بهدف تعزيز العلاقات الاقتصادية مع أهم الدول المحورية في منطقة الشرق الأوسط والتباحث بشأن القضايا الإقليمية المتفجرة، قام الرئيس الصيني شي جينبينج بأول زيارة رسمية له منذ توليه السلطة في عام 2013 إلى المملكة العربية السعودية ومصر وإيران، في الفترة من 19 إلى 23 يناير 2016. وخلال هذه الزيارة، عقد الرئيس جينبينج اجتماعات مع الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الإيراني حسن روحاني. كما التقى أيضاً مع الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي والأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، والأمين العام لجامعة الدول العربية، وشهد توقيع الكثير من الاتفاقات ومذكرات التفاهم والعقود التي من شأنها تعزيز التعاون مع هذه الدول في مختلف المجالات. إذا ما ركزنا التحليل في هذا المقال على زيارتي الرئيس الصيني لكل من الرياض والقاهرة، باعتبارهما كاشفتين لمستقبل العلاقات العربية الصينية، وتركنا دلالات وإبعاد زيارته المهمة إلى إيران، يمكن القول إن هاتين الزيارتين كانتا ناجحتين إلى حد بعيد في إحداث نقلة نوعية فارقة في تاريخ تطور العلاقات العربية الصينية. وهذه النقلة التاريخية يمكن استكشاف أهم ركائزها الأساسية في الجوانب التالية: أولاً، أن بكين لن تبقى في موقف المتفرج على ما يجري في منطقة الشرق الأوسط، وأنها ستكون رقماً مهماً في المعادلات المستقبلية لتوازن القوى في المنطقة، بالتعاون مع مصر والسعودية، من أجل تحقيق السلام والتنمية. فالمصالح الصينية سواء الأمنية (المتمثلة في إمكانية امتداد الأذرع الأخطبوطية لتنظيم داعش الإرهابي لأراضيها) أو الاقتصادية (المتمثلة في تهديد مصالحها التجارية والاستثمارية الضخمة في المنطقة) أصبحت تواجه تهديدات كبيرة نتيجة استمرار الفوضى وعدم الاستقرار في دول الشرق الأوسط. ومن هذا المنطلق، أصبح قادة الصين على قناعة مفادها أنهم لن يستطيعوا الاستمرار في دبلوماسيتهم الهادئة الرامية إلى الابتعاد عن الصراعات التي تعصف بالمنطقة. وفي هذا الإطار، استبقت بكين زيارة رئيسها إلى الرياض والقاهرة، بوضع وثيقة رسمية مكتوبة ومعلنة للمرة الأولى (في 13 يناير 2016) تشكل خريطة طريق واضحة المعالم تؤطر للعلاقات الصينية العربية على الأمد الطويل. وهذه الوثيقة، التي جاءت تحت اسم السياسة الصينية تجاه الدول العربية، رسالة إلى العالم بأن القيادة السياسية الصينية أصبحت عازمة على تعزيز تعاونها مع الدول العربية لتحقيق السلام والتنمية في السنوات المقبلة. وبالإضافة إلى هذه الوثيقة المهمة، قدم الرئيس جينبينج، في خطابه أمام الجامعة العربية، وصفة صينية لتحقيق السلام والأمن في المنطقة، مشيراً إلى أن الحوارات والتنمية هما العاملان الرئيسيان اللذان يمكنهما المساعدة في إعادة الاستقرار إلى هذا الجزء من العالم. وقال الرئيس الصيني إن المشكلات لا تحل بلغة القوة، مضيفاً أنه من أجل نجاح الحوار، ثمة حاجة إلى التحلي بأقصى قدر من الصبر والمرونة. ومن ناحية أخرى، أعرب الرئيس جينبينج عن اعتقاده بأن الاضطرابات في الشرق الأوسط تنبثق عن غياب التنمية، وأن مفتاح فك المعضلة يكمن في تسريع عجلة التنمية، قائلاً إن تحقيق كرامة الحياة للشباب هو الطريق الوحيد لكي يعم الأمل قلوبهم. وعندئذ، سينبذون طوعاً أعمال العنف والإيديولوجيات المتطرفة والإرهاب. وفي هذا السياق، أعلن الرئيس الصيني أن حكومته قررت تقديم 7.53 مليون دولار للمساعدة في تحسين معيشة الفلسطينيين و35 مليون دولار لسوريا والأردن ولبنان وليبيا واليمن كمساعدات إنسانية. كما عرض الرئيس جينبينج أيضاً تقديم 300 مليون دولار للتعاون في إنفاذ القانون، وتدريب الشرطة من أجل المساعدة في بناء قدرات دول المنطقة للحفاظ على الاستقرار. وفي نفس الوقت، شدد الرئيس الصيني على أن بلاده لن تسعى إلى تنصيب وكلاء ولا إلى سد أي فراغ في الشرق الأوسط، مضيفاً أن بكين لا تعتزم بناء أي مجال نفوذ في المنطقة. ثانياً، إن التعاون الاقتصادي بين الدول العربية والصين سوف يشهد قفزات كبيرة في المدى المنظور نتيجة الدعم السياسي الكبير من قادة الجانبين. وسوف يكون هذا التعاون مبنياً على فكرة التشارك العربي الصيني في تنفيذ مبادرة حزام واحد وطريق واحد التي اقترحها الرئيس الصيني في عام 2013، ومعادلة تعاون 1+2+3، التي تقوم على اتخاذ مجال الطاقة كمحور رئيسي لهذا التعاون، ومجالي البنية التحتية وتسهيل التجارة والاستثمارات كجناحين و3 مجالات ذات تكنولوجيا متقدمة تشمل الطاقة النووية، والفضاء والأقمار الاصطناعية، والطاقة