يقول توماس كارليل «ما نحتاج إليه حقا المزيد من العطاء لمن هم في حاجة إلينا»! نعم هي تعطي لتحيا، لأن الامتناع عن العطاء بالنسبة إليها هو الفناء، لإيمانها القوي بأننا عندما نعيش لنسعد آخرين سوف يرزقنا الله بآخرين ليسعدونا، وبأنه كلما أعطينا أخذنا من دون أن نطلب. شيخة محمد غانم مربية مخضرمة فاضلة، عرفت معنى العطاء الحقيقي، فحولته إلى رسالة حياة، بدأت مشوار البذل كمعلمة في المعهد السعودي البحريني للمكفوفين، أعطت بمنتهى التفاني والإخلاص لجميع طلبتها المكفوفين، وقدمت لهم كل الدعم والمساندة، حتى بعد تخرجهم، وحين اطمأنت عليهم وعلى قدرتهم على الانخراط والاندماج في المجتمع، قررت أن تتقاعد تفرغا لعملها التطوعي وتقديم العون لمن بحاجة إليه. لقد كان لنشأتها في بيئة محبة لنعمة العطاء أكبر الأثر على مسيرتها، فهي تراها مهنة الغني، بل شرف ورسالة في الحياة، والأجمل أن يكون ذلك من دون انتظار أي مقابل، بهدف إسعاد الآخرين فقط، وخاصة لو كانوا من ذوي الهمم الذين يتمتعون بحساسية مرهفة، وبملكات قد يتفوقوا بها على الأسوياء، أما دخولها هذا العالم فكان أجمل صدفة في حياتها. حول هذه التجربة الإنسانية الملهمة المعطاءة كان الحوار التالي: *متى بدأت علاقتك بالعمل الخيري؟ -أنا أرى نفسي إنسانة محظوظة لأنني نشأت في بيئة تقدر بل وتقدس نعمة العطاء، وتربيت وسط أسرة محتضنة لأفرادها، ويجمعها مشاعر الحب والتراحم، وتحترم ما يسمى بالفريج وأصول التعامل معه، فقد عاصرت الفترة التي كان فيها الجار للجار، والأجواء الجميلة التي كانت تسيطر على علاقات الناس في الحي الواحد، واعتدت في الصغر على التسابق في توزيع وتوصيل الوجبات التي تعدها أمي إلى الجيران والمعارف. *ماذا كان حلم الطفولة؟ -كان حلمي منذ طفولتي أن أصبح معلمة مستقبلا، حيث كنت أعشق هذه المهنة وأقدسها، حتى إنني كنت أستذكر دروسي بطريقة الشرح التي تتبعها المعلمات، وخلال المرحلة الثانوية قررت دراسة تخصص التاريخ والآثار بجامعة الإمارات، وبعد التخرج عدت إلى البحرين، وأثناء بحثي عن وظيفة في المجال الذي تمنيته، قادتني الصدفة إلى دخول عالم المكفوفين وكانت أهم نقلة في حياتي. *وكيف حدثت تلك النقلة؟ -أهم نقلة في حياتي حدثت حين صادفت يافطة مكتوبا عليها إعلان المعهد السعودي البحريني للمكفوفين، وكان ذلك أثناء زيارتي للمتحف القديم بالمحرق لتقديم طلب وظيفة، وكانت أجمل صدفة في حياتي، حيث تقدمت للعمل بالمعهد، وحصلت على الوظيفة التي كنت أحلم بها منذ طفولتي في مجال التعليم، وبدأت رحلتي مع عالم المكفوفين المحبب بشدة إلى نفسي. *هل واجهت أي صعوبة عند التعامل مع هذه الفئة؟ لقد التحقت بدورات تؤهلني للتعامل مع هذه الفئة بكل سهولة، في مجالات متعددة منها وذلك قبل البدء في عملية التدريس، وتدربت على مختلف المهارات المطلوبة، واكتشفت مع الوقت أن التعاطي معهم فقط يتطلب قلبَ محب، فحين تحبهم بالفعل سوف تعطيهم بقدر الاستطاعة بل وتبدع في ذلك، لأنهم يتمتعون بدرجة عالية من الإحساس المرهف، ونظرا إلى تقارب أعمارنا فقد نشأ بيني وبينهم نوع من الأخوة والصداقة، وكنت أحرص دوما على الخروج بهم في رحلات خارجية كي يتلمسوا كل شيء بأنفسهم، حتى الخضراوات والفواكه كنت أجلبها لهم ويتعلمون الفروق بينها باللمس، كما كنت أستمتع بإعداد وجبات متنوعة لهم بالمنزل، وقضيت 26 عاما في هذا المجال، من الأخذ والعطاء. *ماذا منحك هذا العالم؟ -بقدر ما أعطيت لهؤلاء أخذت منهم الكثير من المعاني والقيم والمشاعر النبيلة، فقد تعلمت منهم الصبر، والرضا عند الابتلاء، وجمال الروح، والابتسامة من القلب، كما خرجت بصداقات حقيقية وعلاقات طيبة معهم، كان لي شرف الإشراف على دمج المكفوفين في المرحلة الإعدادية، وكانت تجربة ممتعة ومرعبة في ذات الوقت. *وما هو وجه الرعب في ذلك؟ -الرعب هنا نابع من حرصي على طلابي وقلقي من تعرضهم لأي مواقف صعبة تؤثر سلبا في نفسيتهم خاصة وأن لهم عالمهم الخاص المنغلق إلى حد ما الذين اعتادوا عليه سنوات، وكانت التجربة الأولى لطالبة تدعى حورية، ولله الحمد حققت نجاحا لافتا، حيث استطاعت أن تندمج في عالم جديد عليها بل وأحبته كثيرا وكونت من خلاله علاقات صداقة قوية، وقد أنهت الجامعة، وفازت بالمركز الأول في مسابقة الشارقة لحفظ القرآن الكريم، وشعرت ببالغ السعادة تجاه ما حققته في تلك التجربة والتي مارست حياتها خلالها بصورة طبيعية، هذا فضلا عن أن هناك الكثير من طلابي تمكنوا من إنهاء مشوارهم العلمي وتخرجوا في الجامعة، بل وحصل أحدهم على رسالة الدكتوراه من أمريكا. *ما أهم احتياجات هذه الفئة؟ هذه الفئة بحاجة إلى التعلم، والحوار، وليس العطف أو الشفقة، لأنهم يتمتعون بدرجة من الوعي والثقافة وسرعة الاستجابة والحساسية تفوق كل التوقعات، وخاصة مع تطور الوسائل التعليمية الصوتية وأدواتها الخاصة بهم اليوم بدرجة كبيرة، مثل الكمبيوترات الصوتية، والأشياء البارزة المحسوسة، واستخدامات الموسيقى وغيرها. *متى جاء قرار التقاعد؟ -بعد مرض والدي، ومرافقتي له شهورا طوال بالعناية المركزة، قررت التقاعد، والتفرغ لعملي التطوعي والخيري، وذلك عقب اطمئناني على طلابي، والمشاركة في إعداد وتهيئة المدارس لاستقبالهم، وتخرجهم، واندماجهم في المجتمع، وأجد متعة كبيرة وراحة نفسية فائقة عند تقديم وجبة إفطار يومية للعمال في أماكن متفرقة، وكذلك لبعض الأسر المتعففة، إلى جانب وجبة غداء يوم الجمعة، وهو واجب روتيني عزمت على عدم العدول عنه طالما حييت، لما يمنحه من طاقة إيجابية هائلة لي، ويشاركني في ذلك زوجي وأبنائي. *ولماذا العمالة الأجنبية؟ -اختياري للعمال الأجانب خصيصا لأنني أشعر بمعاناتهم وغربتهم، ومدي حاجتهم إلى الدعم والمساندة وتخفيف الضغوط الواقعة عليهم، وقد اعتدت أن أذهب إليهم في أماكن وجودهم، وتربطني بهم علاقات طيبة وأصبحوا يعرفونني جيدا، كذلك أسعى أنا ومجموعة من المتطوعين إلى توزيع المستلزمات المختلفة وتوصيلها إلى المحتاجين، ولعل كل ما أقوم به من عمل خيري تعمق أكثر بداخلي أثناء معايشتي لوالدي أثناء تجربة مرضه. *ما الدرس المستفاد من تجربة مرض الوالد؟ تجربة مرض والدي منحتني الفرصة لمشاهدة حالات كثيرة بالعناية المركزة كانت بين الحياة والموت، ومنهم أناس يملكون الكثير من المال، لكنهم لم يستطيعوا تحقيق الشفاء، وكنت أرى بنفسي كيف يصارع الإنسان الموت، وتعلمت حينئذ أن الإنسان الذي يتمتع بالصحة والعافية يعيش في نعمة كبيرة، يجب أن يشكر الخالق سبحانه وتعالى عليها وأن يشعر بالرضا والقناعة، ويدرك أن الوالدين نعمة عليه أن يشبع منهما في حياتهما ولا يقصر معهما أبدا، وهذا ما حاولت أن أغرسه في نفوس أبنائي الخمس، إلى جانب حرصي على تعليمهم قيمة العطاء لوجه الله من دون مقابل، وهذه رسالة أوجهها إلى كل ربة بيت، فبإمكانها أن تنتج أجيالا معطاءة ما أحوج مجتمعنا إليها. *كيف ترين الجيل الجديد؟ -أنا أرى غالبية الجيل الجديد غير مسؤولة، وللأسف نحن من زرع فيهم ذلك، وهذا ينطبق أيضا على تجربتي شخصيا، فبالنسبة إلى أبنائي الكبار يمكن القول بأنهم نشأوا على تحمل المسؤولية، حيث كنت أشاركهم أنشطة علمية وصحية متنوعة، كما عودتهم على القراءة والاطلاع، حتى أصبحوا منتجين وفاعلين، في حين لم أنتهج نفس النهج مع ابني الصغير، نظرا إلى المتغيرات التي طرأت على المجتمع حديثا، فقد شب في بيئة مغايرة، واعتاد على توفير احتياجاته بسهولة، لمسايرتي المجتمع في بعض الأمور. ولكني أحمد الله سبحانه وتعالى على أن أبنائي بشكل عام يدركون جيدا قيمة الأشياء ويتمتعون بالقناعة والرضا والمسؤولية والالتزام، وأتمنى من كل الآباء أن يسعوا إلى احتواء أبنائهم في هذا العصر، وللاستماع إليهم، للتغلب على حالة الصمت الموجودة اليوم بين الطرفين لكسر أي حاجز بينهما. *إنجاز محبب إلى نفسك؟ -رغم ما حققته عبر مشواري من إنجازات مهمة إلا أن حصولي على دبلوم عال في طرق تدريس التربية بجامعة البحرين واحتلالي المرتبة الأولى على الدفعة رغم عدم التفرغ كان من أهم الإنجازات التي حققتها والتي استحققت عنها تكريمي في عيد العلم من قبل المرحوم الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، الأمر الذي يشعرني بفخر شديد. *حلمك القادم؟ -أتمنى من كل قلبي أن أتمكن من حفظ القرآن الكريم، وتجويده، وأتمنى أن يتحقق هذا الحلم في القريب العاجل.
مشاركة :