الرِّوائي الأَبْخَازي باغرات شينكوبا Bagrat Shinkuba: (البِذْرَةُ الأخيرَةُ) أم (المخطوطُ الأَخيرُ)؟ [أَبْعَدُ مِنَ الكتابةِ أو التّدقيقِ]

  • 1/30/2023
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

باغرات شينكوبا Bagrat Shinkuba ولد (باغرات شينكوبا) في 12 أيار/مايو من عام 1917 في القرية الأَبْخَازيَّة الكبيرة (تشلوو)، في ناحية (لاغانياخو)، التي مجَّدها لاحقًا في أشعاره الجميلة. ومن المعروف أن جد الشَّاعر (جاجا) كان واحدًا من الذين لم يهاجروا أثناء الإخلاء القَسْري للأبخاز من أراضيهم في القرن التَّاسع عشر إلى الإمبراطورية العثمانية، بل تمكن من البقاء مع أسرته في الوَطَن، ثم ساهم في عودة أقاربه إلى (أبخازيا) من الخارج. الطُّفولة والشَّباب وفي طفولته، عُمِّدَ سِرًا، كما يحدث عادةً في الاتِّحاد السّوفياتي بعيدًا عن أعين السُّلُطات. درس (باغرات شينكوبا) في البداية في مدرسة (تشلوو)، ثم في مدرسة (السَّبع السَّنوات في قرية جغيردا). وفي سن الـ 14، التحق بـ(كلّية سوخوم) التَّربوية، حيث اكتشف أن لديه الأُذُن الموسيقيَّة، “حتى إنهم تنبأوا بمستقبله كعازف كمان عظيم وأعطوه كمانًا هناك”- كما يقول حفيده (ميكا). ولم يتابع دروس الموسيقا بعد أن كُسِرَ كمانُهُ، لكنه ظلَّ طوال حياتِه عاشقًا للموسيقا الشّعبية والكلاسيكية وللأوبرا، وكان يعزف على آلة موسيقية شعبية (أبخارتسي): وهي أداة وترية شعبيَّة قديمة ذات وترين. وقد لحَّن الملحن (إيفان لاكربا)، شقيق الكاتب (ميخائيل لاكربا)، (تهويدة المهاجرين) للشَّاب، ففتِحَ الطريق أمامه مذ سمعهانائب رئيس أكاديميَّة العلوم في جورجيا، (سيمون نيكولايفيتش دجاناشيا) الذي كان في (سوخوم). وبعد ذلك، التحق مع بعض الممثلين الشَّباب الموهوبين الآخرين من المثقفين الأَبْخَاز بـ(معهد الدِّراسات اللغوية العليا) في (تبليسي). وعندما بدأت الحرب الوَطَنيَّة العظمى، استثنى (سيمون نيكولايفيتش دجاناشيا) الموهوبين من طلاب الدِّراسات العليا، تحت ذريعةِ أنه “يجب تقديم لهم ما يسمى بـ(الحماية)، وأنه يجب ألا يُرسَلوا إلى الجبهة”، وقد شمل هذا (باغرات شينكوبا) و(شالفا إينال-إيبا)، والأخير مؤرخ أبخازي شهير واختصاصيّ عرقيّ وناقد أدبيّ، إضافة إلى (غيورغي دزيدزاريا)، وهو مؤرخ أبخازيّ مختص بعلوم القوقاز، فتابعَ (شينكوبا) دراستَهُ العليا، ثم عادَ إلى الوَطَن، حيث عملَ في المعهد الأَبْخَازي للُّغة والأدب والتَّاريخ. وفي عام 1945، دافع عن أطروحته بشأن تشكيل الكلمات الأَبْخَازيَّة، وقدم عددًا من الملاحظات والاكتشافات المثيرة للاهتمام. الأغاني الأولى في الثّامنة عشر من عمره 1935، ظهرت الأبيات المطبوعة الأولى لـ(شينكوبا)، وكانت قد كتبها 13-20 سنة، وفي الوقت الذي ترجم فيه الكلاسيكيات الشّعرية، رافضًا مقولة أن الشِّعر لا يُتَرجَم، فبدأ التَّرجمة مذ كان في السابعة عشر، فترجم إلى الأَبْخَازيَّة (زهرة) لـ (بوشكين)، وترجم (غوته)، و(غيني)، و(بايرون). وتُعد قصائدُه من أفضل الشِّعر الأَبْخَازيّ، ومن بينها: (الحلم)، (البلوزة