وصل «كرنفال البندقية» إلى لبنان قبل أن يحط رحاله في فينيسيا حيث ينطلق رسميا هناك في الثلاثين من الشهر الحالي ويستمر لمدة أسبوعين. المهرجان الشهير بأغنياته الشعبية وموسيقاه الكلاسيكية وملابسه الخلابة، حلّ ضيفًا على «مركز الصفدي الثقافي» في طرابلس مساء الخميس الماضي، ومن ثم في «الجامعة اليسوعية» في بيروت مساء أمس، حيث رافقت الفنانين عزفًا «الأوركسترا الوطنية اللبنانية». في طرابلس غصت الصالة بالحضور، اضطر المنظمون لإضافة ما يناهز 100 كرسي لاستقبال الراغبين في التعرف على جانب من هذا المهرجان السنوي الذي يقصده عشرات آلاف السياح كل سنة، ولم يخيب الفنانون ظنهم. طرابلس التي لقبت بـ«قندهار» قبل سنوات قليلة فقط، جاءت بكبارها وصغارها، تحتفي بالموسيقى الكلاسيكية، وإبداعات عصر الأنوار في أوروبا، من خلال الحفل الذي نظمه «مركز الصفدي الثقافي»، بالتعاون مع «المعهد الثقافي الإيطالي» و«مؤسسة دانتي اليغييري» في جولة شتائية لهذه الفرقة التي تحمل تراث البندقية وتجول به خارج إيطاليا، تحية لمدينتهم وتقاليدها، وإحياءً لموسيقاها وملحنيها. مقطوعات موسيقية كتبت على شرف المدينة، ومن وحي أجوائها الرومانسية المتفردة، وأخرى كتبها مؤلفو البندقية أو موسيقييها الذين تصدروا لائحة الأشهر والأكثر مهارة في العالم، ولا تزال أعمالهم مشتهى العازفين ومتعة للذواقة. شارك في الحفل الموسيقي الأوبرالي، كل من السوبرانو تيريزا دي باري والعازفين جيانا فراتا على البيانو، ودينو دي بلما على الكمان، مرتدين الأزياء التي اشتهرت بها البندقية في القرنين الثامن والتاسع عشر. مع الشهير فيفالدي بدأ الحفل. النابغة ابن فينيسيا الذي كتب أروع المقطوعات، كان حاضرًا بأشهرها على الإطلاق وهي مقطوعة «الفصول الأربعة». ومن خلال حوار بين البيانو والكمان التي أشبع أنغامها العازف دي بلما غنجًا ورقة، انطلق الحفل. تناوب الموسيقيان على البيانو، والكمان، لمرافقة السوبرانو التي غنت ومثلت، وبدت متألقة بفستانها الوردي الذي أعادنا إلى القصور البرجوازية في البندقية قبل 300 سنة خلت. أجادت عازفة البيانو جيانا فراتا، وهي أيضًا التي قادت الفرقة الوطنية اللبنانية أمس في الجامعة اليسوعية. أجادت الفنانة ليس في العزف فقط، بل حين أخذت على عاتقها، وبإنجليزية، بذلت خلالها جهدًا كبيرًا، لتشرح حكاية كل مقطوعة موسيقية وفحوى كل أغنية قبل البدء بها. استمع الحضور، وبإصغاء لموسيقى توماسو البينوني، وهو مبدع آخر من البندقية، مشهور بمقطوعاته الحوارية، لذلك بدأ التناغم بين البيانو والكمان، أثناء عزف موسيقاه، بديعًا وخلابًا. فالرجل كان من عشاق هذا التناغم الموسيقي بين الآلات وبه عرف ولمع اسمه، من وحي الأجواء الفينيسية كتب أنطونيو ساليري، وجواكينو روسيني، ولموسيقاهما غنت السوبرانو الإيطالية، وخاصة «ريغاتا» هذا الأخير التي تصور حالة الفتاة العاشقة التي تشجع حبيبها خلال سباق القوارب الفينيسية المعروفة بشكلها الفريد حيث لا تحلو زيارة المدينة من دون أن يجول السائح في أقنية المدينة المائية على متنها. سباق الجناديل (مفردها غوندول) غنته السوبرانو على طريقة روسيني وصفق لها جمهور اندمج في القصة منتظرة أن يفوز البطل في السبق وينال جائزته الكبرى، أي قبلة حبيبته. وشرحت لنا جيانا فراتا، قبل أن نستمع إلى مقطوعة مستوحاة من مهرجان فينيسيا، للشهير بنيني، أن ثمة عازفين على الكمان، يمكنهم أن يجاروا مقطوعات هذا الموسيقي وآخرين ليس لهم هذه القدرة الفنية الفائقة، لتنبهنا سلفًا إلى أن المشاركة التي تجمع الفنانين الثلاثة على المسرح يجب أن لا تحجب عنا متعة إعطاء الأولوية لعازف الكمان في هذه اللحظات مع شوبان وبيتهوفن، انتهى الحفل، ليجد الجمهور نفسه بعده في سباق لالتقاط الصور مع هؤلاء الفنانين، الذين لم تنقصهم سوى الأقنعة وبعض الخطوات الراقصة، لنظن أننا انتقلنا إلى ساحة القديس ماركو، وسط المياه التي تكتسح المكان، في هذا الوقت الشتائي من السنة. كان الحفل في طرابلس بحضور مدير «المعهد الثقافي الإيطالي» في بيروت أدواردو كريسافولي، ورئيسة «مؤسسة دانتي اليغييري» كريستينا فوتي، ومدير عام «مركز الصفدي الثقافي» نادين العلي عمران، ومدير عام «مؤسسة الصفدي الثقافية» سميرة بغدادي ومئات من الطرابلسيين الذين باتوا بعدما ذاقته مدينتهم من معارك دامت سنوات، يتوقون وقد حلّ السلم إلى كل إبداع يثبت من جديد أن الكابوس قد انقشع وإلى غير رجعة.
مشاركة :