يختلف شعور الإنسان بالوقت باختلاف التجربة الحياتية أو الاجتماعية التي يمر بها، فمن المعتاد أن يشعر الشخص أن الوقت ينقضي سريعا في حالة خوض تجربة إيجابية أو مبهجة، وأن يشعر أن الوقت يمر بطيئا أثناء القيام بعمل غير محبب أو ثقيل على النفس. ومن أجل معرفة تأثير الزحام، باعتباره تجربة غير محببة، على شعور الإنسان بالوقت، أجرى فريق بحثي من جامعة كورنيل الأمريكية دراسة باستخدام محاكيات تعمل بتقنيات الواقع الافتراضي، لقياس طريقة الشعور بمرور الوقت أثناء الركوب في وسائل المواصلات العامة المكتظة بالركاب، وعلى وجه التحديد عربة مترو أنفاق في مدينة نيويورك الأمريكية. وتوصل الباحثون إلى أن ركوب قطار أنفاق "افتراضي" مكتظ بالركاب يجعل الوقت يمر بطيئا بالنسبة للمتطوعين المشاركين في التجربة، وهو ما يعني أن الوقت الذي ينقضي أثناء ركوب وسائل المواصلات العامة في أوقات الذروة يبدو أطول، مقارنة بالوقت نفسه الذي ينقضي أثناء القيام برحلة مماثلة داخل وسيلة مواصلات غير مكتظة. وتثبت هذه الدراسة، التي نشرتها الدورية العلمية "فيرتوال رياليتي"، أن السياق الاجتماعي أو المشاعر الداخلية تشوش على شعورنا بانقضاء الوقت، وربما تؤثر على رغبة الشخص واستعداده لاستخدام وسائل المواصلات العامة لا سيما بعد انتهاء الجائحة. ويقول رئيس فريق الدراسة سعدي صديقي الحاصل على الدكتوراه في أبحاث علم النفس إن هذا البحث "يفتح مجالا جديدا للتفكير بشأن التزاحم الاجتماعي، ويكشف أنه يؤثر فيإدراكنا للوقت"، وأضاف في تصريحات للموقع الإلكتروني "سايتيك ديلي" المتخصص في الأبحاث العلمية أن "الزحام يخلق شعورا بالتوتر، ويجعل الرحلة تبدو أطول". وكانت تجارب سابقة قد أثبتت أن المشاعر الشخصية ومعدل نبضات القلب ودرجة تعقد موقف معين مثل عدد العناصر التي تستدعي الانتباه في الدائرة المحيطة بالشخص يمكن أن تؤثر، ضمن عوامل أخرى، على تجربة الإنسان من حيث شعوره بانقضاء الوقت. وأجريت تلك التجارب في مختبرات بحثية باستخدام أدوات وعناصر تحفيز بسيطة مثل استعراض أشكال ورسوم على شاشات الكمبيوتر لفترات قصيرة من الوقت. وفي إطار التجربة الجديدة التي أجريت باستخدام تقنيات الواقع الافتراضي، عمد فريق جامعة كورنيل إلى اختبار إدراك الإنسان للوقت في بيئة غامرة ينغمس فيها المتطوعون بشكل كلي، حتى تضفي شعورا بالواقعية على أجواء التجربة مع السماح في الوقت ذاته بالتحكم في درجة الزحام بشكل ممنهج. وشارك أكثر من 40 متطوعا من خلال القيام بخمس رحلات "افتراضية" على متن قطار الإنفاق لفترات تتباين ما بين 60 و70 و80 ثانية، مع تعديل درجة الزحام المحيطة بالمتطوع في كل مرة. ويقول سو يون الباحث بكلية العلوم البيئية الإنسانية في كورنيل إن المتطوع يرتدي أجهزة استشعار لقياس نبضات القلب ونظارات للرؤية الافتراضية كي يشعر أنه بالفعل على متن قطار أنفاق، ولدى بدء التجربة، تدوي من ميكروفونات خاصة داخل المختبر عبارة "برجاء الابتعاد عن الأبواب لدى إغلاقها" ثم يتعالى صوت رتاج باب القطار وهو ينغلق، ثم ينبعث صوت قطار أنفاق وهو يتسارع، وتنتهي الرحلة أو التجربة عندما يصدر صوت توقف القطار ويدق الجرس مجددا إيذانا بفتح أبواب العربة. وفي كل مرحلة من مراحل التجربة، كان يتم زيادة شخص إضافي في محيط متر مربع حول المتطوع، بحيث يتراوح عدد الركاب الافتراضيين في نهاية المطاف ما بين 35 و175 شخصا. وكانت تقنية الواقع الافتراضي المطبقة في التجربة تسمح للمتطوعين بمشاهدة ركاب افتراضيين يجلسون ويتحركون ويستخدمون الهاتف المحمول أو يطالعون كتبا أثناء زمن التجربة. وبعد نهاية كل رحلة، كان الباحثون يطلبون من كل متطوع أن يجيب عن أسئلة لتحديد ما إذا كانت تلك التجربة ممتعة أم لا على مقياس من واحد إلى سبعة، وأن يطلب منهم أن يحددوا بدقة، قدر استطاعتهم، الزمن الذي استغرقته تلك الرحلة. وتبين من خلال تكرار التجربة في ظل معطيات مختلفة أن الرحلات في عربات مكتظة بالركاب تبدو أطول زمنيا بنسبة 10 في المائةمقارنة بالرحلات التي تتم افتراضيا داخل عربات أقل ازدحاما، وأن خوض تجربة غير ممتعة يجعل وقت هذه التجربة يبدو أطول بنسبة 20 في المائةمقارنة بخوض تجارب أخرى ممتعة بالنسبة للشخص. وأرجع الباحثون سبب هذا الشعور إلى الآليات الدفاعية الشعورية التي يتم تنشيطها داخل الإنسان لدى شعوره بانتهاك المساحة الشخصية الخاصة به. ويقول الباحث أدم كيه اندرسون المتخصص في مجال علم النفس وأحد المشاركين في التجربة إن هذه الدراسة "تسلط الضوء على أن التجارب الحياتية اليومية وشعورنا الشخصي حيالها يؤثران بشكل درامي على إحساسنا بالوقت، أي أن الوقت في الحقيقة هو أكثر مما تقوله لنا عقارب الساعة، وإنما يتعلق بطريقة شعورنا بالزمن وقيمته باعتباره موردا مهما". وإذا افترضنا أن الزمن المعتاد لركوب المواصلات العامة يصل في المتوسط إلى 60دقيقة يوميا، فإن ذلك يعني أن ركوب المواصلات لمدة عام كامل سوف يضيف إلى شعورنا بالوقت 24 ساعة كاملة في كل عام، بما يعني ثلاثة أيام عمل كاملة، ليس لها وجود في حقيقة الأمر، من أجل الوصول إلى مقاصدنا بالمواصلات العامة. ويرى الباحثون أن هذه الدراسة يمكن أن تساعد مهندسي النقل على ابتكار تقنيات لتحسين تجربة ركوب المواصلات العامة أو تطوير تصميمات لعربات نقل تخفف من المشاعر السلبية المرتبطة بالزحام، وبالتالي تعطي الراكب شعورا باستغراق وقت أقل في قطع مسافات أطول.
مشاركة :