التكفير ليس هو المشكلة

  • 1/29/2016
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

قد لا يكون التكفير على هذه الدرجة من الخطورة فيما لو بقي حكماً على ما يُعتقَد أنه المصير الذي سيكون عليه الإنسان في الآخرة، ولن يكون له أثر يذكر في تأجيج الطائفية ما لم ترتب عليه عقوبة دنيوية، حتى لو وصل الحال ببعض الطوائف الإسلامية إلى تكفير بعضها، وليس مطلوباً من السني أن يُقِّر بمعتقد الشيعي، ولا الشيعي أن يُقِّر بمعتقد السني، فالله تعالى أجل وأعظم وأكبر من أن يأتمر بأوامر السنة والشيعة، كما لا يُشترط أن يكون الشخص على دينك لتعدل معه وتعامله بشكل جيد، فالتاريخ يخبرنا أن أحد القضاة المسلمين حكم لمصلحة يهودي ضد الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين تنازع معه على درع، فسأله القاضي: (يا أمير المؤمنين هل من بيِّنة؟)، قال: (نعم، الحسن ابني يشهد أن الدرع لي)، قال القاضي: (يا أمير المؤمنين شهادة الابن لا تجوز)، فقال علي: (سبحان الله رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟)، قال القاضي: (يا أمير المؤمنين ذلك حكم في الآخرة، أما في الدنيا فلا تجوز شهادة الابن لأبيه)، فأقرَّه علي على حكمه، ثم اعترف اليهودي بعد ذلك بأن الدرع لعلي! ويستدل من ذلك على أن اليهودي قد وصل إلى أعلى درجات الأمن على نفسه، وأن الناس على اختلاف دياناتهم أمام القضاء سواسية، إذ لو لم يكن الوضع كذلك لما أقدم ذلك اليهودي على مقاضاة رجل بحجم أمير المؤمنين، كما أن اعتقاد القاضي بكفره لم يمنعه من تطبيق معايير العدالة عليه. من المؤسف أن هنالك خلطاً كبيراً بين حرية المعتقد وصحة المعتقد، فالإنسان له الحق في اختيار ما يعتقد أنه صحيح، ولا يجوز لأحد أن يكرهه على غير اختياره (لا إكراه في الدين)، كما يحق للمسلم ألا يُقِّر بصحة معتقد آخر غير الإسلام، وأعتقد أن هذا الرأي هو رأي السواد الأعظم من المسلمين، مع اختلافهم في بعض التفاصيل، لكنها من وجهة نظري لا تمثِّل مشكلة ما لم تُفرَض على الناس، وما يجب الإشارة إليه أن من الواجب على كثير من الجهات أن تأخذ من الأقوال أكثرها تيسيراً على الناس، فإن أكثر ما قاد الناس إلى التطرف هو أخذ أقوال متشددة جداً ثم تربية الأطفال عليها، والقول لهم: إن هذا هو الحق و كل ما سواه باطل، فإذا وصل أحدهم إلى مرحلة الشباب كان واحداً من اثنين: إما أن يكون مطلِّعاً فيكتشف أن المسألة خلافية، وربما تجاوز ذلك الرأي إلى غيره، فتغيرت في نفسه قيم كثير من الأشياء، وأقدار كثير من الناس، وإما أن يكون متعصباً للرأي الذي نشأ عليه، فأخذ يوزع بسخاء أحكام التبديع والتكفير، وإذا رأى من الدولة تقصيراً في محاسبة المختلفين ربما ألحقها بهم معتقداً أنها ممالأة للمبتدعين والكافرين! التكفير بحد ذاته ليس مشكلة، لكنه يصير كارثياً عندما تترتب عليه أحكام دنيوية، فمثلاً أوغلت الجماعات المتطرفة في دماء المسلمين بدعوى الردة، ورأينا كثيراً من الحالات التي تم إعدامها كانت تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله! ولو افترضنا أن حكم الردة هو من المسائل القطعية في الدين، رغم أنه ليس كذلك، فإن من غير المعقول أن يقول الإنسان إنه مسلم، ثم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومع ذلك يُصَّر على قتله! فحتى لو أعلن ردته بشكل صريح، يكفي أن يتراجع وينطق بالشهادة ليكون دمه حراماً، فإن أكبر ما يدعو المتطرفين إلى تكفير الناس هو إرهاب المختلفين معهم وتخييرهم بين الأخذ برأيهم، أو حد الردة، ولو علموا أن الدولة لن تفعل أكثر من استتابتهم لما رأينا هذا الطوفان الجارف من أحكام التكفير، ومحاسبة الناس على النوايا، أو اقتناص سطر فيما يكتبون لتكفيرهم، فأقلنا ثقافة دينية قد سمع بقصة أسامة بن زيد حين قتل رجلاً بعدما قال: (لا إله إلا الله)، فغضب النبي عليه السلام لذلك غضباً شديداً وقال: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟!)، قال أسامة: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من حد السيف، فقال النبي: (أشققت عن قلبه؟) يقول أسامة: فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. فليت شعري ماذا سيقول حبيبنا عليه السلام فيما لو أدرك أولئك الذين يأخذون الناس بالنوايا والشبهات، ويصرون على قتلهم حتى لو شهدوا أن (لا إله إلا الله) ألف مرة! لعل من المفارقات أن الكافر الأصلي في الدول المسلمة أكثر أمناً على نفسه من المسلم المختلف في المذهب، أو حتى صاحب الرأي الآخر من المذهب نفسه، فهو إن كُفِّر أو شُكَّ في إسلامه لأي سبب من الأسباب، فستكون حياته معرضة للخطر، وهو إن سلم من أحكام القضاء المتعلقة بحد الردة، فلن يسلم من أحكام المتطرفين الذين يريدون التقرب إلى الله بقتله! ولذلك فمن الواجب عدم التعامل مع أحكام الردة غير الواضحة والصريحة، وعدم النظر شرعا في هذه القضايا، لتقطع بذلك الطريق على المتطرفين، ولتكون أنموذجاً للشباب في أخذ الناس على الظاهر، وترك السرائر إلى الله، فيكون الحد الفاصل بين المسلم وغير المسلم هو قول : (لا إله إلا الله محمد رسول الله).

مشاركة :