أجرى الحوار: ألكسندر ديفيكيو لقد بدأت الحرب العالمية الثالثة، على الأقل اقتصاديًا – ذلك هو الرأي المثير للجدل الذي عبر عنه المفكر والمؤرخ وعالم الإنثروبولوجيا والسياسة الفرنسي إيمانويل تود في كتابه الأخير «لقد بدأت الحرب العالمية الثالثة». يعتبر المؤلف أنه كلما طال أمد النزاع العسكري في أوكرانيا زاد الموقف تشددا، وهو يرى أن الحل لإنهاء الصراع هو إجبار نظام كييف على الموافقة على جعل بلده منطقة منزوعة السلاح ومحايدة مثل سويسرا. لنتذكر أن الحياد الدائم للاتحاد السويسري ناتج عن إعلان السلطات. يذكرنا المؤلف في كتابه أيضا أن وضع الحياد الدائم للاتحاد السويسري ناتج عن إعلان من قبل القوى الأوروبية بتاريخ 20 مارس 1815 في مؤتمر فيينا. تعتبر سويسرا نموذجا للحياد الدائم، وقد ظل هذا النموذج قائما منذ ذلك الحين. يمكن للنموذج السويسري أن يقنع بعض الأوكرانيين بجدوى اللجوء في نهاية المطاف إلى مثل هذا الحل. يؤكد المؤلف في كتابه أن الحرب الدائرة رحاها الآن في أوكرانيا لها بعد ثقافي وآخر إيديولوجي في هذه الحرب الطاحنة، بالإضافة إلى أبعادها العسكرية والجيوسياسية والاستراتيجية. فهناك صدام في هذه الحرب ما بين الغرب الليبيرالي وبقية مناطق العالم. يبدي مؤلف كتاب «السقوط النهائي»، الذي تنبأ فيه بانهيار الاتحاد السوفيتي عام 976، تحفظه في فرنسا بشأن مسألة الحرب في أوكرانيا. احتفظ عالم الإنثروبولوجيا حتى الآن بمعظم مداخلاته حول هذا الموضوع للجمهور، حتى أنه نشر في الأرخبيل الياباني كتابا بعنوان اعتبرته بعض الدوائر في الغرب استفزازيا: «لقد بدأت الحرب العالمية الثالثة بالفعل». - ما السبب الذي دفعك إلى نشر هذا الكتاب حول الحرب في أوكرانيا في اليابان وليس في فرنسا؟ اليابانيون هم معادون لروسيا مثلهم مثل الأوروبيين، لكنهم بعيدون جغرافيًا عن الصراع، لذلك لا يوجد شعور بدقة الموقف، وليس لديهم ارتباط عاطفي بأوكرانيا. لدي هنا في فرنسا والغرب سمعة سخيفة بأنني «مفكر تدميري»، بينما أنا في اليابان عالم إنثروبولوجيا ومؤرخ وعالم جيوسياسي مرموق، يتحدث في جميع الصحف والمجلات الكبرى، ويتم نشر كتبه. يمكنني التعبير عن نفسي هناك في جو هادئ، وهو ما فعلته أولاً في المجلات، ثم بنشر هذا الكتاب، وهو عبارة عن مجموعة من المقابلات. يحمل هذا الكتاب عنوان «الحرب العالمية الثالثة» التي بدأت بالفعل، وقد بيع منه في أيامه الأولى فقط 100,000 نسخة. - لماذا اخترت هذا العنوان لكتابك الجديد؟ لأن هذا هو الواقع، لقد بدأت الحرب العالمية الثالثة بأشكال مختلفة. صحيح أنها بدأت «صغيرة» واشتملت على مفاجأتين. لقد ذهبنا إلى هذه الحرب بفكرة أن الجيش الروسي كان قويًا جدًا وأن اقتصاده كان ضعيفًا جدًا. كان يعتقد أن أوكرانيا سوف يتم سحقها عسكريًا وأن روسيا سوف يسحقها الغرب اقتصاديًا، لكن العكس هو الذي حدث. أوكرانيا لم يتم سحقها عسكريًا حتى لو فقدت 16% من أراضيها في ذلك التاريخ؛ لم يتم سحق روسيا اقتصاديًا. بينما أتحدث إليكم، ارتفعت قيمة العملة الروسية «الروبل» بنسبة 8% مقابل الدولار و18% مقابل اليورو منذ اليوم السابق لبدء الحرب. لذلك كان هناك نوع من سوء الفهم، لكن من الواضح أن الصراع الذي ينتقل من حرب إقليمية محدودة إلى مواجهة اقتصادية عالمية، بين الغرب كله من جهة وروسيا المدعومة من الصين من جهة أخرى، تحول إلى حرب عالمية بأتم معنى الكلمة، وحتى لو كان منسوب العنف العسكري منخفضًا مقارنة بما كان عليه في الحروب العالمية السابقة. - ألا تبالغ بعض الشيء؟ الغرب ليس طرفا مباشرا في الحرب في أوكرانيا. كلا، الغرب يكثف من تقديم الأسلحة. نحن نقتل الروس حتى لو لم نفضح أنفسنا. لكن يظل صحيحًا أننا نحن الأوروبيين ملتزمون اقتصاديًا قبل كل شيء. نحن ندرك أيضًا أن دخولنا الحقيقي إلى الحرب سيأتي من بوابة التضخم ونقص المواد، بما في ذلك المواد الاستهلاكية. لقد ارتكب الرئيس فلاديمير بوتين خطأً فادحًا في البداية، وهو أمر له أهمية اجتماعية وتاريخية هائلة. أولئك الذين اهتموا بدراسة حالة أوكرانيا حتى عشية الحرب لم يروا أنها ديمقراطية وليدة، بل مجتمع في حالة انحلال و«دولة فاشلة» في طور التكوين. تساءلنا عما إذا كانت أوكرانيا قد فقدت 10 ملايين أو 15 مليون نسمة منذ استقلالها. لا يمكننا أن نقرر؛ لأن أوكرانيا لم تجر تعدادًا سكانيًا منذ عام 2001، وهي علامة كلاسيكية لمجتمع يخاف من الواقع. أعتقد أن حسابات الكرملين كانت أن هذا المجتمع المتحلل سوف ينهار عند الصدمة الأولى، أو حتى يقول «مرحباً يا أمي» لروسيا المقدسة. لكن ما اكتشفناه، على العكس من ذلك، هو أن المجتمع المتحلل، إذا تم تغذيته بالموارد المالية والعسكرية الخارجية، والغربية تحديدا، يمكن أن يجد في الحرب نوعًا جديدًا من التوازن، وحتى الأفق والأمل. لم يكن بوسع الروس توقع ذلك. لا أحد يستطيع. - ألم يقلل الروس من قدرة أوكرانيا على الصمود والقوة التي يدعم بها الغرب، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، نظام كييف؟ ألا تقلل أنت أيضا من قدرة أوكرانيا على الصمود؟ لست أدري. أنا أدرس هذه المسألة. لكن كباحث، هذا يعني الاعتراف بأن هناك أشياء لا نعرفها. ومن الغريب بالنسبة لي أن أحد المجالات التي لدي القليل من المعلومات لاتخاذ قرار بشأنها هو أوكرانيا. يمكنني أن أخبرك، استنادًا إلى البيانات القديمة، بأن نظام الأسرة في روسيا الصغيرة كان نوويًا، أكثر فردية من النظام الروسي العظيم، الذي كان أكثر جماعية. لكن ما أصبحت عليه أوكرانيا، في ظل التحركات السكانية الهائلة، والاختيار الذاتي لأنواع اجتماعية معينة من خلال البقاء في مكانها أو عن طريق الهجرة قبل وأثناء الحرب، لا يمكنني إخباركم بذلك، نحن لا نفعل ذلك. لا أعرف في الوقت الحالي. بادئ ذي بدء، أعترف أنني فوجئت ببدء الحرب، ولم أصدق ذلك. أشارك