منطق الغنيمة والانقسام والتدخل الخارجي تحديات تواجه المصالحة في ليبيا

  • 1/18/2023
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

آلت كل جهود تفعيل مشروع المصالحة في ليبيا إلى الفشل، فالقوى المتصارعة والمتقاسمة للثروات تصر بشكل غير مباشر على قيادة البلد نحو انقسام حتمي، وما لم تتفق تلك القوى على خطة مبتكرة تقرب وجهات النظر وتسمح بتدخل الدول المعنية باستقرار ليبيا فلن تكون هناك مصالحة. تواجه المصالحة الوطنية في ليبيا سيلا من التحديات التي تأكدت من خلال الملتقى التحضيري للمؤتمر الذي سيعقد بخصوصها في الربيع القادم برعاية الاتحاد الأفريقي، وما صدرت أثناءه وبعده من مواقف وردود فعل متشنجة بينت أن 12 عاما من الصراعات والانقسامات السياسية والاجتماعية وإهدار الثروات لم تكف الفرقاء الثابتين والطارئين لتعلم الدروس وتقديم التنازلات الضرورية التي من شأنها حلحلة الأزمة. وشدد المبعوث الأممي إلى ليبيا عبدالله باتيلي على أنه “لا يمكن أن تكون مصالحة دون عدالة ودون إصغاء الليبيين لبعضهم”، فيما يرى مراقبون أن سياسة الآذان الصماء لا تزال معتمدة من قبل القوى التي تعتبر نفسها خرجت منتصرة من الحرب الأهلية للعام 2011 وما تلاها من مواجهات مفتوحة على أكثر من صعيد، وحظيت بغنيمة ترفض أن تتخلى عنها. ويشير المراقبون إلى أن من الصعب تجاوز دور المؤثرات الثقافية والاجتماعية السائدة في عرقلة مسارات المصالحة، حيث لا يزال خطاب “المنتصر” يتحد مع خطاب “المستفيد” في تأبيد الانقسام والترويج لثقافة الثأر، بدلا عن ثقافة التوافق والوئام وتسبيق مصلحة الدولة والمجتمع على مصالح الأفراد والجماعات والفئات التي تعتقد أن لها في استمرار الأزمة فوائد ومكتسبات، لاسيما في الدول التي عرفت تدخلات خارجية مباشرة لترجيح كفة طرف على حساب الآخر كما حدث في العراق وليبيا واليمن. لا يمكن الحديث عن سعي عملي لتحقيق المصالحة دون تجاوز ثقافة الإقصاء التي تنتشر على نطاق واسع في البلاد وبحسب الأمم المتحدة، يهدف مشروع المصالحة الوطنية إلى تطوير المزيد من الحوارات المحلية ومبادرات المصالحة في المناطق الرئيسية في شرق ليبيا وجنوبها ووسطها وغربها، كما أن المشروع مصمم لتحسين مصداقية وشرعية السلطات المحلية والوطنية في أن يصبحوا شركاء موثوقين لجهود المصالحة والوساطة. كذلك، تقديم الدعم الفني للجهات الحكومية لتسهيل مأسسة المصالحة على مستوى الدولة. لكن تلك الرؤية لا تجد ما تستند إليه في الواقع الليبي، حيث تتغلب ثقافة الانتماء القبلي والجهوي والمناطقي على ثقافة الانتماء إلى الدولة، التي تعاني بدورها من فقدان ركائز التأسيس الفعلي الذي يساعدها على مواجهة التحديات. وكشفت أحداث الفوضى التي عمت البلاد بداية من العام 2011 عن وجود ثغرات عميقة في البناء المجتمعي، والتي انعكست على أداء المؤسسات التشريعية والتنفيذية، وبرزت من حيث سلطة الميليشيات التي لا تزال إلى اليوم تبسط نفوذها على مناطق غرب البلاد. ويبدو أن عبدالله باتيلي كان أكثر وعيا بتلك الحقيقة عندما أكد أنه “إذا لم يتم التوصل إلى حل في المستقبل القريب، للأسف، ستقسم ليبيا”، وهو بذلك يضع الإصبع على مكمن الداء، فالتقسيم قد يكون الحل الأخير وقد يتم في أي لحظة نظرا لما تبديه سلطات طرابلس من استنقاص لدور برقة ومن تهميش كامل لدور فزان، رغم أن الثروات الحقيقية للبلاد توجد في المنطقتين الشرقية والجنوبية، وتستفيد منها أقلية فاسدة تعبث بإيرادات النفط والغاز وتسيطر على صفقات الدولة واعتمادات المصرف المركزي. ويبدو واضحا أن قوى الفساد في ليبيا لا ترغب في التوصل إلى مصالحة وطنية، وهي تمتلك حاليا شبكات من العلاقات الوطيدة على الصعيدين الإقليمي والدولي مع فاعلين أساسيين في مؤسسات الحكم بدول تزعم في العلن أنها تحارب الفساد وتدافع عن الشفافية وتتعامل تحت الطاولة مع ناهبي ثروات الشعوب. قوى الفساد في ليبيا لا ترغب في التوصل إلى مصالحة وطنية، وتمتلك حاليا شبكات من العلاقات الوطيدة على الصعيدين الإقليمي والدولي وتعتقد أوساط ليبية أن الصراع القائم في البلاد يتمحور بالأساس على الثروة، وأن من