محيط من الماء تحت سطح الأرض

  • 1/27/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

حتى يتمكن العلماء من فهم طبيعة البراكين والزلازل التي تهز كوكبنا، يجب عليهم أن يفهموا ماذا يحدث في أعماقه، وعلى وجه الخصوص ما إذا كان هناك ماء أم لا، فهذا العنصر ضروري وحيوي للصفائح التكتونية، لأنه يعمل على سهولة تشوهها فيجعلها أكثر مرونة. وفي شمال المحيط الهادي، وتحت قارة آسيا يخفي وشاح الأرض على عمق 700 كم، ما يقدر بنحو 4 مليارات كم مكعب من المياه أو 3 أضعاف محيطات الأرض برمتها، لذا تأتي أهمية العينات المادية المستخرجة من الأعماق. في العام 2008 عثر أحد هواة جمع الأحجار الكريمة في نهر برازيلي على ماسة صغيرة، بنية اللون يبلغ وزنها 90 مليجراماً. لم تكن هذه الألماسة على ما يبدو ذات قيمة تجارية، لكن أحد المتخصصين في الجيولوجيا الكيميائية اشتراها وكله ثقة أنها تتضمن قيمة علمية لا تقدر بثمن. وبالفعل كانت هذه القطعة البسيطة التي دعيت JUc29 تحوي المعدن المجهري الأسطوري الرنغوديت (Ringwoodite) الموجود في صخور الأعماق بشكل وفير، خصوصاً على عمق يتراوح بين 500 و700 كم ، كما أنه يكثر في النيازك. وكانت تجارب معملية سابقة أظهرت أن الرنغوديت يمكنه أن يمتص كمية صغيرة من الماء، أقل من 1٪ من وزنه، على شكل أيونات الهيدروكسيد، في ظروف يتوافر فيها الضغط ودرجة الحرارة على عمق يبلغ 500 كم. وأخضع اختصاصيو الجيولوجيا الفيزيائية الأمريكيون هذا العنصر لنفس الظروف السائدة عند عمق 700 كم، ووجدوا أن الرنغوديت يحرر كل ما يحوي من مياه. ويقول بونوا توزان، من جامعة كلود برنار في ليون بفرنسا، إن الماء يطرح من الشبكة البلورية للصخور ويتموضع على طول الحواف بين الحبيبات الصخرية، وكان وجود الرنغوديت (Ringwoodite) افتُرض نظرياً لأول مرة من قبل تيد رينغوود، ومن هنا جاءت تسميته التي قدمها الباحثون الذين صنعوه بالمختبر في عام 1989. وإذا كان الرنغوديت يشكل 60٪، من المنطقة الانتقالية، كما يرى غراهام بيرسون، فإنه لم يتمكن أحد حتى ذلك الاكتشاف من الحصول على شيء منه سوى عينات جاءت من خارج الأرض، أو صُنعت في المختبر، علما بأنه اكتُشفت بالفعل عيناتٌ أخرى من الألماس، من أعماق أبعد من ذلك (800 كم) وتحمل آثاراً للبيروكسين أو العقيق. ويقول بيير كارتيني، مدير الأبحاث في معهد الفيزياء الأرضية في باريس: عثرنا عليها عن طريق الصدفة، بينما كنا نبحث عن معدن آخر، ثم استغرق البحث نحو 6 سنوات للتعرف اليها. إنها معجزة حقا جاءت إلينا من عمق 600 كم. ويقول فابريس برونيه، مدير البحوث واختصاصي المعادن في معهد علوم الأرض في غرونوبل: ربما كانت الرنغوديت محمية من قبل الألماس الذي التقطها، ومنعها من أن تتحول إلى الزبرجد الزيتوني وهو ما يعزز الافتراضات النظرية حول عالم الأعماق مع أول شاهد مادي. وظهرت هذه الظاهرة واضحة خلال دراسة الموجات الزلزالية في هذه الطبقة من الصخور الرطبة التي تعتبر بمثابة النهاية الصغرى لأكبر احتياطي من المياه في الكوكب. وكان فريق من اختصاصيي الجيولوجيا في جامعة ولاية أوريغون بالولايات المتحدة، أثبت من خلال خريطة توزيع المياه في الأعماق، بعد دراسة مستفيضة نُشرت نتائجها بمجلة نيتشر في أغسطس الماضي، أن هذا الماء راجع إلى عملية الاندساس. فعند الغوص في الوشاح، نجد أن الصفيحة المحيطية تسحب معها معادن رطبة تحرر المياه من وشاح الأرض. وتستند هذه النتائج إلى قياسات لمقدار الموصلية الكهربائية المرتبطة بحركة أيونات الهيدروجين الناتجة أساساً عن الماء. ويقول باسكال تاريتس من المعهد الجامعي الأوروبي لعلوم البحر (IDEM) في بريست: نجمع بيانات منذ 20 عاماً، واليوم فقط