اليوم تحليل العالم الجيوسياسي «الواقعي» الأمريكي جون ميرشايمر. لقد أدلى هذا الأخير بالملاحظة التالية: «لقد كانوا يخبروننا أن أوكرانيا، التي استولى جنود حلف الناتو (الأمريكيون والبريطانيون والبولنديون) على جيشها منذ عام 2014 على الأقل، كانت بالتالي عضوًا فعليًا في الناتو، وأن الروس قد أعلنوا أنهم لن يتسامحوا أبدًا مع أوكرانيا العضو في الناتو». لذلك فإن هؤلاء الروس (كما أخبرنا بوتين في اليوم السابق للهجوم) يخوضون حربا وقائية واستباقية ودفاعية من وجهة نظرهم الدفاعية والوقائية. يعتبر ميرشايمر أنه لن يكون لدينا أي سبب للفرح بالصعوبات التي يواجهها الروس في نهاية المطاف لأنه نظرًا لأن هذا سؤال وجودي بالنسبة لهم، فكلما كان الأمر أكثر صعوبة، صعدوا وكثفوا من عنف ضرباتهم لأوكرانيا. يبدو أن هذا التحليل صحيح وهو ما تشهده اليوم. قد لا يكون الغرب طرفا «مباشرا» لكنه يخوض هذه الحرب بأشكال عدة. أود أن أضيف تكملة ونقدًا إلى تحليل ميرشايمر. -ما الذي تريد أن تضيفه؟ عندما يقول ميرشايمر إن أوكرانيا هي بحكم الواقع عضو في حلف الناتو، فإنه لا يذهب بعيدًا بما فيه الكفاية. أصبحت ألمانيا وفرنسا شريكين ثانويين في حلف الناتو، ولم تكونا على علم بما يجري في أوكرانيا على المستوى العسكري. تم انتقاد السذاجة الفرنسية والألمانية لأن حكومتنا لم تؤمن بإمكانية الغزو الروسي. بالتأكيد، لكن لأنهم لم يعرفوا أن الأمريكيين والبريطانيين والبولنديين يمكن أن يسمحوا لأوكرانيا بأن تكون قادرة على شن حرب على نطاق أكبر. المحور الأساسي لحلف الناتو الآن هو واشنطن - لندن - وارسو - كييف، وليس فرنسا وألمانيا. لنأتي إلى جانب النقد – لا شك أن جوني ميرشايمر، مثله مثل أي أمريكي جيد، يبالغ في تقدير بلاده. وهو يعتبر أنه، إذا كانت الحرب في أوكرانيا بالنسبة إلى الروس وجودية، فهي بالنسبة إلى الأمريكيين مجرد «لعبة» قوة واحدة من بين ألعاب أخرى. وبعد الكوارث الأمريكية في فيتنام والعراق وأفغانستان، فإنه لا يكون إذا عاشت الولايات المتحدة الأمريكية كارثة أخرى. تتمثل البديهية الأساسية للجغرافيا السياسية الأمريكية في الآتي: «يمكننا أن نفعل ما نريد لأننا محميون، بعيدون، بين محيطين، ولن يحدث لنا شيء على الإطلاق». لن يكون هناك شيء وجودي لأمريكا. هذا التحليل غير المنقوص هو الذي يقود جو بايدن اليوم إلى الاندفاع المتهور. كلا، الولايات المتحدة الأمريكية دولة تعاني بدورها من الهشاشة. لا شك أن صمود الاقتصاد الروسي وقدرته على المقاومة هو الذي يدفع النظام الإمبريالي الأمريكي نحو الهاوية، عسكريا واقتصاديا. لم يكن أحد يتوقع أن يصمد الاقتصاد الروسي أمام «القوة الاقتصادية» لحلف شمال الأطلسي. أعتقد أن الروس أنفسهم لم يتوقعوا ذلك. إذا قاوم الاقتصاد الروسي العقوبات إلى أجل غير مسمى وتمكن من استنفاد قدرات الاقتصاد الأوروبي، بينما حافظ هو على