الجديدة كنقاط اختراق. ثالثاً، إن مستقبل العلاقات الودية بين الجانبين العربي والصيني سوف يشهد تطوراً متزايداً في المدى المنظور نتيجة وجود درجة عالية من التخطيط الاستراتيجي والتنسيق السياسي والتعاون الاقتصادي والتبادلات الإنسانية. فمن جهة، تم إنشاء آلية الحوار السياسي الاستراتيجي بين الصين والدول العربية، وتمت إقامة علاقات الشراكة الاستراتيجية بين الصين و8 دول عربية، تشمل مصر والسعودية والإمارات وقطر والسودان والأردن والعراق والجزائر. وكذلك، تم التوصل إلى اتفاقية التشارك في بناء الحزام والطريق بين الصين و6 دول عربية، كما انضمت 7 دول عربية إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية كدول أعضاء مؤسسة. ومن جهة أخرى، أصبحت الصين ثاني أكبر شريك تجاري للعالم العربي، وأول شريك تجاري ل 9 دول عربية، بعدما تجاوز حجم التبادل التجاري بين الجانبين 251.1 مليار دولار في عام 2014 واستيراد الصين 146 مليون طن من النفط الخام من الدول العربية. وبالتزامن مع ذلك، تم إبرام عقود مقاولات جديدة بين الصين والدول العربية بقيمة 46.4 مليار دولار؛ واستؤنفت المفاوضات الخاصة بإنشاء منطقة التجارة الحرة بين الصين ومجلس التعاون لدول الخليج العربية وحققت تقدما ملموساً، وأقيم مركزان لمقاصة العملة الصينية في الدول العربية، وتم تشكيل صندوقين للاستثمار المشترك بين الجانبين الصيني والعربي (مع الإمارات وقطر وتبلغ قيمتهما الإجمالية 20 مليار دولار بهدف الاستثمار في قطاعات الطاقة التقليدية والبنية التحتية والتصنيع المتقدم في الشرق الأوسط)، وذلك بالإضافة إلى الافتتاح الرسمي للمركز الصيني العربي لنقل التكنولوجيا، واتفاق الجانبين على إنشاء مركز التأهيل للاستخدام السلمي للطاقة النووية، ومركز التدريب للطاقة النظيفة، وتشغيل منظومة بيدو للملاحة عبر الأقمار الاصطناعية في الدول العربية. رابعاً، أعلنت بكين أنها ستنفذ مشروع المئة والألف والعشرة آلاف من أجل تحفيز تدفق الأفكار بين الجانبين العربي والصيني، ويشمل ذلك: تبادل ترجمة 100 كتاب وعمل أدبي صيني وعربي، لتطبيق فكرة رائحة الكتب في طريق الحرير؛ وتوجيه الدعوة لتبادل الزيارات بين 100 خبير وباحث، لتعزيز الالتقاء بين المؤسسات الفكرية؛ وتقديم ألف فرصة تدريب للقادة الشباب العرب، وتوجيه الدعوة ل1500 قيادة حزبية عربية لزيارة الصين، لإعداد سفراء شباب ورواد سياسيين للصداقة الصينية العربية؛ بالإضافة إلى تقديم 10 آلاف منحة دراسية و10 آلاف منحة تدريبية، وتنفيذ الزيارات المتبادلة بين 10 آلاف فنان صيني وعربي. خامساً، إدانة الجانبين العربي والصيني الشديدة للهجمات والأعمال الإرهابية التي وقعت في الجانب الآخر، ودعمهما لإجراءات الجانب الآخر لمكافحة الإرهاب. وفي هذا السياق، اتفق الجانبان على تعزيز التواصل والتعاون على المستويين الثنائي والمتعدد الأطراف لمكافحة الإرهاب والتطرف وملاحقة أعضاء الجماعات والمنظمات الإرهابية في البلدين ومعاقبتهم، وتجفيف منابع تمويل الجماعات والمنظمات الإرهابية، مع إجراء أكبر قدر من التعاون في تبادل المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بالإرهاب والتحقيق وجمع الأدلة وملاحقة وإعادة المشتبه بهم. وبناء على ذلك، يمكن القول إن الزيارتين الأخيرتين للرئيس الصيني إلى كل من السعودية ومصر نجحتا بشكل كبير في تدشين انطلاقة جديدة لشراكة نأمل أن تكون نموذجاً للتعاون بين قوة عالمية صاعدة كالصين ودولتين عربيتين وإقليميتين محوريتين كمصر والسعودية. غير أن ترجمة هذا النجاح على أرض الواقع ربما تصطدم بعدد من التحديات المهمة، لعل من أهمها علاقات الصين المتنامية مع طهران، التي لا تحترم سيادة دول الجوار وتتدخل في شؤونهم الداخلية وتحتل أراضيهم، وهو أمر يتناقض مع المبادئ والقيم التي يدعو إليها العالم، ومن بينهم قادة الصين. وهنا، ربما تجد الصين نفسها في المدى المنظور غير قادرة عن البقاء على الحياد بين الأطراف المتنازعة في المنطقة. كذلك فإن تراجع أسعار النفط العالمية، وتصاعد الأعمال الإرهابية من جانب التنظيمات المتطرفة، مثل داعش وغيرها، قد يؤديان أيضاً إلى عرقلة مشروعات التعاون بين الجانبين العربي والصيني في المستقبل المنظور، خاصة مع وجود أعداد كبيرة من المواطنين الصينيين في الدول العربية وقيام تنظيم داعش بإعدام أحد المواطنين الصينيين في نوفمبر الماضي. د. أحمد قنديل* *خبير الشؤون الدولية والآسيوية في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية abahy@ahram.org.eg
مشاركة :