البيضاء)، (شاردامات)، (تهويدة المهجرين). وقد انعكسَ فيها- حسب الكاتب (داور ناتشكيبيا)– تميّز شعره بـ”الجمال الكامل، من صوتٍ ولحن وتفاصيل اللغة الأَبْخَازية الدّقيقة. كما ظهرت فيها روح (أبخازيا)”. أما نثره، فقد تأخر عن الشّعر، فظهر في السّتينيات، فكتبَ سيرتَه الذّاتية تحت عنوان: (فَلْقْ الحجر)، حيث الأحداث تدور في بداية العقدين من القرن العشرين. الأَبْخَازيّ الكلاسيكيّ ووفقًا لحفيد الشَّاعر، كان (باغرات شينكوبا) “أبخازيًّا كلاسيكيًّا” في سلوكه ونظرته، وحتى في طريقة ملابسه. وكان مولعًا بالمطبخ الوَطَني: فـكل يوم يتم تقديم العصيدة السَّاخنة على الطَّاولة في المنزل. وقد قام مع زوجته (تامارا مارشان) بتربية طفليهما: الابنة (بيانا)، والابن (بينور)، وكان لديهما خمسة أحفاد. و“إذا كان هناك أي مفهوم لما يجب أن يكون الجد المثالي عليه-كما يقول (ليفان ميكا)- فسوف يكون جدي؛ فعنه بقيت أدفأ وأحر الذكريات“. والأهم من ذلك كله- وفقًا للحفيد- أن (باغرات شينكوبا) كان قلقًا إزاء مصير (أبخازيا)، وكل محادثاته كانت تقود إلى: ماذا سيحدث لأبخازيا وشعبها، ماذا سيحدث للَّغة والثَّقافة؟ بغضِّ النَّظر عن شخصية الزَّائر، أو مع من يتحدث، فقد كانَ موضوعه الرّئيس هو الوَطَن. توفي الأديب عام 2004 عن عمر يناهز 86 عامًا. [(عارفة كاببا): بتصرف] وعلى قبرِهِ في قلب (سوخوم)، بجانب مسرح الدّراما، أُقيمَ نصبٌ تذكاريٌّ يخلِّدًه، وإليه يحضر معجبو أدبه لإلقاء تحية الحب لذلك الأديب الذي لم يغادر وطنُه كلماتِه أو فكرَهُ الملتزم. (البِذْرَةُ الأخيرَة) المخطوط- القضية قبل أن يصلَ مخطوطُ (البِذْرَة الأخيرَة) الذي يشرح قضية شعب (الأوبيخْ) القفقاسيِّ إلىالأديب (الأَبْخَازيّ) (باغرات شينكوبا)، فبوَّبَه، وعنونَهُ، ودقَّقَهُ، ثم نشرَهُ، فتُرجمَ إلى خمسَ عشرةَ لغةً- كما ذكرَ في مقدمة الرِّواية، وكما أكد عليه في نهايتها. وكانَ (شاراخ غفادريا)، عالم اللُّغاتِ (الأَبْخَازيّ) الذي درسَ اللِّغاتِ القفقاسيَّة- بما فيها اللُّغة الأوبيخْيَّة- والذي غادر بلادَه إلى تركيا والشَّرق الأوسط في مهمة علميَّة هدفها اللِّقاء بأشخاص يستخدمون في حياتهم اللُّغة (الأوبيخْيَّة) الحيَّة بقصد إيجاد أبجدية لهذه اللُّغة، فالتقى مُعَمِّرًا (أوبيخيًّا) اسمه (زاورقان زولاق) عاش هجرة (الأوبيخْيين) عام 1864 إلى (تركيا)، فلازمه مدة من الزَّمن قصَّ فيها عليه القصة من أولها، فدوَّنها ودوَّن ملاحظاتِه اللّغوية أيضًا، وتركها عند والدتِهِ آملًا نشرَها بعد عودتِهِ من الحرب العالمية الثَّانية التي اشترك فيها، ولكنه لم يَعُدْ؛ فنامَ المخطوط واحدًا وثلاثين عامًا قبل أن يرى النُّورَ على يدي الأديبِ (الأَبْخَازيِّ) الوطنيّ (باغراتْ شينكوبا). قدَّم محققُ (البِذْرَة الأخيرَة) ومصححُ مخطوطةِ مُواطِنِه (الأَبْخَازيّ) (شاراخ غفادريا) التي أحب أن يسميها “رواية”، وهي أقربُ إلى السِّيرة الذَّاتيَّة الحقيقيَّة دوَّنَ فيها(شاراخ غفادريا)– عن قصدٍ وسابقِ تصميمٍ- تفاصيلَ حياةِ أحدِ أهمِّ رجلٍ عاشَ حياة حافلةً وامتلكَ، إلى جانب