احتدم النقاش مجددا، غرار كل ابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي، بعد كشف الشركة الأمريكية "أوبن أيه آي" Open Al، في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، النقاب عن أحدث برامج الدردشة الآلية، باستطاعته محاكاة العقل البشري، من خلال الإجابة، بشكل تلقائي وبأسلوب إبداعي، عن جميع أسئلة المستخدم، حتى كتابة فقرات غاية في التنسيق والانسجام عن أي موضوع يطلب منه، وأطلقت عليه اسم ChatGPT، وهو مختصر عبارة "المحرك التوليدي المدرب مسبقا". أحدث الاكتشاف الجديد ثورة مذهلة في عوالم الذكاء الاصطناعي، جعلت السجال يتعدى الدوائر التقليدية، بين الأنصار والمعارضين، نحو نطاقات أخرى، تتعلق بتداعيات البرنامج على مناح كثيرة في الحياة المعاصرة. فقدرة هذا النظام التوليدي على المحاكاة البشرية، من خلال تحليل مجموعات ضخمة من المدخلات لتوليد مخرجات جديدة، تفاعلا مع توجيهات المستخدم، أثارت تحذيرات حول مصير قائمة من المهن والوظائف الإبداعية، وأعادت إلى الواجهة تساؤلا قديما يتجدد بشأن مستقبل الكائن البشري "الإنسان" في مواجهة الذكاء الآلي "البرنامج". وقبل ذلك كله، فتحت الباب على المجهول بالنسبة إلى مستقبل عمالقة التكنولوجيا، بعدما نجحت في قلب منطق اشتغال محركات البحث رأسا على عقب، فبدلا من انطلاق المستخدم من كتابة كلمات مفاتيح على المحرك، تقود إلى قائمة طويلة من النتائج، تخضع إلى الانتقاء حسب اختيارات الإنسان، يتولى برنامج ChatGPT عملية البحث، بطريقة مباشرة، استنادا إلى تفضيلات المستخدم. بذلك يقلص هذا الابتكار هامش الذاتية المتاح أمام المستخدم في محركات البحث التقليدية، إذ ينهض، وبدقة أكبر بالجزء الأكبر من عملية البحث، بما في ذلك مسألة الانتقاء والترتيب.. المسندة في الأصل إلى الكائن البشري، ما يرفع من جاذبيته ومنسوب الإقبال عليه. تزيد النتائج المبهرة التي حققها البرنامج من كتابة المقالات وتأليف القصائد وتحرير الخطب السياسية وصياغة العروض التسويقية... من تحويله إلى خيار مفضل، وما قدرته على حشد مليون مستخدم، أياما قليلة بعد إطلاقه، سوى دليل ذلك. ما يمثل تحديا كبيرا بالنسبة إلى بقية الشركات، ولا سيما محرك البحث جوجل المهيمن على إنتاج المعرفة رقميا، فهذا البرنامج الجديد يقلص من "فائض البيانات السلوكية" عن المستخدمين، التي يعدها المحرك عصب موارده المالية. فهل تحول ولادة ChatGPT بأدواته الثورية الجديدة، العملاق جوجل إلى تكنولوجيا بسيطة وتقليدية؟ تداعيات هذه القفزة في الذكاء الاصطناعي امتدت إلى الإنسان، لكن بوقع أقوى هذه المرة، بإشاعة أقاويل عن الموت البطيء لقائمة من الوظائف البشرية، بسبب هذا البرنامج الذي نجح في منافسة العقل الإبداعي للكائن البشري، بشكل غير مسبوق، معلنا انبثاق لحظة إقالة الإنسان العاقل. يجد أنصار هذه الأطروحة سندهم في دراسات نطاقية، هنا وهناك، تتحدث عن احتمال تعرض 47 في المائة من الوظائف "المؤلفين، الصحافيين، المبرمجين، المحاسبين، موظفي البنوك، وكلاء السفر، المسوقين