"سنحتاج إلى أنظمة أسلحة المستقبل التي ستعتمد بشكل متزايد على الرقائق الإلكترونية" جو بايدن، رئيس الولايات المتحدة استعرت عنوان هذا المقال من توصيف للرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي يرى بالفعل أن صناعة أشباه الموصلات أو "الرقائق الإلكترونية"، لا توفر منتجات عادية، بل تنتج ما يصب في الأمن القومي لبلاده. وبايدن هو الرئيس الأمريكي الأكثر اهتماما بهذا الجانب، ليس لأن أسلافه غير مهتمين بالأمر، بل لأن هذه الصناعة تشهد منذ أعوام اضطرابا كبيرا، وحامت حولها المخاطر، وبدأت الحكومات تتعاطى معها بالفعل ضمن نطاق مفهوم الأمن القومي سواء من الناحية العسكرية أو المدنية أيضا. والمشكلة الرئيسة هنا تكمن في أن الطلب يرتفع على "الرقائق"، بينما الإنتاج لا يوازيه على الإطلاق. وزاد الطلب أيضا في وقت تشهد فيه سلاسل التوريد أزمات لم تمر بها من قبل، وهي لا تزال حاضرة على الساحة، وستستمر ربما لأعوام. هنا يمكن فهم حرص البيت الأبيض في العام الماضي على انتزاع موافقة من الكونجرس الأمريكي لتخصيص 52 مليار دولار، كإعانات لما وصفه المسؤولون في واشنطن "إحياء لإنتاج أشباه الموصلات". أي دعم حكومي في بلد يعتمد اقتصاد السوق. وهذا يتعارض من حيث المبدأ مع المفهوم العام لمثل هذا الاقتصاد، إلا أن العالم اعتاد على "اللجوء" إلى الاستثناءات خصوصا عندما تكون مربوطة بالتوصيف الفضفاض "الأمن القومي". لكن المشكلة ستبقى موجودة على الساحة لفترة طويلة، وذلك لبطء التقدم في هذا المجال، وللتعقيدات التي تشهدها صناعة "الرقائق" عموما، وبالطبع لضعف الاستثمارات فيها. فوفق الخبراء يتكلف إنشاء أصغر مصنع لأشباه الموصلات "مثلا" ما لا يقل عن مليار دولار. صحيح أن هذا المبلغ لا يعد كبيرا، لكن الصحيح أيضا أن إنتاج مصنع بهذا الحجم لن يسد شيئا في ثغرة الطلب المتنامي. بحسب جهات مختصة في هذا المجال، فإن مصنع متوسط الإنتاج يكلف ما لا يقل عن 20 مليار دولار، فضلا عن الحاجة إلى توفير البيئة المعقدة اللازمة له. وفي المجمل، تعاني هذه الصناعة أزمات كثيرة، ولكونها صارت ضمن نطاق "الأمن القومي"، كان لا بد من اتخاذ سلسلة من الإجراءات الحمائية التي تضيف توترا تجاريا وصناعيا آخر على الساحة الدولية. المثير في الأمر، أن الولايات المتحدة ذاتها لا تنتج حاليا أيا من أشباه الموصلات المتطورة. فهي تعتمد على الاستيراد من جهات متعددة، وفي مقدمتها تايوان التي تلقت العام الماضي تهديدا من الصيني بمنع توريد الرمل الصيني المستخدم في إنتاج الرقائق الإلكترونية، عندما احتدم النزاع الكلامي بين بكين وواشنطن بشأن زيارة رسمية لنانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكية السابقة للجزيرة التي تراها الصين جزءا منها. وإذا كانت الحكومة الصينية وقفت ضد أموال الدعم التي وفرها بايدن لهذه الصناعة، فإنها أعلنت هي الأخرى إعداد حزمة مالية كبيرة جدا تصل قيمتها إلى 143 مليار دولار لدعم الصناعة. أي أن "الحرب" بين أكبر اقتصادين بدأت على هذه الجبهة المحورية. فالحزمة الصينية تستهدف في الواقع الوصول إلى الاكتفاء الذاتي من الرقائق الإلكتروني، لأن بكين تستورد أيضا كميات هائلة مما ينقصها من هذه الشرائح. ويعتقد المسؤولون الصينيون الذين كانوا يأملون بعلاقات هادئة أكثر من مع إدارة جو بايدن مقارنة بالعلاقات التي جمعتهم مع إدارة سلفه دونالد ترمب، إن واشنطن تتحرك لوقف تقف الصين في الميدان التكنولوجي، و"الرقائق" تدخل في صلب المواجهة بصرف النظر عن طبيعتها. والحق أن شكل المواجهة بدأ يتضح بصورة أكبر في الآونة الأخيرة، على جبهة صناعة عالمية تصل قيمتها إلى 700 مليار دولار لتصل في 2030 إلى أكثر من تريليون دولار. فالصين تواجه أزمة في نقص معدات تصنيع الرقائق الإلكترونية، وهي "كما هو معروف" متأخرة كثيرا في هذا الجانب عن الدول الصناعية الغربية الكبرى بمن فيها اليابان. ولأن الأمر كذلك، تعمل إدارة بايدن على تقييد صادرات هذه المعدات، وضم دول تنتجها إلى الجهود الأمريكية، مثل اليابان وهولندا. وهاتان الدولتان تتمتعان بقدرات كبيرة في إنتاج المعدات المشار إليها، وقد أشار المسؤولون فيهما إلى أنهم سيمضون في المسار الأمريكي. وهذا يعني أن الجهود التي تبذلها بكين من أجل الاكتفاء الذاتي من أشباه الموصلات لن تحقق أهدافها بصرف النظر عن زخم الدعم المالي وحتى توافر المواد الأولية على التراب الصيني. وأيا كان شكل المواجهة بين الولايات المتحدة والصين في هذا المجال، إلا أن مشكلة أشباه الموصلات ستظل حاضرة على الساحة الدولية طوال العقد الحالي، حتى في ظل التحركات الداعمة لصناعة مهمة كهذه. لكن في النهاية ستكون مواجهة "عنيفة" على خلفية النظر إلى المسألة ككل على أنها "أمن قومي" لا يختص بالولايات المتحدة فحسب، بل بحلفائها الغربيين الذين يعتقدون أيضا بأهمية إبقاء الصين ضمن حدود واضحة. وصناعة الرقائق الإلكترونية ستبقى مجالا للصراع التجاري والصناعي في آن معا، في حين أن مرحلة الاكتفاء من هذا المنتج لا تزال بعيدة لصعوبة مسارها ومساربها.
مشاركة :