مرتكزاته، مدعومًا من الصين، فإن ذلك قد يؤدي إلى انهيار الضوابط النقدية والمالية الأمريكية التي تهيمن بها واشنطن على العالم، وينهار معها احتمال أن تمول الولايات المتحدة عجزها التجاري الهائل. لذلك أصبحت هذه الحرب وجودية بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى غرار روسيا، لم يعد يمكن للأمريكيين الانسحاب من الصراع في أوكرانيا أو التخلي عنه. لهذا نحن الآن في حرب لا نهاية لها، في مواجهة يجب أن تكون نتيجتها انهيار أحدهما أو الآخر. يبتهج الصينيون والهنود وبعض الدول الأخرى من بين آخرين. - لكن الجيش الروسي يواجه تحديات وصعوبات كبيرة، بل إن البعض في الغرب يراهن على انهيار نظام موسكو. ما رأيك؟ كلا. في البداية يبدو أنه كان هناك تردد في روسيا، وشعور بالتعرض للمغالطة وعدم التهيؤ، لكن الروس عدلوا بوصلتهم وحافظوا على استقرارهم في الحرب، كما أن بوتين يستفيد من شيء ليس لدينا أي فكرة عنه، وهو أن سنوات حكم بوتين، كانت بالنسبة للروس سنوات عودة التوازن، والعودة إلى الحياة الطبيعية بعد الإهانة التي تعرضوا لها في عهد سلفه بوريس يلتسن. لقد كانت سنوات التسعينيات من القرن الماضي فترة معاناة غير مسبوقة لروسيا. وبالمقبل فإن الرئيس إيمانويل ماكرون يمثل في نظر الكثير من الفرنسيين عنوانا لاكتشاف عالم خطير لا يمكن التنبؤ به، والعودة إلى عالم الخوف وهواجس الماضي الأليم. كان العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بمثابة عودة إلى الوضع الطبيعي، وليس فقط من حيث مستويات المعيشة: لقد رأينا معدلات الانتحار والقتل تتراجع، وفوق كل شيء، المؤشر المفضل لدي، وهو معدل وفيات الرضع، ينخفض وحتى أقل من المعدل في الولايات المتحدة. يجسد بوتين في أذهان الروس هذا الاستقرار. وبشكل أساسي، يعتقد المواطنون الروس العاديون، مثل رئيسهم، أنهم يخوضون حربًا للدفاع عن أنفسهم وبلادهم. إن الروس يدركون أنهم ارتكبوا أخطاء في البداية، لكن إعدادهم الاقتصادي الجيد زاد من ثقتهم، ليس في مواجهة أوكرانيا، ولكن ضد ما يسمونه «الغرب الجماعي» أو «الولايات المتحدة وأتباعها». إن الأولوية الحقيقية للنظام الروسي ليست الانتصار العسكري على الأرض، وليس فقدان الاستقرار الاجتماعي الذي اكتسبه في السنوات العشرين الماضية. لذا فهم يشنون هذه الحرب «على الاقتصاد»، وخاصة على «اقتصاد الرجال»، لأن روسيا لا تزال تعاني من مشكلتها الديموغرافية، حيث يبلغ معدل الخصوبة 1.5 طفل لكل امرأة. لذلك يسعى الروس إلى إعادة بناء اقتصاد حرب جزئي، ولكن من خلال الرغبة في الحفاظ على الرجال. هذا ما يفسر انسحاب الجيش الروسي من منطقة خيرسون بعد انسحابه من مناطق أخرى شملت خاركيف وكييف وهي استراتيجية ذكية. نحن في الغرب نحسب الكيلومترات المربعة التي استولى عليها الأوكرانيون، لكن الروس ينتظرون سقوط الاقتصادات الأوروبية. نحن الغربيون نمثل جبهتهم الرئيسية. بالطبع، قد