الذّكريات الواضحة غير الملتبِسَةِ، سرَّ أسرار اللُّغة (الأوبيخْيَّة)، فكانَ، بالنّسبةِ إلى السّاعي إليه وبالنِّسبة إليه أيضًا، كنزًا يجب ألا يُدفَنَ بدفنِه في البلاد الغريبة التي لم يشعر يومًا بالانتماء إليها. وهذه السّيرةُ قامَت على (الانْزِيَاح الحَدَثيُّ)، أو ما يُسمّى بـ (اللَّا تسلسل الزَّمَني)، أو (التَّذبذب)، أو (التَّشويش الزّمني)؛ أي التَّبادلُ فيما بين المواقعِ الزَّمنيةِ في السَّرْدِ، من الحاضر، إلى الماضي، فالحاضر، وهكذا… وهو أسلوب جذّابٌ في القَصِّ، وقد فرَضَه السّردُ الوثائقيُّ، ما أعطاهُ شكلَ الرّواية. وشخصيَّتا السّيرةِ الرّئيستان: عالِم اللُّغةِ (الأَبْخَازيُّ)، والعَجُوز (الأوبيخْيُّ) الذي سردِ بذهن صافٍ، وبسعادةِ شاهِدٍ وجدَ مَن يصغي، لا إلى تدوين لغته التي ما زالتْ حيّةً طالما هو يتنفس، ولا إلى حكايةِ التَّهجيرِ فحسب، بل إلى الرّسالة الوطنيَّة المهمة التي تحملها هذه الشّهادة، والتي لا يفتأ المعَمِّر يشير إليها كلما قارنَ بين تصرف شعب (الأوبيخْ)، وشعب (أبخازيا)، معتبرًا تصرُّف (الأَبْخَاز) مثلًا أعلى على الشُّعوب المهَدَّدة بالتّهجير- أن تَتَّبِعَه، حتى لو تآمرَ زعماؤها، فوقَّعوا عنها باسمِهم ما يزعمون أنه لصالحِها، بينما لن يكونَ صالحُ أي شعبٍ أن يُهَجَّرَ من أرضِه. وقد حافظَتِ الشّخصيتانِ الرّئيستان، من أول المخطوطة إلى آخرِها، على واقعيتِهما، سواء من حيث إصغاء المُصغي بشغَفِ “متخصِّص” لم يؤثّر على اتّزانِ أكاديميته، مع توقُّفٍ أحيانًا لتحليلِ حديث ما، أو حادثة ما [مثل الصّلاة عند القِدِّيسَة بِيتْحَا قبل رحلةِ التَّهجير إلى تركيا]، أو من حيث اتّزانِ شخصية الرّاوي- الشّاهد، ما أعطى الكتابَ تلك الأهمية العلميَّة خلال كل صفحات المخطوطة، ما يجعلُنا نصنِّفها حقيقةً ضمن الأدب الوثائقيّ. وهذا ما سلَّطَ الضّوء على أهمية الشَّخْصِيَّتينِ وسار بالمخطوطة- اللّقاء مسار الرّوايةِ، إذ تبوّأتِ شخصيتاهما دورًا مهمّثا، وشكّلتا واسطةَ العقدِ بين جميع المُشكِّلاتِ السَّرديةِ، واصطنعَتا اللُّغَة من خلال بثّ الحوارِ واستقبالهِ واصطناع المُناجاةِ، ووصفِ المناظرِ، وإنجازِ الحدَث وإيجادِه والنّهوض به. كذلك من خلال إضرام الصّراع وتنشيطه، والتّفاعل النّشط مع الزّمان في أهم أطرافه الثَّلَاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل، والذي بدونها يشحب ويخمد. ولم يتكلّف صاحبُ المخطوطة رسمَ شخصيتِه وشخصية ضيفِهِ، لكنه استخدمَ وسائله المباشَرة (التَّحْليلية) حين وصف شخصية العَجُوز، مبتعِدًا عن وصفِ شخصيتِهِ هو، إلا إن جاءَتْ من خلال الحديث، مكتفيًا بوصف نفسه- على لسان العَجُوز، بـ”الشّاب”، فاستطاع ببراعةٍ أنْ يُنَحّي نفسَهُ- اللَّهمّ إلا حين توقّف مُحلِّلًا، مستخدِمًا وسائل تقديم شخصية العَجُوز غير المباشرة (الطَّريقة التَّمثيليّة)، مُتيحًا لشخصيةِ ضيفِهِ أن تعبِّرَ عن نفسِها وتكشفَ عن جوهرِها بأحاديثها وتصرفاتِها الخاصة، فقدمها للقارئِ حيَّةً مجسَّمة، حتى سمعَها تفكر وتتكلم وتعبر عن آرائها وتتصرَّف أيضًا