يمكننا القول إنه باستطاعتنا وضع خرائط جدية للأعماق البعيدة في باطن الأرض، مشيراً إلى أنه منذ بضع سنوات يشتبه اختصاصيو الجيولوجيا الفيزيائية في وجود ما يعادل محيط أرضي تحت أقدامنا لكن لم يتمكن أحد حتى الآن من تأكيد هذا الأمر. ويضيف أنه على الرغم من أن كميات المياه صغيرة جدا، فإنها تلعب دوراً مهماً في لزوجة الصخور وتكسرها أثناء الزلازل كما أن الماء يغير في نظام الثوران البركاني. وهنا ينبغي ألا يتصور أحدنا أننا أمام بحيرات كبيرة فهذه المياه محصورة داخل الصخور، على شكل أيونات. فريق الباحثين توصل إلى هذه النتيجة، بعد دراسته لعملية انتشار الموجات الزلزالية في وشاح الأرض والناتجة عن أكثر من 500 زلزال عبر العالم. ورصد الفريق انخفاضاً في سرعة هذه الموجات على عمق 700 كم ما يشير إلى أن الماء موجود في هذه الأعماق. ومن المعروف أن هذا السائل يؤدي إلى إبطاء الموجات أثناء مرورها فيه، ولكن من أين جاء هذا الماء؟ يقول اختصاصي الجيولوجيا الكيميائية غراهام بيرسون، الذي قاد فريق البحث في جامعة ألبرتا بكندا: منطقة الوشاح هي المنطقة الرئيسية لتخزين المياه في الأرض الصلبة، وهي المنطقة المسؤولة في جزء كبير عن الصفائح التكتونية، وتتكون من صخور الزبرجد الزيتوني، ولكن على شكل مدمج جداً من أجل الصمود أمام الضغوط الهائلة السائدة في الأعماق، التي تتراوح قوتها بين 20 و40 جيغاباسكال أي مئات آلاف المرات قدر الضغط الجوي على السطح. وربما يتساءل البعض لماذا الرنغوديت بالتحديد؟ أولاً، تبين للباحثين أن المنطقة الانتقالية مغمورة بالمياه، وتفترض النظرية أن هذه المادة يجب أن تكون موجودة في المنطقة الانتقالية، على هيئة رطبة. يقول فابريس برونيه: الرنغوديت لا يحتوي على المياه بشكل طبيعي مثل الميكا أو الطين، ولكن التجارب بينت أنه من الممكن أن يدخل في تركيبه نحو 2.5٪ منه، كما أثبتت التحاليل أن القطعة التي عُثر عليها تحوي 1.5٪ من المياه، وهو ما يثبت صحة النظرية، ويشير إلى أن ال 250 كم من المنطقة الانتقالية تحتوي على ما يعادل محيطاً عملاقاً حتى ولو كان على هيئة غير سائلة. ولتقييم هذا الأمر، كان من الضروري معرفة ما إذا كانت المنطقة الانتقالية متجانسة. ويعتقد برونيه أن الألماس صعد إلى السطح جراء إحدى الثورات البركانية فائقة الانفجار، وتدعى الكمبرلايت، التي وقعت في مدة واقعة بين 70 و150 مليون سنة، ويرى برونيه أن معدل سرعة تحرك الصهارة (الماجما) بلغ نحو من 10 إلى 30 م/ث، علما بأن هذه المناطق البركانية هي مناطق نوعية في وشاح الأرض يوجد فيها المياه بوفرة. على أي حال، يعتقد برونيه أن هذا الاكتشاف مكّن العلماء من فهم أفضل لدورة المياه على الأرض. يقول غراهام بيرسون: على مدى بلايين السنين، يعاد تدوير ما يعادل محيطاً كاملاً في وشاح الأرض العميق. وبات من الواضح الآن أن بعضاً من هذه المياه تقيم لفترة في المنطقة الانتقالية، وأن الاندساس الجزئي لمادة الرنغوديت في (JUc29) يسلط الضوء على أصل الكمبرلايت. واكتشافنا يشير إلى أن هذا النوع من الصخور البركانية الماجماتية يجب أن يأتي من مسافة أبعد من 200 كم التي تم افتراضها أي من مسافة تصل إلى 700 كيلومتر تحت سطح الأرض. من جهته يبقى بيير كارتيني، أكثر حذراً حول هذه النقطة، فيقول: نحن لا نعرف على وجه اليقين إن كان هذا الألماس قُذف جراء ثورة بركانية فائقة، بل تم اكتشافه في طمي النهر وأعتقد أن الكمبرلايت الذي صدر عنه هذا الألماس لم يُعثر عليه بعد. والآن وبعد لحظة اكتشاف، يُفتح النقاش على مصراعيه فمع هذه الميكروغرامات البسيطة من المواد المحمية في الألماس، تبدأ رحلة جديدة بالنسبة للجيولوجيين تقودهم إلى مركز الأرض.

مشاركة :