< بعدسة مكبرة، تقترب رويداً من العالم، في إصغائه، وحضوره، وتنوعه، تبتهل عبر بانوراما مدهشة، من هسيس الأشجار والورود، وروائح عطرية نفاذة ساحرة، مابين رغاء البقر وسريان الماشية خلف مروجٍ ممتدة، مثل حلم، تأخذك «زعفران» للكاتبة الإماراتية شيماء المرزوقي إلى بدايات ساكنة ووديعة. لكن هذا ليس إلا غطاء أولياً، أو ربما خادعاً، للمكر والتناقض المبثوث في أرجاء عالمنا، ثم حقيقة وجودنا، غطاء شفاف، لا تبرز وراءه إلا بصيرة نافذة، ودقيقة، تقترب من الماهيات أكثر، على رغم العدسة الساحرة والمدهشة، تكمن إحداثيات مليئة بالألم، والسَحق، والتمزق. «زعفران» تحيلك إلى أودية شتى، ثم أنت تقف أمامها على سُموتِ نقاطٍ متقاطعة ومنعكسة، فالطفلة اللقيطة، الساكنة بين أريج الطبيعة الفواح، ليست إلا قراءة لبراءتنا المغتالة، كلِنا، وسط عالم يموج بأنانية مفرطة في كل لحظة تقطع فيها شمسنا دورة أخرى باتجاه أفق كوني بعيد، ومتجدد. على وجهٍ، «زعفران»، تحفّز فيك هذا التناقض، ثم أخلاطاً واسعة من الحب أو الكراهية، أو التعاطف أو المقت، فالطفلة التي انتحرت بآخره، بعد أن صيرتها آلامها، وأيامها، إلى قطعٍ سوداء من الألم، لا تملك إلا أن تقفَ حائراً، لكنها حيرة إيجابية ومستحقة، بل وهي جزء بنيوي واسع الدلالات من تركيب عالمنا، الأنظمة الفيزيقية المختصة في المركز الأوروبي للأبحاث، تعطي معطيات شاسعة، حول جسيمات النيوترينو- ميون، فهي عاكسة، خداعة، ساحرة ومنفلتة على إحداثيات العالم الممتد، نقاط كهربية متصادمة، ظلالاً فيزيقية، تعطيك ترميزاً، وشفرة واسعة للتناقض. ومع الحميمية الزائدة، والدافئة للغة المستخدمة، في استرسالها، وتدفقها، ثم حلاوةُ الوصفِ للمشاهد الطبيعية التي يزخر بها النص، لا تملك أحياناً -أثناء القراءة- إلا أن تحلم، مثل «زعفران»، فمع إطلالة القمر، وهمسات النجوم، ونجوى الأشجار الوادعة، عاشت الطفلة سعيدة ومبتسمة، على رغم الوعاء الممزق الذي انتُهِكت فيه طفولتها، ثم اغتيلت أحلامها تبعاً، لكن السرد اللطيف الهادئ يحملك على أجنحة الأحلام، فتكاد تلمس الأوراق المخضلةَ بالندى، أو تسمع صوت الأبقار وهي تكسر هشيم العشب، أو تسمع الخالة (هناء) تحكي لـ(زعفران) وأطفالها، حكاياتٍ مؤلمة، ومشبعة بالأمل في الوقت ذاته. بحسب كولن ولسون، فإن حيوية وديناميكية النص، هي التي تعطي قوة التحفيز للقارئ لاستصحاب النص والجلوس معه، وإعطاءه قطعةً من قلبك وعقلك، وثمة حيوية حلوة هنا في رواية «زعفران»، بل ربما استمرت معك بعد وضع الكتاب جانباً، خِدرٌ لذيذ من الأحلام، نعم ربما تعرف أن الصغيرة، أنهكتها آلام عصرها ومدنيتها، وفق عدم تكافؤ الفرص، بين الأغنياء والفقراء، وهي بؤرة جوهرية في النص، لكنك تعرف بحسٍ غامض، أنها ستجد شيئاً، على رغم اختيارها طوعاً أن تغادر عالمنا. لكن هل غادرت فعلاً «زعفران» بعد انتهاك طفولتها، ووجودها؟ في ضمير الميثولوجي الإنساني، قد تتسق دلالات أخرى، وثمة طبقات تفتح آفاقاً مندفعة، ففي الفلسفة الهندوسية، ثم الجينية -المنفلقة عن النخبوية الاجتماعية للبوذية- ثمة عقيدة راسخة، بأن خروجنا من الألم لن يكون إلا بإطفاء شعلة أرواحنا المتقدة، هل نعود في صورة أخرى؟ وفق ثيمة التناسخ في تلك الفلسفات المشرقية المغرِقة، هل تعود (زعفران) أو ربما هي عادت فعلاً، ثمة احتمالات واسعة، وثمة مساحة ننطلق فيها. بؤرة حقوق الطفل وانتهاكها، مطروقة بقوة في الرواية، وبقوة مثل أداة تنبيه عملاقة مزعجة، السارد لا ريب انسحب معه شقاء الطفولة المهانة في أجزاء واسعة من عالمنا اليوم، ثم صورة الطفل السوري -صريع التطاحن الرهيب- لا تكف عن صفعنا، بعد أن صرنا أدوات للتأنق فحسب، أو الثرثرة بكلمات جوفاء، يأتي هذا على خلفية السيدة (رويدا)، أو عائلة الأب (عامر)، بحسب الرواية، ثمة شفرة لازمة هنا دوماً، إحداثياتها واضحة، في قسوتنا، وصيرورة القلوب إلى بقعٍ عمياء باهتة، بل وكئيبة. بعيداً عن التأطير الفلسفي، ثمة دياليكتيك طبقي، ضافي الصراع في الرواية، فالفقراء يعملون تحت إمرة الطبقة المستحكمة فحسب، بما يضمن لهم مجرد الحياة، خاوية، وخالية عن المشاعر والحب، أو الحلم، والأقرب أن (زعفران) ليست إلا وِحْدَة منسحقة تحت جدلية الفقر والغنى، رامزة لمنظومة اقتصادية شوهاء، أثارت الحروب، وصراع الموارد، جاعلة الكوكب على محكاتِ الخطر والتشظي. ثمة بؤرة أخرى، فالشك حاضر بقوة، يظهر هذا في نجوى (زعفران) وغوثها بخالقها، بعض دروس الميتا-سايكولوجي تجنح إلى استعاضتنا بقوة عليا، عند الألم، والندم، وثقلِ أرتال الحياة المتتابعة، بعض بحوث الكاتبة الأميركية كارين آرمسترونغ في «تاريخ الأسطورة»، وفق بحوث طوطمية-اجتماعية وصلت إلى أن أفراد القبائل الأسترالية الأولى، البعيدين عن التأثيرات الحضرية أو الدينية، يتسقون في صلواتهم وعاطفتهم مع قوة عليا مهيمنة، وجبارة، نافذة ومتحكمة، وفوقَ محيطِ التصورات العقلية للبشر، (زعفران) جاوزت هذا الحد، إذْ ثمة رجاء أحياناً، بل ولربما ثمة سخط جامح، أحياناً ثمة انكسار بتلك المحبة الغامضة، مجهولة الطوية، بين المخلوق وخالقه. اللغة سلسلة، متدفقة، ويبدو أن الرواية كُتبت بطريقة (الدفع)، بحسب الروائي الفرنسي جان ماري لوكليزيو، لهذا جاء التدفق والاسترسال سهلاً، ناضراً، وحميمياً، واللغة بالأصل كائنٌ لا يحتمل الاستكراه أو القهر، وفي البحوث البيانية العربية، عند الجاحظ، وابنِ الأثير، والإمامِ عبدالقاهر الجرجاني، إجماعٌ تام، على أن الكتابة لا تأتي إلا عفواً، سَلْسَلاً، بلا تكلفٍ مذموم وممقوت، بعض الروايات تكتب بلغة مصنوعة، مصقولة صقلاً متكلفاً. أعتقد في «زعفران» أن اللغة مجلوة، بجلاء النفس، مثل مرآة شفافة وصافية، تعكس بصورة مدهشة، زوايا خلابة ورائعة، في تجربة مميزة وخاصة جداً. * كاتب سوداني.
مشاركة :