أكون مخطئًا، لكني أعيش مع فكرة أن السلوك الروسي مقروء، لأنه عقلاني. - أنت تعتبر أن الروس ينظرون إلى النزاع الحالي في أوكرانيا على أنها تمثل «حربا دفاعية» لكن لا أحد حاول غزو روسيا. بسبب الحرب في أوكرانيا لم يسبق لحلف «الناتو» أن كان بمثل هذا التأثير في أوروبا الشرقية، فيما تسعى دول البلطيق إلى الانضمام إلى هذا الحلف. إذا نظرنا إلى خريطة أوكرانيا، نرى دخول القوات الروسية من الشمال والشرق والجنوب. نتبين بالفعل الرؤية الكامنة وراء التدخل العسكري الروسي. أما إذا نظرنا إلى الصورة الكبيرة التي تظهر لنا العالم – مع التركيز على الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، فإننا سنرى كيف أن بنادق وصواريخ حلف الناتو موجهة من مسافة بعيدة إلى ساحة المعركة، وهي حركة أسلحة كانت قد بدأت قبل الحرب في أوكرانيا. تقع «باخموت» على بعد 8400 كيلومتر من واشنطن و130 كيلومترًا من الحدود الروسية. تسمح قراءة بسيطة لخريطة العالم، على ما أعتقد، بالنظر في الفرضية القائلة «نعم، من وجهة النظر الروسية، يجب أن تكون حربًا دفاعية». - هل تعتقد أن دخول روسيا هذه الحرب يعود إلى التراجع النسبي للولايات المتحدة؟ في كتاب «ما بعد الامبراطورية»، الذي نُشر عام 2002، ناقشت التدهور طويل الأمد للولايات المتحدة وعودة القوة الروسية. منذ عام 2002، عانت أمريكا من سلسلة من الإخفاقات والنكسات. غزت الولايات المتحدة العراق، لكنها غادرت، تاركةً إيران لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط. فر الأمريكيون بعد ذلك من أفغانستان. لقد عملت أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية على توتير العلاقات بين روسيا وأوكرانيا وجعل كييف تدور في الفلك الغربي غير أن ذلك لم يمثل أي إضافة للغرب. على العكس من ذلك لقد شهدنا استنفاد تلك النزعة الغربية التي انطلقت حوالي عام 1990، والتي رافقها تصاعد العداء لروسيا لدى البولنديين ودول البلطيق. ومع ذلك، فقد اتخذ الروس في هذا السياق من الارتداد الأمريكي قرارًا بالتدخل عسكريا في أوكرانيا وإفشال الخطط الغربية وحلف الأطلنطي، لأنهم شعروا أن لديهم أخيرًا الوسائل التقنية والعسكرية للقيام بذلك. لقد قرأت للتو كتابًا بقلم س. جايشانكار، وزير الخارجية الهندي (طريقة الهند)، نُشر قبل الحرب مباشرة، والذي يشخص فيه المؤلف مواطن ضعف الولايات المتحدة الأمريكية، ومن يدري فقد لا تفضي المواجهة بين الصين والولايات المتحدة إلى فائز، وإنما قد توفر المساحة الجيوسياسية اللازمة لبلد مثل الهند، والعديد من البلدان الأخرى، باستثناء الأوروبيين واليابان. نحن نرى في كل مكان مواطن ضعف الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن ليس في أوروبا واليابان، لأنه كلما تراجعت الولايات المتحدة الأمريكية في العالم زادت من إحكام وتعزيز قبضتها على محمياتها. إذا قرأنا الكتاب