يتصارعون على السلطة إنما يفعلون ذلك من أجل وضع اليد على مفاتيح الثروة، وهو ما كان واضحا خلال ملتقى الحوار السياسي في تونس في نوفمبر 2020 وفي جنيف في فبراير 2021، حيث تجاوز حجم صفقات شراء الأصوات 150 مليون دولار، وهو ما رجح كفة القائمة التي وصلت إلى الحكم ولا تزال تسيطر عليه إلى اليوم. وتضيف أن هذه الحقيقة تزيد من صعوبة دور الاتحاد الأفريقي في تحقيق المصالحة في ليبيا، عكس دول جنوب الصحراء التي تحققت فيها تجارب ناجحة للمصالحة، رغم أن خلفية الصراع فيها تتجاوز بكثير ما حدث في ليبيا من حيث أعداد الضحايا ونسب الخسائر وجذور العداء. لكن يبدو أن الأفارقة يصرون على إرساء مبدأ المصالحة في ليبيا، حيث أبرز رئيس مجلس النواب عقيلة صالح أن الاتحاد الأفريقي يعمل على التحضير لمؤتمر جامع لليبيين، وقبل ذلك أوضح رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي أن الاتحاد يتواصل مع جميع الأطراف الليبية للحديث عن المصالحة الوطنية، لأنها قد تفتح الباب أمام حل سياسي للأزمة. وقد أعرب رئيس الكونغو برازافيل دونيس ساسو نغيسو عن أمله في عقد مؤتمر المصالحة الليبية قبل الصيف المقبل، وأن تنظم انتخابات تؤدي إلى نتائج مقبولة للجميع خلال تلك العملية. ولا يمكن الحديث عن سعي عملي لتحقيق المصالحة، دون تجاوز ثقافة الإقصاء التي تنتشر على نطاق واسع في البلاد، ويعبّر عنها الخطاب الديني لرئيس دار الإفتاء التابعة للحكومة المنتهية ولايتها بطرابلس الصادق الغرياني، والخطاب السياسي الانعزالي للثوريين الراديكاليين ولفئة من رموز النظام السابق ولبعض أمراء الحرب وقادة الميليشيات، وكذلك خطاب الكراهية السائد الذي يتخذ منطلقاته ليس فقط من الواقع المحلي، وإنما كذلك من الظروف المحيطة إقليميا ودوليا. الآراء المعارضة تقف عائقا أمام المصالحة الآراء المعارضة تقف عائقا أمام المصالحة كما أن الحديث عن مصالحة في ليبيا يحتاج إلى حوار مفتوح ودون شروط مسبقة مع مختلف ألوان الطيف من أنصار النظام الملكي والنظام الجماهيري والسابع عشر من فبراير، ومع حاملي السلاح ومن يقبعون وراء السجون والمهجرين، وإلى أن تترك العواصم الغربية لليبيين فرصة التوافق في ما بينهم، حيث إن واشنطن التي تخلت عن أفغانستان لجماعة طالبان وفتحت أبواب العراق لإيران، ليس من حقها أن تتدخل للضغط في ليبيا من أجل إقصاء هذا الطرف أو ذاك بسبب موقفها منها، كما هو الشأن بالنسبة لسيف الإسلام القذافي الذي كان ترشحه للسباق الرئاسي سبب تأجيل انتخابات ديسمبر 2021 إلى أجل غير مسمى بضغط أميركي – بريطاني. وكانت المتحدثة باسم المجلس الرئاسي نجوى وهيبة قالت إن “المجلس هو من يتولى ملف المصالحة، وقد ضمنها برؤية إستراتيجية”، مشددة على أن المصالحة لا تنجح من دون مشاركة الجميع، إلا أن هذا الموقف يتناقض مع توجهات عامة في كواليس الحكم بطرابلس ولدى مراكز القرار في مدن مثل مصراتة والزاوية، وهو ما كشفت عنه ردود الفعل حول الملتقى التمهيدي لمؤتمر الصالحة الوطنية، والتي جاءت في أغلبها متشنجة ومعارضة لأي مسعى جدي للخروج من المأزق. وبدا واضحا أن لرئيس حكومة الأمر الواقع عبدالحميد الدبيبة يدا فيها، وهو الذي يطمح إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه، بما يضمن له تنظيم انتخابات على مقاس تطلعه إلى الفوز بها، وذلك بعكس الرأي المخالف الذي يعتبر أن أي انتخابات تسبق المصالحة الوطنية لن تؤدي إلا إلى المزيد من الانقسامات، نظرا إلى أن نتائجها لن تحظى بالقبول من الأطراف المعادية للفائز بها. إن مشروع المصالحة في ليبيا يحتاج إلى خطة مبتكرة وناجعة تستند إلى قوة حقيقية على الأرض، وإلى دور عربي وأفريقي كبير وإلى استعداد نفسي واجتماعي داخلي لطي صفحة الماضي، وكذلك إلى تحديد الأولويات بشكل مغاير عن التجارب السابقة. أما ما يجري الحديث عنه حاليا فلن يصل إلى نتائج ترتجى، والسبب الرئيس أن هناك من يتمسك بالسلطة والثروة كغنيمة حرب يرفض التخلي عنها مهما كان الثمن، وأن غياب الغطاء المرجعي الجامع أو القادر على أن يكون جامعا، يدفع نحو التقسيم أكثر مما يساعد على توحيد الصفوف.

مشاركة :