حتى اللَّحظة الأخيرة من اللِّقاء، وهي لحظة بهيَّة، متكامِلة الشكل والمضمون، [الوقوف لابسًا ثيابه الشّركسيَّة كاملةً مودعًا ضيفه]، ما وضعَ اللّمساتِ الأخيرة على تحقيقِ التَّعاطف بين الضّيف والمُضيف، وبين المدَوِّن والقارئ، وذلك من خلال خلقِ جوٍّ انفعاليٍّ قادرٍ على جعلِ المدَوِّن والقارئ يقتدي بها. وهذا ما دعا ويدعو إلى إعجابِ الضّيفِ والقارئ والأديب (باغرات شينكوبا) وقتَ قرر نشر الكتاب بعد سنواتِ نومٍ في درجِ غرفةِ أُمِّ عالم اللّغةِ (الأبخازيّة)، والذي كان يعوّل على هذا اللِّقاءِ، لكنه الحربَ التهمَتْه كما تلتهم الشّبابَ وأحلامَهم، فإذا بنا أمام شخصيةِ (البطل الرئيس) بالذَّاِت واضحةً، إذ له اسْمٌ وهُويّة قوميّة وصفاتٌ جسديَّةٌ وخلقيةٌ وفكريةٌ محددةٌ إيجابية يجبهُ بها عراقيل الحياةِ الفكرية والجسدية وصولًا إلى الحقيقة البراغماتيّة القائمة على التّجربة، فلا يقع قارئ الكتابِ في شركِ الأبطالِ المزيَّفين، أو الخياليين. نحنُ، إذن، أمامَ رواية موثَّقَة بالحقائقِ التّاريخيَّة والمعيشيّة واللُّغوية، عرَّبَها: (عبد الهادي دهيسات)، و(يحيى الدّين سليق)، وطُبِعَتْ في (عمان: مكتبة الشّباب ومطبعتها 1981)– آملًا أن تكون وثيقة إنسانيَّة مثيرة للاهتمام، ولو لم تكنْ، ما تلقَّفَها خالُ العَجُوز (الأبخازيُّ) وقدَّمها بأمانةٍ، فنُشِرَتْ، وتُرجِمَتْ، وقُرِأَتْ من أصحاب القضايا التي تحفل بها، على تنوّعها، أو تقاربُها. ما فائدة العودة إلى الماضي؟ ستجيبُكَ الرِّوايةُ عن هذا السُّؤال، إذ تعودُ بِكَ في الذَّاكرة إلى الماضي الواضح المعالم المحفور “كأنَّه نقش على شاهدةِ قبر حجري”، وإن كان- في بعض الأحيان- “يشبه مصفاة”. [ص27-29]. ورغمَ أنَّ العَجُوز “الأَبْتَر” يؤمِنُ بأنَّ “الزّمنَ يخففُ الألمَ، ويجففُ الدَّمع ويجلل الذَّاكرة بعمامة النّسيان”، وبأنه “مُواسٍ عظيمٌ. فلو لم يكنْ لديه هذه الوظيفة، لَجُنَّ نصف البشريَّة حتمًا”. [ص251]، يدحض فجأةً هذه النّظرية التي تبدو مفيدةً عندما تمشي الحياة برتابتها المملةِ الخالية من توقُّعِ أي انتظار، فتميلُ النّظريةُ نحو السّخافةِ إنْ فوجئَ النّاسي بقادِمٍ من أرض الوطن، يتحدث لغته، وتعبق ثيابه برائحته، فإذا به من قادة أنصارِ التّذكُّر، وإذا به يرفع راية الجِهَاد ضد النّسيانِ، فيروح يدافعُ عن حقِّ الذَّاكرة في التّذكُّرِمخاطبًا ضيفَه (شاراخ غفادريا): “لماذا يجب تذكُّر الماضي وإحياء القديم وبعث ظلال الأسْلاف من جديد؟ نعم، كل ذلك للمَوعِظَة الحقَّة يا بُنَيّ، في سبيل الخير، ولتحذير النَّاس أحدهم أو الكثيرين منهم من تكرار الخطيئة القاسية، ثم النَّدَم المُرّ في المستقبل”. [ص251] موعظَةُ الموافَقَة على المغادرة العودةُ إلى الماضي، مقارنَةٌ شفّافَةٌ، مَلْحَمةٌ بُطُولِيَّةٌ، بتجاذباتها القلبيّة والعقليّة زَمَنَذاك، وإن لم تكن كالملاحم خارقةً للمَألوفِ، معتمدةً مُخَيّلة إغْرابيّة، بل هي تصف الحياةَ والحروبَ والغزوات والعادات والتّقاليد، كما تصف (التَّهجير) بما يحمله مِن مآسٍ وتمزقات وأمراضٍ وموتٍ وحقائقَ يصلُ إلى استكناهها مَن عانى وليس من سمعَ عن المعاناةِ. والرِّواية تختصرُ أوجاع الوَطَن؛ فتبدأ مِن الغِلاف بموعظةٍ هي خلاصة التّجاربِ المريرة: “مَنْ يَفْقِدْ وطنَه يفقدْ كلَّ شيء”، وتنتهي بتكريس الفكرةِ ذاتِها التي وصلَ إليها المهجّرون، والتي فهموا منها ماهيَّة الفقدان وعيشه واقعًا، إذ يصف الرَّاوي والمَرويّ له أزمات الوَطَن من خلال الوقوف على مُفْتَرق الاختيارات الصَّعبة؛ فتركيا- قبل الهجرة أو التَّهجير- هي أرض المسلمين المُبَارَكة [ص71] أو أرض السُّلطان، مالك نصف الدُّنيا، والّتي تمثِّل الجنة الحقيقيَّة [ص75-76] على الأرض؛ مؤمنين- كما نقلَ العَجُوز (زاورقان زولاق) برأي مؤيِّدي الهجرةِ أنَّ “السّلطان التّركي- وليّ الله على الأرض- سينقذنا إذا وافقْنا على حَمْل جنسيَّتِه. ولن يقوى أحدٌ على حمايتنا بعد الآن إلا السُّلطان بقدرته الجبارة” [ص63] من هنا، فإنها تكون الوَطَن- الدِّيَن، أو الوَطَن- الحلمَ الزَّاهي الّذي يقابلُه واقع الوَطَن-الأم المقيم، حيث يختطِفُ القَيْصَر وجنرالاتُه الزُّعماءَ الجبليين ويسوقونهم إلى (سيبيريا) الباردة [39ص]، أو إلى حيث يُرغمون الشَّراكِسَة على الانتقال إلى سهول (كوبان) الجرْداء حيث يجبرونهم على ترك دينِهِم وعلى التَّجنيد الإجباري في جيش القَيْصَر، ما يعني الخضوع التّامَّ لسلطة القَيْصَر. وقبل شَدِّ (الأوبيخْيين) الرّحال إلى (تركيا) عبر السُّفنِ المنتظِرةِ “الممهورةِ بالهلالِ الأخضرِ” [ص109]، قاتلين خيولهم التي لن يتركوها لأعدائهم، “اجتمعَ الجميعُ في المَرْج قربَ القِدِّيسَة (بِيتْحَا)، وقامَ حامي الضَّريح (صلاح) بذبْحِ عددٍ من العنزات البيضِ التي أُعِدَّت خصيصًا لتقديمِها للقديسة”، ودعا لقديستهم: “لا تتركينا نموتُ يا بِيتْحَا”! ورددَ الجميعُ وراءَه: “آمينْ، آمينْ”! وأَدّوا القسَمَ: “إذا تخلَّفَ شخْصٌ منَّا عن الجموع، فلتُمِتْهُ القِدِّيسَة، ولتلعِنْه إلى الأبَد، ولتلْعَنْ أطفالَه، وكل أقاربه أجمعين”. ثم أخذوا تمثال (بِيتْحَا الصَّغيرة) معهم إلى (تركيَّا)، “لترعاهم برعايتِها”، تاركين (بِيتْحَا الكبرى) في أرض الوطن؛ لأن الصَّغيرة تمثلها. وانتهت (بِيتْحَا الصَّغيرة)، آخر الرِّواية،بعد جدالٍ طويلٍعن توافُقِ تقديسِها والدِّينَ الإسلاميَّ، “بسرقتِها”، [ص206]فسُرِقَ من المهجَّرينَ أمانُهمْ وإيمانُهم. وقد سبقَ وأن تساءل (شاراخ غفادريا) وهو يستمع إلى ذكرياتالعَجُوز (زاورقان زولاق): “وفكرتُ أنا: لماذا لم يقرر (الأوبيخْ) الذين ملَكَت نفوسَهم الحماسةُ العارمةُ للغزوات، ودفعتهم إلى الارتحال إلى (تركيا) المسلمة، تاركين أراضيهم وجبالَهم أن يجتمعوا في المسجد، لا عند القِدِّيسَة (بِيتْحَا)؟ لعلَّ السّببَ في ذلك أن الله ما زالَ بعيدًا عن وعيِهم، في حين إن القِدِّيسَة التي اعْتادوا عليها كانت قريبةً منهم! اعتادوا القدوم إلى هنا فعلًا منذ القِدَم مرَّتْين في السّنة، لكي يصلُّوا شعبًا واحدًا. ودأبوا يقصدونَها فُرادى أيضًا ليتباركوا بها قبيل السَّفَر في طريق طويلٍ. ويأتي إلى هنا مَن اتُّهِمَ بالقيام بآثام ما، فتُبرَّأ ساحتُه أمام الشَّعب كلِّه، مؤدِّيًا قسَمَهُ عند (بِيتْحَا). لهذا، من الجَلِي أنه لم يسعَ (الأوبيخْ)، وهو يستعدون للانتقال إلى الأراضي المُسْلِمة أن يمضوا إلى هناك مِنْ دون أن يأخذوا معهم (بِيتْحَا الصُّغرى)”. [ص89] ويعلِّق(شاراخ غفادريا) على ما سمعَه من العَجُوز “الأَبْتَر” (زاورقان زولاق)- فيما يتعلق بقرار المغادرة، محلِّلًا، متوقِّفًا- كعادته- عند ما يصغي إليه، فلا يكتفي بالإصغاء والنَّقلِ، بل يساهم في شرح الحدَثِ الرِّوائي: “ما سمعتُه من هذا العَجُوز “الأَبْتَر”، من هذا الحيِّ الأخير بين الأموات، يقول لي: إن طريقَ (الأوبيخْ) قد فُرِضَ عليهم كالقضاء والقدر، ولم يتسنَّ لهم إطلاقًا اختيار مصيرٍ آخر”. [ص107] وما النَّتيجة؟ لا يمكنكَ توقُّعُ ما سيحدثُ مستقبلًا، إن لم تركب السُّفنَ المنتظِرةَ “الممهورةِ بالهلال الأخضر”، وإنْ لم تعانِ التّالي، أو ما يشابهه: “ازداد حريم الباشوات الأتراك والتّجار الأغنياء من الفتيات الغريبات كمًّا ونوعًا”. [ص 115]. وتحول حلمُ الهاربينَ من ظلمِ القَيْصَرِ “بأرضِ الجنّة إلى ندم وخيبة قاسيين” [ص127]، فقد “عاثَت الأمراض المميتةُ فتكًا وحشيًّا بالنّازحين”، و“باتوا “كالكلاب السّوقيّة العليلة، ينقِّبون في أكوام القاذورات عن شيء ٍيقتاتونه”. [ص129] وأدركوا، متأخِّرين، أن (الحاج جيراندوق)– زعيمهم في وطنهم الأمّ- قد باعَهم كما بيعَ صغارُهم في سوق التّجارة بالبشر، بأبخس الأثمان.[ص131] وكيف لا يُباعون، والباشا خصص في (تركيا) لكل أسرة “رغيفَ خبز يابس”؟ [ص142]. وهل أجادَتِ الأُسَرُ اختراعَ لقمة هانئةٍ قانَت على قولِ العجوز الأبترِ:“الفقير حاذقٌ في الاختراع”؟ [ص 264]. هل استطاعَ المُباعونَ تجاوزَ المقارنة بين الوطن الأمِّ والوطن الذي لم يرْقَ- بعد التّجربة- إلى أن يكون بمستوى الأول؟ شرحَ “الأَبْتَرُ” (زاورقان زولاق) قضيَّة الموقدِ، للأبخازيِّ المُصْغي(شاراخ غفادريا)، في وقتٍ لا يُحتاج فيه إلى شرح، فـ(الأوبيخْيّ) و(الأَبْخَازي) ابنا أمةٍ واحدة، وثقافة واحدة، وما يعني شيءٌ لأحدهما، يعنيه ذاتُه للآخَر، ولكن يبدو أن “الأَبْتَر” يشرح لنفسِهِ قبل أن يشرح لضيفِهِ الأمور التي يخشى، إنْ لم يستَعِدْ معانيها ويضعها في ميزان المقارنةِ، أن تنجرف من ذاكرته لطول بُعِدِه الزَّمَني عنها، فيقول: “خذ مثلًا مسألة الموقد. لم يكن بوسع أي (أوبيخيِّ) أن يتصوَّر بيتًا يعيشُ فيه بشرٌ دون موقدٍ؛ إذ يمجِّد (الأوبيخْيّ) النَّارَ وكأنَّها قدِّيسة، فلا تخمد النّار أبدًا في موقده، وليس هناك لعنةٌ أفظعُ من عبارة: (فليتحطمْ موقدُكَ!). ولكن، يبدو أن أحدًا ما صبَّ هذه اللّعْنة على رؤوس (الأوبيخْ)، وأنها حلَّتْ عليهم فعلًا. والآن [في تركيا]، يقتصر الأمر في بيوتهم على حفرة صغيرةٍ في أرض الغرفة- تسمّى التَّنّور- تعشعش فيها النّار. وعلى هذه النّار، يُعَدّ الطَّعامُ ويُخبَز الخبزُ”. [ص260] وفي المقارنة، شرحَ العجوز ما آلَتْ إليه أحوالهم في بناء البيوت: “(الأُوبيخيُّ)- في بلاده- لم يكن يقبل بجذوع الجوز ليبني منها كوخًا له، بل يختار جذوع أشجار الدّيندرون (الأُولخا) العَبِقَة برائحتها الذَّكية. وكان يتجنب أَشْجَار (الأولخا) ليقتطعَ سيقان الكستناء دعائِم السَّقْف ويغطِّيها بالقصَب الذَّهَبِي”.