الأشياء بطريقة تختلف عن الآخر لذلك يأتي المقطع اللاحق ليعبر عن هذه الحرية الكاملة التي تتصرف بالأشياء كما تشتهي: هكذا حرة تماماً، وهنا تأكيد واضح لمعنى الحرية، ويتبع هذا التأكيد إصراره على الكمال. يقول النص: حرة تماماً ألون تفاصيلي الصغيرة بلون الثلج، أتصالح مع اللحظة التي تدخلني لذة الأشياء، إذاً هناك لحظة فيها اختلاف وهذا الاختلاف لا يؤدي الى لذة الأشياء وهو لا يدخل في كمال الحرية، لهذا تنبذ الشاعرة الاختلاف لكي تتصالح مع ذاتها والعالم الكلي والاختلاف هو المسكوت عنه في النص الذي لم يصرح به لكنه متضمن في معنى التصالح، ولكن أين يحدث هذا التصالح؟ إنه يحدث في المحدود الذي يرنو الى الكلي المطلق. وهذه الحقيقة يوضحها المقطع اللاحق بقوله: من نافذتي الضيقة أنعم بالتمدد وسمائي مبللة بالحياة، في هذا المقطع هناك عالم واقعي ضيق لا يجعل الأشياء مطلقة وكلية، وهنا تكمن لعبة النص مع قارئه لأنه يحاول إيهامه بغير الممكن على أنه ممكن، وذلك من خلال إقامة معادلة بين طرفين غير متعادلين في القيمة والنتائج، بين طرفين متناقضين، وتأتي محاولة معادلة الأشياء غير المتوازنة في النص لتزلزل أو ترجرج قناعات المتلقي الثابتة وبديهياته في الحياة. وهذه البديهيات والقناعات منطلقة من فكرة مفادها أن التوازن يعني علاقة بين المتكافئين وأي خلل في أحدهما سوف يلغي فكرة التوازن وهذه البديهية عرفتها البشرية منذ وقت مبكر وأنتجت فكرة الميزان في ضوئها، لكن النص يخلخل هذه الثوابت عند متلقيه على الرغم من عدم إعلانه أو تصريحه بتلك الأشياء التي زحزحت القناعات عن موضعها المستقر، هذه العلاقات هي المسكوت عنه الذي تحرك في علاقات النص القصير هذا ولكن المسكوت عنه مكتشف من خلال المعادلات الآتية: النافذة الضيقة = الكون الكامل (أي أن كمال الكون لا يتحقق إلا من خلال النافذة الضيقة)، أما المعادلة الأخرى فهي على النحو الآتي: النافذة الضيقة = التمدد في الكون، وهذه المعادلة تنطلق من فكرة المعادلة السابقة ولكن بكيفية أخرى ينتجها فعل التمدد. في المقطع الأخير الذي يبدأ من (سمائي مبللة بالحياة) يحاول النص إنتاج لعبة تكمل وتتكامل مع اللعبة الأولى، ففي مقطع السماء المبللة بالحياة وما يتبعه من تفاصيل تبدأ الحرية تعطي ثمارها ويفصح النص أن هناك لعبة يريد أن يمارسها في الحياة، بقوله في المقطع الأخير: وسمائي مبللة بالحياة أمارس ولعي بقطف ثمار وجودي عارية من إصاباتي القديمة، عارية من الصمت المفرط حولي حرة تماماً، في هذا المقطع ارتفع النص بشعريته وأصبحت العلاقات في نسقه متضمنة المجاز والاستعارة والكناية، ولع في القطاف، عارية من الإصابات والصمت، وحقق فعل التعري هنا شعرية السطرين، أما في السطر الذي يقول: (أمارس ولعي في قطف ثمار وجودي) فهناك إشارة قريبة من فكرة (أمارس لعبة وجودي)، فالوجود المثمر في النص عندما تكون الذات حرة تماماً، وعندما تتجاوز كل الأخطاء القديمة التي عوقت حريتها (عارية من الأخطاء والصمت) وهنا تصبح لعبة النص واضحة الى الحد الذي يستقر فيه المتلقي على فكرة أن الذات تسعى للكمال من خلال كل ما يمكن تسخيره لهذا الغرض، لكن السطر الأخير يحدث المفاجأة ويكسر التوقع ويصدم المتلقي بثغرة جديدة ربما تعيده الى دورة جديدة في النص، وهنا أصبح التصريح بليغاً الى الحد الذي أعاد القارئ مرة أخرى الى بدايات النص، يقول السطر الأخير: (كي لا أكتمل)، أي كل الذي حدث قبل هذا كان وهماً اسمه الاكتمال لا يمكن تحققه وإذا ما تحقق فإن هذا يعني نهاية الأشياء لأن الشعور بالاكتمال وهم وليس حقيقة، لأننا كلما اكتشفنا جديداً تصبح هناك حاجة للمزيد فالأسئلة تكبر وتتعقد وفيها يكمن سر استمرار الوجود. وفي هذا السطر حقق النص مفارقته بعد تصاعد شعريته في لعبة أتقنت مجرياتها الشاعرة خلود المعلا، لقد فضح المقطع الأخير سر اللعبة في النص فالنافذة لم تكن المكان الذي نرى من خلاله الأشياء بل كانت الروح، ولم تكن السماء هي الكلي المطلق الكامل بل كانت موضع اكتشاف الروح وحريتها لأن التجربة أثبتت أن الاكتشاف يعني المزيد من الحاجة لاكتشافات جديدة فهذا الكون مليء بالأسرار ولا يمكن لذات مفردة أن تكتشفه وحدها، هذا النتيجة هي التي جعلت السياق الشعري في المقطع الأخير يتخلى عن لا زمته (هكذا) ففي السطر قبل الأخير يقول النص (حرة تماماً) من دون أن أن يسبقها ب (هكذا) لأن الوظيفة هنا تغيرت، فالكمال خرافة، فالاكتشافات هي في حقيقتها أسئلة جديدة عن معنى الوجود ومعنى الحرية وهي عناصر تشعرنا بالنقص إزاء المطلق وليس بالاكتمال، وتقترب هذه من فلسفة التصوف ولكن بالشعر.

مشاركة :