الذي ألفه مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسباق زبجنيو بريزنسكي بعنوان (رقعة الشطرنج الكبرى)، فإننا نرى أن الإمبراطورية الأمريكية تشكلت في نهاية الحرب العالمية الثانية بغزو ألمانيا واليابان، اللتين لا تزالان محميتين حتى اليوم. مع تقلص نفوذ النظام الأمريكي، فإن ذلك يثقل كاهل النخب المحلية للمحميات، وأنا أعني أيضا كامل أوروبا. وفي هذا الصدد، فإن من يفقد الاستقلال الذاتي الوطني سيكون (أو بالفعل) الإنجليز والأستراليين. لقد أنتج الإنترنت تفاعلًا بشريًا مع الولايات المتحدة الأمريكية في المحيط الإنجليزي لدرجة أن نخبها الأكاديمية والإعلامية والفنية، إذا جاز التعبير قد أصبحت ملحقة بأمريكا. نحن في القارة الأوروبية محميون إلى حد ما من قبل لغاتنا الوطنية، لكن الانخفاض في استقلاليتنا كبير وسريع. لنتذكر حرب العراق عندما عقد شيراك وشرودر وبوتين مؤتمرات صحفية مشتركة ضد الحرب. - يقول المحللون والخبراء إن الناتج الداخلي الخام في روسيا يعادل الناتج الخام في إسبانيا. فهل نبالغ في تضخيم قوة الاقتصاد الروسي وقدرة نظام موسكو على الصمود؟ تصبح الحرب اختبارًا للاقتصاد السياسي. فالناتج المحلي الإجمالي لروسيا وبيلاروسيا يمثل نسبة 3,3% من الناتج الإجمالي الغربي (الولايات المتحدة، المحيط الإنجليزي، أوروبا، اليابان، كوريا الجنوبية)، أي نسبة تكاد لا تذكر. يتساءل المرء إذًا، كيف يمكن لهذا الناتج المحلي الإجمالي الضئيل التأقلم والاستمرار في إنتاج الصواريخ. والسبب هو أن الناتج المحلي الإجمالي هو مقياس وهمي للإنتاج. إذا أخذنا من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي نصف نفقاتها الصحية الزائدة عن الحد، ثم من خلال اقتصاد كامل من الخدمات غير المحددة بما في ذلك، ما ينتجه ما بين 15 إلى 20,000 اقتصاديًا بمتوسط راتب يبلغ 120,000 دولار، ندرك أن جزءًا كبيرًا من هذا الناتج المحلي الإجمالي هو عبارة عن بخار ماء. تعيدنا الحرب إلى الاقتصاد الحقيقي، فهي تسمح لنا بفهم الثروة الحقيقية للأمم، والقدرة الإنتاجية، وبالتالي القدرة على الحرب. إذا عدنا إلى المتغيرات المادية، فإننا نرى الاقتصاد الروسي. في عام 2014، فرضنا أول عقوبات كبرى على روسيا، لكنها زادت إنتاجها من القمح، الذي ارتفع 40 إلى 90 مليون طن في عام 2020. وبفضل النيوليبرالية، تراجع إنتاج القمح الأمريكي بين عامي 1980 و2020 من 80 إلى 40 مليون طن! أصبحت روسيا أيضًا المصدر الرئيسي لمحطات الطاقة النووية. في عام 2007، أوضح الأمريكيون أن خصمهم الاستراتيجي كان في مثل هذه الحالة من الاضمحلال النووي بحيث سيكون لدى الولايات المتحدة قريبًا قدرة الضربة الأولى على روسيا التي لا تستطيع الرد. اليوم، الروس متفوقون نوويًا بصواريخهم التي تفوق سرعتها سرعة الصوت. لذلك تمتلك روسيا قدرة حقيقية على التكيف. عندما نريد أن نسخر ونستهزئ بالاقتصادات