شدني وأنا أقرأ ذكريات هاشمي رفسنجاني، حديثه الناضح بالعاطفة عن سيّد قطب وأفكاره، وكيف تأثر به أركان الثورة الخمينية ورموزها. ذكر رفسنجاني كيف كانوا يتدارسون ظلال القرآن لسيد، وكيف كانوا ينفعلون به حدّ البكاء، وكيف ضجّوا بالعويل حين بلغهم خبر قتله وهم في سجون الشاه. جاشت في فؤادي الأسئلة وأنا أقرأ هذا الكلام الذي كان يخطه هاشمي رفسنجاني بأسلوب عاطفي مشبوب، ما السرّ الذي جعل لسيد قطب هذه المنزلة –وهو سنّي– عند أقطاب الثورة، وهم مخالفون له في المنهج؟ لماذا لم يكن هذا الانفعال مع كاتب آخر غير سيد قطب؟ ما الذي تميّز به سيد قطب دون غيره من مفكري أهل السنّة ليقبل عليه من ليس سُنيًا؟ إذ من المعقول والطبيعي أن يتفاعل مع سيد قطب أناس من أهل السنّة، يتأثرون به ويحتفون ويشيدون، ولكن أن يتأثر به قوم مختلفو المذهب أمر لافت للنظر؛ إلا إذا قلنا: إن الفكر القطبي فكر مناسب للروح الثوريّة "الإسلاميّة" سواءٌ أكان الثائرون سنّة أم شيعة. غير أني –مع وجاهة التحليل السابق– أرى أن هناك أمرا آخر أعمق من مجرد السياق الثوري، ومناسبة الوارد للمورود. أرى أن هناك قواسم مشتركة تجعل لسيد قطب قبولا لدى أقطاب الثورة الخمينية، تلك القواسم ليست في تفاصيل فكرة سيد، بل في أركانها الرئيسة. من المعلوم أن أهم أركان فكر سيد قطب هي: فكرة الحاكمية، وجاهلية المجتمعات، والمفاصلة الشعورية حتى تحقق "العصبة المؤمنة" دولتها المنشودة. الحاكمية التي على أساسها بنى أحكاما مطلقة، ورتب عليها موقفا وسلوكا. أما الأحكام المطلقة فهي جاهلية المجتمعات، فلا يخفى على مطلع أن سيد قطب كان يصف المجتمعات الإسلامية بأنها مجتمعات جاهلية، بل أوحى في بعض المواضع من كتبه بأن المساجد معابد جاهلية –وهذا لا شك غلوّ منه في وصف بيوت الله بذلك– ثم يترتب على هذا الحكم المطلق أن تعتزل "العصبة المؤمنة" هذه الجاهلية ومعابدها، لتتخذ لها مساجد في جوّ من الطهر والنظافة؛ فيقول مثلا: "وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية. وهما معا ضروريتان للأفراد والجماعات، خاصة قبيل المعارك والمشقات. ولقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية، ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة، وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئا كثيرا في ساعة الشدة. وهذه التجربة التي يعرضها الله على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة، ليست خاصة ببني إسرائيل، فهي تجربة إيمانية خالصة. وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة -وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة- وهنا يرشدهم الله إلى أمور: اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها -ما أمكن ذلك- وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها، لتطهرها وتزكيها، وتدربها وتنظمها، حتى يأتي وعد الله لها. اعتزال معابد الجاهلية، واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد. تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي، وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح وتزاول بالعبادة ذاتها نوعا من التنظيم في جو العبادة الطهور". هل نجد لهذه الأفكار شبيها في تراث الإمامية؟ أزعم أنا –وقد أكون مخطئا– أنْ نعم! فجاهلية المجتمعات تشابه مصطلح "العامّة" أو "الجمهور" في التراث الإمامي. العامة التي تكون مخالفتُها مرجِّحًا للصواب، فعن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبدالله، عليه السلام، عن رجلين من أصحابنا بينهما دَين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل، فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يكون سحتا وإن كان حقا ثابتا؛ لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى:"يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به". قلت: فكيف يصنعان؟ قال: "ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما...". وفي الحديث نفسه، أن جعفر الصادق سئل:"جُعِلتُ فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة، والآخر مخالفا لها، بأي الخبرين يؤخَذ؟ قال: ما خالف العامّةَ ففيه الرشاد" [أصول الكافي، ج1: ص40]. مخالفة المجتمعات المسلمة التي يعدها سيد قطب مجتمعات جاهلية، يشابه مخالفة العامة في الحديث السابق، حتى وإن كان القضاء يحكم بالشريعة، إلا أنه رضا بحكم "الطاغوت" إذا تحوكم إليه؛ فوجب التحاكم إلى غيره ممن هم على المنهج. تلك المخالفة للمجتمعات الجاهلية أو العامة مبنية على المفاصلة الشعورية، المفاصلة الكاملة، إذ يقول سيد قطب: "فالذين يحملون راية هذه العقيدة لا يكونون مؤمنين بها أصلا، ولا يكونون في ذواتهم شيء، ولا يحققون في واقع الأرض أمرا ما لم تتم في نفوسهم المفاصلة الكاملة بينهم وبين سائر المعسكرات التي لا ترفع رايتهم، وما لم يتمحض ولاؤهم لله ورسوله، ولقيادتهم الخاصة المؤمنة به". وهكذا لا يمكن لمن يحمل راية هذه العقيدة أن يكونوا مؤمنين بها أصلا، ما لم تكن هناك مفاصلة كاملة بينهم وبين سائر المعسكرات التي لا ترفع رايتهم! وهو شبيه بنظرية الولاية التي تقتضي البراءة الكاملة القاطعة من كل "أعداء" فلان! أو من يظنونهم أصحابُها أعداءه. تلك المفاصلة التي تجعل "العصبة المؤمنة" من كلا الطرفين تعيش في "عزلة" عن المجتمع، و"استعلاء إيماني" طهوري عليه، هو عنف سلبي، عنف سلبي لا يؤذي أحدا في الحقيقة، ولكن مآلاته قد تؤدي في ظروف مناسبة إلى أن يكون عنفا إيجابيا. وإذا أضفنا إلى ما سبق أن الوليّ الفقيه نائب عن المهدي المنتظر، ينوبه في كل شيء إلا "البداءة بالجهاد"؛ فإن "التوسع" لازم لهذه النظرية؛ إذ المهدي المنتظر عالمي الرسالة؛ مبعوث للأمة كلها، ويتخلص من نظرية البداءة بالجهاد بجعله جهادا دفاعيا؛ شبيها بالحجة التي رفعت في سورية "الدفاع عن المراقد المقدسة"؛ لا لإقناع الخصوم، بل لإقناع الموالين بأن هذا ليس بداءة بالجهاد؛ إذ هذا لا يكون إلا للمهدي لا للولي الفقيه، ولكنه جهاد دفع! فيسوغ فقهيا! أما أصحاب الحاكمية الذين يطالبون بالخلافة، فالتوسع لازم لمبدئهم كذلك؛ إذ هدف الخلافة جمع الأمة كلها تحت سلطان الخليفة. وبهذا تتم المقابلة: ولاية الفقيه في مقابل الحاكمية، جاهلية المجتمعات في مقابل العامّة والجمهور، البراءة من أعداء الإمام في مقابل المفاصلة الشعورية.
مشاركة :