لا تنعى سواقي الهدير المنتشرة في مدينة الفيوم المصرية، قليل الحظ فقط - حسبما تقول أغنية كوكب الشرق الشهيرة - لكنها تحكي قصة حضارة تليدة، علمت العالم فنون الزراعة، قبل ما يزيد على ألفي عام من ظهور التكنولوجيا الحديثة. يرجع تاريخ سواقي الهدير- حسبما تشير العديد من المراجع التاريخية- إلى أكثر من ألفي عام، وتحديداً في العصر البطلمي، الذي شهد اتجاه المصري القديم إلى الزراعة في تلك المساحة ذات الطبيعة الخاصة، فابتكر تلك الطريقة الهندسية الفريدة لري تلك المساحات الشاسعة من الأراضي التي تنحدر من الجنوب، على ارتفاع يزيد على 26 متراً فوق سطح البحر، وتحديداً عند قرية اللاهون الحالية، وتنتهي بارتفاع 44 متراً تحت سطح البحر شمالاً عند شواطئ بحيرة قارون. ولعب انحدار الأرض دوراً كبيراً في صناعة شلالات طبيعية من المياه، مختلفة الارتفاعات في أجزاء كثيرة من بحر يوسف، الذي يعد المصدر الرئيسي للمياه في الفيوم، وقد استغل البطالمة هذه الشلالات في دفع سواقي الهدير التي صُنعت بأقطار مختلفة، حسب ارتفاع الأرض، لتجلب المياه من أسفل إلى أعلى بفعل قوة الدفع، ومن دون حاجة إلى الاستعانة بالثيران كما كان متبعاً في تلك الفترة من الزمان، في تشغيل السواقي، وهو ما يجعل من سواقي الفيوم أعجوبة لا يوجد مثيل لها في العالم. صنع المصري القديم سواقي الهدير من الخشب الأبيض، الذي يطلق عليه في تلك المنطقة العزيزي، ودعمها بعروق الخشب وبعض الأجزاء من شجر الجزورين المنتشر على حواف النيل والترع في دلتا مصر، حيث تتكون الساقية من عدة أجزاء أبرزها التابوت، وهو عبارة عن دائرة كبيرة، يختلف قطرها حسب قوة دفع المياه في المكان الذي توجد به الساقية، وحسب مساحة الأرض المراد سقايتها بالمياه. ويطلق صناع السواقي في العصر الحديث على هذا الجزء اسم الدوارة، نسبة إلى دورانه المستمر لرفع المياه، وهو الجزء الذي يشبه الدائرة، ويتم تغليفه من الجانبين بالخشب الأبيض، قبل أن يتم ترك عدة فتحات لخروج الماء، وهي الفتحات التي يطلق عليها اسم العيون، وهي عبارة عن قطع من الخشب، تثبت على الدوارة على شكل أرفف قوية، لتستقبل قوة دفع المياه، قبل أن تحملها إلى التابوت، في عملية ميكانيكية تحمل الماء من أسفل إلى أعلى، لسقاية الأرض. وعلى مدار عقود من الزمان، اكتسبت الفيوم شهرة عريضة من سواقي الهدير، فغنى لها المطربون، ونظمت إليها العديد من الرحلات، حتى أنها تحولت خلال النصف قرن المنصرم إلى مزار سياحي. ويوجد في الفيوم نحو 200 ساقية منتشرة في الحقول على المجاري المائية في مواقع الهدارات، ولا يوجد هذا النوع من السواقي في مصر إلا في الفيوم، كما أن ترعة بحر يوسف تعتبر الترعة التي تمد محافظة الفيوم بالماء الذي تجلبه من نهر النيل، وتخرج من النيل عند مدينة ديروط بمحافظة أسيوط مروراً بمحافظة المنيا ومحافظة بني سويف ثم الفيوم، وتنسب ترعة بحر يوسف إلى سيدنا يوسف عليه السلام، وهي المصدر الوحيد الذي يمد مدينة الفيوم بالمياه، ولولا وصول مياه النيل إلى الفيوم عن طريق بحر يوسف لصارت جزءاً من الصحراء الغربية. وتنافس سواقي الفيوم، العديد من المواقع السياحية المنتشرة في تلك المنطقة، ومن أشهرها بحيرة قارون، وعين السيلين وعين الشاعر، وقد تحولت منطقة السواقي مؤخراً إلى أثر بسبب الإهمال، بعد أن ظلت لعقود مصدراً للجمال والبهجة، وما زاد الطين بلة أن حرفة صناعة السواقي الخشبية في طريقها للانقراض، فلم يتبق من صناعتها سوى ورشة صغيرة، لا تجد من يدعمها أو يحافظ على ذلك التراث المهدد بالاندثار.
مشاركة :