المركزية، فإننا نؤكد جمودها، وعندما نمجد الرأسمالية، فإننا نثني على مرونتها. نحن على حق. لكي يكون الاقتصاد مرنًا، يجب بالطبع أن تكون هناك آليات سوقية ومالية ونقدية. لكنك تحتاج أولاً إلى سكان نشيطين يعرفون كيف يفعلون الأشياء. يمثل سكان الولايات المتحدة الأمريكية حاليا أكثر من ضعف عدد سكان روسيا (2,2 مرة في الفئات العمرية للطلاب). تظل الحقيقة أنه مع نسب مماثلة من الشباب الذين يدرسون في التعليم العالي، في الولايات المتحدة، 7% يدرسون الهندسة، بينما في روسيا 25%. مما يعني أنه مع وجود عدد أقل بمقدار 2,2 مرة من الأشخاص الذين يدرسون، يقوم الروس بتدريب مهندسين أكثر بنسبة 30%. تملأ الولايات المتحدة الفجوة من خلال الطلاب الأجانب، لكن معظمهم من الهنود وحتى الصينيين. هذا المورد البديل ليس آمنًا وهو في تناقص بالفعل. هذه هي المعضلة الأساسية للاقتصاد الأمريكي: لا يمكنه مواجهة المنافسة من الصين إلا من خلال استيراد العمالة الصينية الماهرة. أقترح هنا مفهوم التوازن الاقتصادي. من جانبه، قبل الاقتصاد الروسي قواعد عمل السوق ولكن مع دور كبير جدًا للدولة، لكنه أيضًا يستمد مرونته من تدريب المهندسين الذين تسمح بالتكيفات الصناعية والعسكرية. - يقول الكثير من المحللين ان الرئيس فلاديمير بوتين قد استفاد كثيرا من عائدات المواد الخام من دون العمل على تنمية الاقتصاد؟ لو كان الأمر كذلك، لما حدثت هذه الحرب. من الأمور اللافتة للنظر في هذا الصراع، الذي يجعله غير مؤكد، أنه يطرح (مثل أي حرب حديثة)، مسألة التوازن بين التقنيات المتقدمة والإنتاج الضخم. ليس هناك شك في أن الولايات المتحدة لديها بعض من أكثر التقنيات العسكرية تقدمًا، والتي كانت في بعض الأحيان حاسمة بالنسبة للنجاحات العسكرية الأوكرانية. ولكن عندما تخوض حرب استنزاف على المدى الطويل، ليس فقط من جانب الموارد البشرية ولكن أيضًا من الناحية المادية، فإن القدرة على الاستمرار تعتمد على صناعة إنتاج أسلحة أقل جودة. نصل هنا إلى مسألة العولمة والمشكلة الأساسية التي يواجهها الغرب: لقد نقلنا مثل هذه النسبة من أنشطتنا الصناعية إلى بلدان أخرى، بما في ذلك الصين، حتى أننا لا نعرف اليوم ما إذا كان إنتاجنا الحربي يمكن أن يتطور ويحافظ على استدامته. تدرك الدول الغربية هذه المشكلة. على سبيل المثال تتساءل «سي إن إن» و«نيويورك تايمز» و«البنتاغون» عما إذا كانت أمريكا ستتمكن من إعادة تشغيل خطوط الإنتاج لهذا النوع أو ذاك من الصواريخ، لكن من غير الواضح أيضًا ما إذا كان الروس قادرين على مواكبة وتيرة مثل هذا الصراع. ستعتمد نتيجة الحرب وحلها على قدرة كلا النظامين على إنتاج الأسلحة. نرى أن هذا الصراع، الذي وصفته وسائل الإعلام لدينا بأنه صراع للقيم السياسية، هو على مستوى أعمق صراع القيم الإنثروبولوجية. هذا اللاوعي وهذا العمق هو ما يجعلان المواجهة خطرة. لوفيجارو
مشاركة :