جمال التصوير في قصة (ضحكات مكتومة) للكاتب محمد بربر

  • 2/8/2023
  • 01:47
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بقلم د. وائل الصعيدي مدرس الأدب العربي في جامعة الاقتصاد والتجارة الدولية بالصين عندما تمتزج الدراسة الأكاديمية بالمهارة والخبرة الحياتية فإنه لاشك يتولد كاتب يمتلك مهارات الكتابة التحريرية ويجيد الحديث في حلقات النقاش الشفهية. وفي الحقيقة فإنّ الكاتب محمد بربر لديه الكثير من هذه المهارات فقد جمع بين الدراسة العلمية والعملية، فتخرج من كلية الإعلام قسم الصحافة، ولتميزه ونبوغه وهو في الكلية كان يدير بعض الندوات، ويعطي (كورسات) للدارسين والمهتمين بمهارة فائقة ودراية واسعة، وقد حضرتُ معه واستمعتُ إلى بعض لقاءاته. وعمله كمحرر صحفي في مؤسسات مصرية وعربية أثقل خبراته وزاد معلوماته، فضلًا عن أنه باحث في مجال اللغويات واللسانيات، وقام بإعداد بعض البرامج التليفزيونية. كما شارك في أوراق بحثية عديدة في مؤتمرات وندوات مختلفة، وله كتب منشورة وهي، (حكايات مصر المنسية)، و(دقن وجلابية)، وله أيضًا تحت الطبع (تحويجة)،مجموعة قصصية، و(يامن)، مجموعة قصصية. يستوحي محمد بربر كتاباته من خبراته المتراكمة، وتنقلاته ما بين دمياط مسقط رأسه وتفاعله مع المجتمع من حوله، وعمله في القاهرة- المجتمع المفتوح- في صحف ومجلات ورقية وإلكترونية، مع شخصيات صحفية وأدبية مختلفة في الرؤى والفكر والأسلوب، وعمله لفترة في صعيد مصر، كل ذلك جعله يتطور وينضج في ذاته وإنتاجه. اخترتُ للكاتب قصة(ضحكات مكتومة) من مجموعته القصصية البديعة الحديثة(ضوء خافت). بدأت القصة بالتخيل بأن وضعنا الكاتب في مشهد مرئي بإدخالنا مباشرة في(كافيه الإنترنت)، ووصفه الدقيق لمكانه وما يحتويه، وفتح أعيننا على الرواد وما يُثيرون من ضجيج وقهقهات عالية ساخرة، بل وجمل بذيئة أحيانًا، فقال صفحة(50): “سحابات دخان تغطي سقف مقهى الإنترنت الكائن في وسط البلد، رواد يسكبون خيباتهم في أحاديث لا طائل منها، وآخرون ينغمسون في ألعاب ومنتديات ورسائل غرامية، الجو الخانق المعبأ برائحة التبغ يخلق ضجيجًا منظمًا، أو كأن هؤلاء الزبائن قد اعتادوا الصيحات والقهقهات الساخرة والسباب واللعنات” ولعل الكاتب لفت نظرنا بطريقة غير مباشرة لانتشار نوادي الإنترنت- مؤخرًا- محذرًا بذلك من خطر إضاعة الشباب المتمثل في وقت فراغهم وأموال أهاليهم وربما بأثمان الدروس الخاصة!. ثم ينقلنا معه في مشهد آخر جانبي لفتاة اقتحمت المقهى، بحجابها الخمري اللون فبحثتْ عن جهاز كمبيوتر هناك في زاوية من زوايا السايبر، بعيدًا عن الفوضى التي يضج بها المكان، فجلست وقد فاح منها العطر النفّاذ، الذي عم المكان وتشبعته الأنوف، وتحرّكت معه الجوارح. همّت الفتاة بتشغيل الكاميرا، إنها تريد أن تقوم بعمل محادثة عبر(ياهو ماسنجر)، وفي منظر شبابي مُبهج لافت ظهرت فجأة القلوب الحمراء الكثيرة على خلفية الشاشة، كما كانت تلبس خاتمًا يدل على أنها مخطوبة، ويبدو أنها ستتواصل مع حبيبها. بدأت المحادثة وهي ترد بالكتابة، فالمكان غير مناسب لبث المشاعر والتعبير عنها بكل كِيانها، أو على الأقل بما تشعر به. أخبرنا الكاتب بتفاصيل ما تقوم الفتاة، فالشاشات متلاصقة في المكان، وللبنت ضحكات مكتومة، وتومىء لحبيبها-الذي يبدو خارج البلاد- فتهيم معه ببعض الإشارات والهمسات وحركات الشفاه المدهشة. تكتم ضحكتها الأنثوية الفاتنة، وفي نفس الوقت تطبع قُبلة حانية على الميكروفون وهي تُخبّىء وجهها الذي يزداد حُمرة وخجلًا مع الاسترسال في المحادثة، وفي نفس الوقت تزداد ارتفاع الأصوات أكثر وأكثر، وكأن ارتفاع الأصوات يعطي مساحة للفتاة لأخذ راحتها في الكلام مع خطيبها، أو يقوم البعض بالتشويش عليها لأنها البنت الوحيدة في المقهى. وفي النهاية يصور الكاتب مقهى الإنترنت الذي تحول إلى قبر! من الصمت فقد ساده الظلام، لقد حاول البعض في هذا الجو التسلل إلى الخارج للتهرب من دفع الحساب لكن صاحبه تداركهم وأمسك بهم فلم يستطيعوا الإفلات والنجاة بأنفسهم. ذكر الكاتب الضوء ليشعرنا بالوقت، فقد أضاء المكان مرة أخرى بعد انقطاع التيار الكهربائي فصاح الأطفال بصوت عالٍ لا إرادي ومسموع (النور جه)، ظهرت الفتاة فجأة وهي تحتضن خاتم الخطوبة بأناملها الناعمة، وهي تستعد لجولة أخرى من المحادثة وإعادة تشغيل الكاميرا لكي تبدأ فصلًا آخر من فصول الرومانسية التي فصلها انقطاع التيار. لقد استطاع محمد بربر بالتفاصيل تارة، وبالتكثيف في الأحداث تارة أخرى أن يجعلنا نعيش لحظات من الحياة وجانبًا نجح في تحديد زاويته بكل براعة، وامتلاك لناصية عناصر القصة القصيرة، فقام بتوظيف الأشخاص وترتيب الأحداث وتسلسلها واللغة البسيطة، والأسلوب القريب من القاريء، والزمان والمكان، والحبكة والضوء والخاتمة التي تُنبيء باستمرارية الفتاة بالحديث المتواصل مع حبيبها مجددًا.

مشاركة :