يبدو لمن يقرأ سرديات الأديب العربي جبران خليل جبران، أن المعنى يحضر في كونه دلالة على العاطفة الكامنة في الوجود الإنساني، وما يحدث من إعادة قراءة له في المجتمعات المعاصرة، إنما هي رحلة ضرورية لإعادة إنتاج عمق المعنى وأبعاده في جوهر الإبداع الوجودي، كونه يمثل تيار الحياة الذي يستحضر في الوقت ذاته تكراراً للأحداث في منظومة العلاقات الإنسانية التي شكلت جزءاً مهماً من الرؤى والبحث لدى جبران خليل جبران. ومن هنا جاء احتفاء مكتبة محمد بن راشد، إحياءً لذكرى جبران، عبر تنظيم جلسات نقاشية لإنتاجاته الأدبية وأمسية موسيقية تتغنى بقصائده، إيماناً بالضوء المسكون في كلاسيكيات الأدب العربي، وضرورة التأكيد على المرجعية الفكرية والمعرفية للمخزون الثقافي العربي، ودوره الأساسي في تشكيل منعطفات استثنائية شكلت مخرجات لمفاهيم وطرق تفكير وسلوكيات أسست لأسلوب الحياة الحضارية بتنوعها وتعدد مساراتها التنموية، وذلك من خلال فهم الإنسان لذاته، وهو تعبير قدمه د. يوسف حطيني، أكاديمي وباحث ومحاضر في جامعة الإمارات، المشارك في جلسة «الصورة والكلمة في حياة جبران»، بقوله: كان جبران جامعاً من مختلف القراءات الفلسفية والدينية والأدبية والفنية والموسيقية والاجتماعية، حالة خاصة يضعها بحساسية عالية في مشاريعه الكتابية. وقد جاءت الجلسة بمشاركة المخرج والكاتب السينمائي كاظم فياض، وأدارتها د. بديعة الهاشمي، أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة الشارقة. واستمر د. يوسف حطيني في وصف لوحة رسمها جبران خليل جبران، توضح رؤيته لصورة في عمله «النبي»، يهدف منها إلى بيان البعد البصري للمخيال الإنساني في كيفية بناء المعنى في داخل المرئي، المفتون بسحر الشعور وقدرته على أن يجعلنا جميعنا متصلين. وأضاف د. يوسف حطيني، أن جبران خليل جبران، اطلع على تجربة «نيتشه»، وأخذ عنه القالب في الكتابة، مع اختلاف المضمون والأفكار والطرح، فرؤية جبران للمرأة على سبيل المثال، تختلف عن نظرة «نيتشه»، مبيناً أن جبران تأثر بالتراث الإسلامي والمسيحي، وهنا لا يتحدث د. يوسف حطيني عن هويته الدينية، بقدر ما يود بيان الإنسانية الخالصة التي عاشها جبران في مكنوناته الخاصة. ومن جهته، اعتبر كاظم فياض، أن كتاب «النبي» كنموذج، قُدم في العديد من الإنتاجات السينمائية، وبالنسبة له فإن جبران مصدر إلهام للإبداع، يستمد منه المبدعون تصوراتهم، ويحاولون إعادة إنتاج الموضوعات في الوسائل والوسائط المتنوعة، أكثر من الفكرة ذاتها، مبيناً أن كل شيء لا يزال يقال، قد قيل فعلاً، على مستوى الأفكار والمفاهيم الوجودية. ونشاهد كيف أن هناك تكراراً للتحديات والأسئلة في العلاقات والزواج والصداقة وغيرها، التي ناقشها جبران في أطروحاته. وفي المقابل، فإن الطريقة التي تستقبل فيها اللغة والمصطلحات عبر السرديات من جيل إلى جيل تكاد تكون مختلفة، فكما قال جلال الدين الرومي، إن الحقيقة بمثابة مرآة وقعت وانكسرت، وحمل كل شخص منها قطعة صغيرة، ويعتقد أنها الحقيقة الكاملة، ولكن في الصورة الكبيرة فإننا نحتاج لكل تلك القطع الزجاجية، لإتمام الرؤية الكلية للأمور. وجمالية الأمر أن كل شخص سيسعى لإظهار تلك القطع الزجاجية (الحقيقة) بطريقة ووجهات نظر مختلفة، والعودة إلى جبران خليل جبران، إنما هي تأكيد على أهمية المكونات الأساسية لإنتاج الحقيقة وهي التجربة. وبمجرد أن تجرب فعل الفكرة التي يطرحها جبران، فإنك فعلياً تبحث عن حقيقتك من خلال فهم المصادر التي أسست للحقائق وطرق الأفكار والمفاهيم. وشهدت احتفالية مكتبة محمد بن راشد بذكرى جبران خليل جبران، أمسية موسيقية شعرية قدمها الشاعر ياسر سعيد دحي، وعازف العود محمد سعيد دحي، تضمنت قراءة أخاذة لبعض ما كتبه جبران، أبرزها قصيدة: أعطني الناي وغنِّ * فالغنا سر الوجود.. وأنين الناي يبقى * بعد أن يفنى الوجود، وفيه تمازجت اللحظة الموسيقية بالعود، الذي انحنى في مرات عديدة، حتى يتسنى للجمهور إدراك المعنى في الكلمة عبر القصيدة.
مشاركة :