بكل المعايير، فإن قرار البنك المركزي الياباني بفرض سعر فائدة سلبي على الودائع يعد قرارا مفاجئا وغير متوقع، وبحسب رؤية البنك فإن الهدف من القرار هو تحفيز الإقراض ورفع معدل التضخم إلى النسبة المستهدفة أي 2 في المائة. القرار بلا شك يمثل قفزة، ليست بالضرورة للأمام حتى وإن تمنى هاروهيكو كورودا محافظ البنك المركزي ذلك، وليست بالضرورة قفزة للمجهول كما يردد خصوم القرار، ولكنها قفزة مليئة بالقلق والإحباط في ظل شعور المسؤولين عن توجيه السياسة المالية لثالث أكبر اقتصاد عالمي، بأن آليات السياسات النقدية المتاحة لهم تتقلص، دون أن يكونوا قادرين على إخراج الاقتصاد الوطني من أزمة الركود التي دخلت عامها العاشر على التوالي. لكن قبل المضي قدما في تفسير ما حدث في اليابان، علينا أن نفهم أن سياسة سعر الفائدة السلبي، حتى إن لم تكن سياسات نقدية جديدة سبق تطبيقها في سويسرا والدنمارك وتطبق حاليا في منطقة اليورو، إلا أنها المرة الأولى التي يجرى تطبيقها في اليابان، إذ لا تدخل ضمن حزمة السياسات النقدية شائعة الانتشار، على الرغم من أنها ترمي دائما إلى تنشيط الاقتصاد الوطني. وللتوضيح أكثر فإن مثل هذا النوع من السياسات غير التقليدية، يحصل فيه البنك المركزي على فائدة من الأموال المودعة لديه، عكس المعتاد عندما يدفع فائدة لأصحاب الودائع خاصة من المصارف التجارية، حيث تستهدف هذه السياسة بالأساس تنفير المودعين من الاحتفاظ بالودائع، وتسهيل الإقراض بأسعار فائدة منخفضة، والسماح بتوسيع نطاق الإقراض من المصارف التجارية للأفراد والشركات، وزيادة الاستهلاك المحلي، وتنشيط الدورة الاقتصادية، بما يتضمنه من ارتفاع معدلات التوظيف وخفض البطالة. على أية حال، فإن معدل الفائدة السلبي الذي فرضه "المركزي الياباني" لم يتجاوز (-0.1 في المائة)، لكن الملاحظ أن إصدار القرار جاء بعد صراع عنيف بين أعضاء لجنة صنع القرارات في البنك لتخرج نتيجة التصويت بـ 4 - 5 لمصلحة الفائدة السلبية. ويترتب على هذه الخطوة أن البنك سيحصل رسوم بقيمة 0.1 في المائة على بعض الودائع، وتعد هذه هي المرة الأولى التي يحرك فيها البنك سعر الفائدة منذ تخفيضها إلى نسبة تراوح ما بين صفر و0.1 في المائة في تشرين الأول (أكتوبر) عام 2010. وأشار البنك في بيانه إلى أنه سيخفض معدل الفائدة بشكل أكبر في النطاق السلبي إذا ما وجد ذلك ضروريا، مقررا في الوقت ذاته مواصلة سياسة زيادة القاعدة النقدية بوتيرة سنوية تبلغ 80 تريليون ين (669 مليار دولار). الدكتورة تريسي هاربر أستاذة الاقتصاد الآسيوي والمتخصصة في اقتصادات شرق آسيا، تعتقد أن هناك مجموعة من العوامل دفعت طوكيو إلى تبني هذا النهج الجديد، وتضيف لـ "الاقتصادية"، أن الاقتصاد الياباني ومنذ عشر سنوات تقريبا يواجه انخفاضا شديدا في معدلات التضخم، وعلى الرغم من أن "المركزي الياباني" استهدف معدل 2 في المائة إلا أنه فشل في تحقيق المستهدف، حيث لا يتجاوز المعدل الحالي للتضخم في اليابان 0.5 في المائة، والسبب أن المواطنين لا ينفقون أموالهم أو مدخراتهم لقناعتهم بأن السلع ستكون أرخص ثمنا في المستقبل، فيتوقفون عن الإنفاق الآن، ويفضلون الاحتفاظ بأموالهم في شكل ودائع أو ذهب للمستقبل. لكن البيان الصادر عن "البنك المركزي" برر اللجوء لتلك السياسة بتراجع معدل النمو العالمي، مشيرا إلى أنه في الوقت الذي يتعافى فيه الاقتصاد الياباني بشكل معتدل ويواصل التحسن باطراد، فإن انخفاض أسعار النفط بشدة، والوضع المتراجع للاقتصاد الصيني والاقتصادات الناشئة، وعدم استقرار السوق العالم يضر بقطاع الأعمال، ويؤخر القضاء على العقلية الانكماشية. ويشير لـ "الاقتصادية"، روبرت كلارك الباحث الاقتصادي، إلى أن ما ذكره محافظ البنك المركزي من أسباب وراء القرار لا يمكن نفيها، لكن أيضا يجب الإشارة إلى عوامل أخرى، فسياسة التيسير الكمي المتبعة في اليابان لسنوات لم يجن منها الاقتصاد الوطني الكثير، ومن ثم كان من الضروري البحث عن وسيلة أخرى تمثل صدمة لإنعاش اقتصاد البلاد لإخراجه من الركود. ويضيف كلارك، أن رد الفعل الأولي برز في ارتفاع أسعار الأسهم وانخفاض قيمة الين أمام العملات الرئيسية الأخرى، ما يعطي مؤشرا على نجاعة سياسة سعر الفائدة السلبي، وبالفعل فقد أغلق مؤشر نيكاي على ارتفاع 2.8 في المائة محققا 17.518.30 نقطة، فيما حقق مؤشر توبيكس ارتفاعا بأكثر من 1 في المائة، لكن السؤال: إلى أي مدى يمكن أن تدوم تلك الفاعلية؟. جونسون كيلي المحلل المالي في بنك "نت ويست" البريطاني، يشكك في نجاعة تلك السياسة على الأمد الطويل، ويؤكد لـ "الاقتصادية"، أن تلك السياسة المطبقة في الدنمارك وسويسرا والسويد ومنطقة اليورو اعتمدت بهدف معالجة تداعيات الأزمة المالية، لكن اليابان وضعها مختلف، فهي تعاني نموا بطيئا ومنخفضا لفترة زمنية طويلة، صحيح أن الإقراض في اليابان لم يتوسع، ولكن ليس هذا بسبب أزمة مالية كتلك التي ضربت أوروبا، فالمصارف اليابانية راغبة في الإقراض، إلا أن الشركات لا ترى سببا للاستثمار نتيجة انخفاض التضخم، ومن ثم لا يوجد سبب للاقتراض. وأشار كيلي إلى أن مشكلة اليابانيين ليست نقصا في الأموال، ولكن ضعفا في الفرص الاستثمارية نتيجة تباطؤ الطلب الاستهلاكي، ومن ثم فإن طوكيو في حاجة إلى إصلاح اقتصادي جذري، وسياسة التيسير الكمي وما يرافقها من فائدة سلبية لن يحلا مشكلات البلاد الاقتصادية.
مشاركة :