[ص259] أما في (تركيَّا)، فـ“ظهرَتْ ثلاثونَ قريةً، بيوتُها مبنيَّة من الزِّبْل بأسقفٍ مسطَّحة ودون نوافذ!” وكررَ بأسف: “بيوت من الزِّبْل”! [ص259] وفي المقارنة، لا يحفر (الأُوبيخيُّ) آبارًا، بل “يطفئُ أوار عطشه من الينابيع الحية”، أما في بلاد الغربة، فـ”تحتَّمَ علينا دقّ الأرض البور والحفر العميق للوصول إلى المياه الضّحلة”. وكثيرٌ من المقارنات التي لا يعرفها إلا مَن جرَّبَ وعانى. موعظَةُ رفض المغادرة: (أحمد بن بركاي) لقد غادَرَ مَن غادرَ، لكنَّ وجهةَ نظرٍ يتيمةٍ كانتْ تعارِضُ التّمزُّقَ ، تبنّاها عن إيمانٍ وحدسٍ سليم، إضافةً إلى إدراكٍ عقلانيٍّ أثبتَ أنَّ حقيقةَ الفردِ قد تكونُ أوضحُ من حقيقةِ المجموعِ وأصدقُ، هي وجهةُ نظرِ (أحمد بن بركاي) الذي رفضَ قرارِ المغادرة، معتبرًا إياها إطفاءً لمواقد السَّلَفِ [64-66]، وهي“أشبه بمن يستدين حصانًا وهو يملك واحدًا”. [76]. ويصل المُعارِضُ الذي لم يصغِ إلى معارضَتِه أحدٌ سواه، إلى “أن المغادرين هم الجبناء، أما الشُّجعانُ، فلا يتركون أوطانهم”! [ص101] ولما وجدَ أن لا أحد يوفقُ المعارضَ رأيه، يقول العَجُوز (زاورقان زولاق) لضيفِهِ: “سمعْنا طلقة مسدسٍ، وبدا لي أني رأيْتُ هالةً صغيرةً من الدّخان الأزرق. صدحَتِ الطَّلقة، إلا أنَّ (أحمد بن بركاي) بقي واقفًا على حافة المنحدر، ثم ترنح قليلًا بعد ذلك، وهوى إلى البحر. أما حصانُهُ الذي أصابَه الذّعرُ، فأخذ يعدو في الشّاطئ الصّحراوي”. [ص104] موعظَةُ البيعِ إن مراجعةَ الماضي بحذافيرِهِ، وضعَت الجميعَ أمام سؤال جوهريٍّ قائمٍ بِنَفْسِه، بعيدٍ عن الظَّوَاهِريّة، وهو: لماذا انساقَ (الأوبيخْ) إلى الهجرة كالأغنامِ، وهم- كما قالَ العَجُوز (زاورقان زولاق)- أتقنوا “منذ القديم حرفة الدّفاع عن أنفسهم ضد كل مَن ينتهك حريتهم، سواء من الجيران، أم القادمين من بعيد، من الإغريق، أو الرُّومان، أو الأتراك”؟[ص35] هل أتعبَتْهم الحروبُ؟ هل أتعبَتْهم حرفةُ الدّفاعِ؟ وهل اقتنعَ (شاراخ غفادريا) بتبريرِ مضيفِهِ: “الأرجل المتعبة تساعد الرَّأس على النَّوم أحيانًا، حتى حين لا يريد النّوم”؟ [ص248] ومَن قالَ إن الوطنَ البديلَ كالوطَنِ الأمِّ؟ مَنْ باعَهم؟ كم قبضَ (الحاج جيراندوق) وعصابتُه ثمنَهم؟ ولماذا، وقتَ انتبهوا إلى الصّفقةِ وتجمهروا مقرّرينَ العودةَ جوبِهوا بشروطِ بشروط اتّفاقيّةِ البيعِ بين دولتين عظيمتين: (تركيَّا وروسيا)، ورُفِعَ شعارُ:“إن قضية الشّعب الأوبيخْي انتهت إلى الأبد”؟ [ص143] ولماذا، خِلْسَةً تارةً، وعنوةً تارةً أخرى، تجمعوا وساروا باتِّجاه القفقاسِ منشِدين أغنيةَ المسيرِ، ممزقينَ جوهرَ البيْعِ، فجاعوا، وعطشوا، وماتوا، ولم يصلوا! لا رأيَ لمن بيعَ بموجب صكٍّ، ولا وطنَ له! هذا ما تقوله الرّوايةُ على لسانِ البطَلِ (زاورقان زولاق): “أرواحُنا كلها ذهبتْ إلى هناك- الوطن الأم- منذ زمن بعيد. أما عظامُكَ القديمة، فلْتَفْنَ هنا مثل عظامِنا. مَنْ له بها حاجة؟” [ص247] وتقول على لسانِهِ: “حين يهرب الإنسانُ بنفسه مِن الجَنَّة، فإن كلَّ الطّرق تؤدي إلى جهنم، وأبواب جهنم توصَد جيدًا وراء الدَّاخلين إليها”! [ص111] وتقولُ: الهِجْرَة ما كانت إلا “واقعًا مريرًا وإثمًا عظيمًا”، [134] و”خطيئة” [295]، حملَت النَّدم القاسي والشَّتات، دعمَتِ تفكيرَ (أحمد بن بركاي)، ودعمَت تفكيرَ (الأَبْخَاز) الذين رفضوا المغادرة. بوقٌ وخنجرٌ وبذَة شركسيّةٌ وقَلْبَقْ أُنْجِزَ المخطوطُ، فتأبَّطَهُالأبخازيُّ (شاراخ غفادريا) حاملًا ثروةُ لا تُقَدَّرُ بثَمَنٍ، وفوقَها رسالةٌ لكل شعوب الأرضِ، في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، و“مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ” [مت 11:15]: “عزيزي شاراخ غفارديا، بوسعِكَ الرّحيل من دون قلقٍ عليّ، فأنا… إما أن أتعافى، وإما أن أجد أني فقدتُ القدرةَ على الحياة، فأتقبَّل الموت. لقد رأيتُكَ، أيها الأَبْخَازي، قريبَ والدتي، ابنَ الشّعب الذي خرجتُ أنا من جسمِه. استطعتُ أن أحدثَكَ عن كل ما عشته في حياتي. أما أنت، فقد جئتني بخبر سعيدٍ بالنّسبة إلي، وهو أن الأَبْخَاز لم ينفصلوا عن أبخازيا”. ونادى العَجُوز بيرم، وهمسَ له ببضع كلمات مضى الأخيرث توًّا، وعاد ببوقٍ نحاسيّ وخنجر قفقاسيّ كبير. أمسك العَجُوز بهما بيديه، المرتجفتين، وتفحصهما طويلًا، ثم قال: -عزيزي شاراخ، من الأوبيخْ الذين زالوا عن وجه الأرض بقي هذان فقط. خذهما معك إلى أبخازيا. إنهما- بالنسبة إلى بيرم- صامتان. أما معكَ، فسيتكلمان. سيقعان هنا، سيقعان هنا بعد موتي في أيدٍ غريبةٍ. أما معك، فسيكونان في ديار الوطن. قبلْتُ الهديتين الغاليتين عليّ شاكرًا. وبذلتً كل ما بوسعي لكي أبقي (زاورقان) في سريره، ولكنه لم يصغِ إلي، وقرر النّهوض. لبس قميصَه القفقاسيّ العتيق وبزته الشّركسية، ووضع قلبَقَهُ على رأسه، وحمل عكازَهُ وخرج من البيتِ ليودعني حتى البوّابة. هناك فقط عانقني وقبّلني وتمنى لي دربًا سعيدًا، وأطلقَني. ساعدني بيروم على حمل أشيائي حتى الطّريق العام. سرنا ببطءعلى السّهل. وحين التفتُّ، رأيتُ خلفنا على الرّابية (زاورقان زولاق) واقفًا هناك حتى ذلك الوقت وكأنه آخر اطلال جدار قلعةٍ قديمةٍ. لم ألتفتْ بعد ذلك. فليبقَ هكذا في ذاكرتي. فليبقَ آخر أطلال الماضي عزيزًا قويًّا، وليَبْدُ للنّاس الآخرين هكذا تمامًا في الكتاب الذي سأضعه عنه اعتمادًا على التّسجيلات التي قمتُ بها لأحاديثه”. [ص222-223]. في الختام، يكتب (باغرات شينكوبا) الأديب الأَبْخَازي الذي ساهم في إخراج هذه المخطوطة المهمة عن شعب الأوبيخْ إلى النور: “عند هذه الكلمات، انقطعَتِ المخطوطة التي وقعَتْ تحت يديّ، مخطوطة عالِم اللّغات الشَّاب (شاراخ غفادريا). وكما جاء في البداية، لم يكن للمخطوطة عُنوان، ولم تقطَّعْ إلى فصول، ولدى إعدادها للنَّشر، قسّمتها إلى فصل بتسميات مستقلّة، وعنونتُ الكتابَ من خلال انطباعاتي عما قرأت (البِذْرَة الأخيرَة)”. [ص332] باغرات شينكوبا

مشاركة :