الرقميين، المساعدين القانونيين، خدمة العملاء...) في الولايات المتحدة إلى الخطر، فالمحاكاة في هذا الابتكار الجديد، تعزز نظام التشغيل الآلي الذي يأتي، منذ أعوام، على الأخضر واليابس في عدد من القطاعات المهنية. يبقى ما سبق صحيحا نسبيا، لكنه لا يقبل التعميم والإطلاقية، فالانتشاء بنوعية المنجز ينبغي ألا يسقطها في فخ التماهي بلا تفحص ولا تمحيص. فنظام ChatGPT مثلا قادر على الكتابة والتأليف والإبداع... لكن عاجز عن إجراء حوار عميق أو العثور على وثيقة تاريخية أو تقييم جودة دراسة معينة أو غير ذلك من الأعمال التي تتطلب حضورا إجباريا للكائن البشري. صحيح، أن الذكاء الاصطناعي يوجد محتوى، لكن ذلك يتم استنادا إلى ما هو موجود فعلا بلا فهم ولا استيعاب، فضلا عن العجز على التصحيح، أما القدرة على الخروج بأفكار جديدة مثيرة فمستعبدة جدا، ما يؤكد وجود بون شاسع بين الآلة والبشر. يذكر أن ابتكارات مماثلة، رافقتها توقعات بإحداث انقلابات كبرى حين ظهورها، قبل أن تصبح برامج وتطبيقات عادية، من قبيل، مولدات الصور بالذكاء الاصطناعي Dall-E الخاصة بتحويل النص إلى صورة مفعمة بالحياة، أو مولدات الفيديو Synthesia القادرة على تحويل النص العادي إلى مقطع فيديو يحرك فيه شخص شفتين بالتزامن مع النص.. وغيرها من أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي أضحى بمرور الوقت شيئا مألوفا أمام السرعة المهولة للتطور في هذه العوالم. كان إيلون ماسك، أحد مؤسسي الشركة صاحبة الاختراع، مدركا لحجم وقدرة ما ابتكرته الشركة الناشئة، حين غرد مطلع الشهر الماضي، قائلا، "إنه عالم جديد. وداعا الفروض المدرسية في المنزل!". فقدرة ChatGPT تبقى محدودة في الأمور السطحية "اختبارات، مقالات، سرد، أسئلة..." دون القدرة على الغوص في الأعماق بإبداعات خارج النسق التوليدي المحكوم بخوارزميات معينة. ويظهر ذلك بوضوح، عند محاولة المستخدم جعل النظام يتجاهل برمجته الأساسية، ما يعني أن "برامج الذكاء الاصطناعي ليست بذلك الذكاء فعلا". يتوقع أن يحظى البرنامج، حسب خبراء، بالقبول والاهتمام في الأوساط التعليمية والجامعية، فبساطة ما يولده يناسب مطالب هذه الشرائح، ما جعل باب ندياي وزير التربية الفرنسية يتحدث عن ضرورة التدخل، مؤكدا "أنهم بصدد بحث أفضل طريقة للتدخل.. لكن علينا في مطلق الأحوال الأخذ بهذه المعطيات الجديدة في عمل التلاميذ والأساتذة". واختارت مؤسسات جامعية في عديد من الدول الغربية "فرنسا، أستراليا، سويسرا.." فرض نظام حماية يحظر استخدام تطبيق ChatGPT على طلابها. على غرار قفزات سابقة في عوالم التكنولوجيا، بدءا من اختراع الإنترنت نفسه والبريد الإلكتروني ومحركات البحث والهاتف النقال وفضاءات التواصل الاجتماعي... يمكن أن يدفع النظام الجديد نحو تغييرات، وربما إضفاء تحسين وتجويد، على عالم الوظائف والمهن، وليس الانقراض، وعلى مناحي الحياة المعاصرة عموما، مؤكدا من جديد أن العلاقة بين البشر والذكاء الاصطناعي أكثر تعقيدا مما يظنه كثير من الناس.
مشاركة :