تحدثت في المقال السابق عن سلبيات النزاعات والاختلافات الشخصية الذي تحدث في مقار العمل. هناك حالة أخرى معاكسة تحقق كذلك الخسائر في أماكن العمل، وهي التوافقات السلبية. رغم الظروف قد تختلف، إلا أنها مثل النزاعات تماما، قد لا تكون حقيقية وقد تكون أسبابها واهية وقد تحدث بعشوائية وتأتي بصور متعددة ومختلفة. ولضبط المقصود بالتوافق السلبي نحصره في كل ما يدخل ضمن التقارب والتوافق والتفاهم والتعايش، لكنه مع ذلك لا يحقق النتائج الإيجابية التي نسعى إلى تحقيقها ضمن المنظومة التي نمارس فيها هذا التوافق. وربما على العكس، لا ينحصر الأمر في عدم تحقيق التوقعات الإيجابية، وإنما في إشعال فتيل المشكلات ونشر السمية وتقويض الجهود الإيجابية. يبدأ التوافق السلبي من التقارب العفوي الذي يعمل بشكل غير مفيد ويتنوع ويتطور إلى أن يصل إلى التواطؤ الإجرامي المتعمد. وابتداء من تطبيق إحدى أهم نصائح النجاح في أماكن العمل، وهي أن تحظى بعلاقة جيدة مع الجميع وتوطد علاقاتك مع المؤثرين، وتتعرف باستمرار إلى أشخاص جدد، ستجد أن هذه الممارسة ممكن أن تتحول بسهولة إلى ممارسة سلبية مضرة. يمارس بعض الناس مبدأ تعزيز العلاقات لكن بشكل سلبي، فهو لاعب محترف في تحريك وإدارة اللوبيات المغلقة، ويصنع علاقات جديدة باستمرار، لكن شروط دخول الدائرة الخاصة به ليست لخدمة أهدافه المتوافقة مع أهداف الفريق والمنظمة، وإنما لخدمة أجندته الشخصية. وهناك آخر يقوم بتسويق الأحداث بشكل مثير ويفسر كل واقعة إدارية وكأنها مشهد من "صراع العروش"، وربما يتمركز ويتقارب مع طرف بعد تحييد آخر. وليس سوء النية شرطا هنا لهذا النوع من التوافقات السلبية، بل أحيانا يتصرف البعض بعفوية، لكنه ينجذب إلى مجموعات بائسة ويائسة. ربما ارتبط بمن يتشاركون مجموعة من المعتقدات الخاطئة. قد ينجذب الموظف لتعزيز صداقته مع آخر لأسباب مختلفة، منها التوافق الاجتماعي العام أو الخلفية المشتركة أو توافق أسلوب المزاح والترويح عن النفس، فتكون العلاقة محطة للمرح وتغيير الأجواء لهم وللغير. وهناك طبعا كم هائل من التوافقات السلبية المبنية على سلوكيات سلبية معروفة مثل نقل الكلام والنميمة والفضفضة والتباكي، ومتأكد أن الجميع قابل من يستمتعون بهذه التصرفات ويبحثون عمن يتوافق معهم حولها. في الأساس وجود هذا النوع من التفاعلات التي تخفف من ضغط العمل وتضفي درجة من الأريحية، مطلوب ويتم تحفيزه في العادة، إلا أن التوافق هنا قد ينقلب إلى أمر ضار ومؤلم بسهولة وسرعة، فكثير من حالات الفضفضة تتحول إلى سلبية معدية، ونقل الأخبار والشائعات تنقلب إلى سمية مخربة لبيئة العمل، وكثير من حالات المزاح تتحول إلى تنمر وتجاوز لا يمكن قبوله ولا يحقق أي منفعة لأي طرف، المتنمر، والمتنمر عليه، والمشاهد المستمتع، والفريق وبيئة العمل إجمالا. ومثلما "وافق شن طبقة" قد يجتمع بعض المتباعدين على ملفات محددة، لأسباب فنية أو غير فنية، ويتحول اجتماعهم وتقاربهم هذا إلى قوة مفككة لعمل المنظومة. من أوضح الأمثلة تقارب بعض الموظفين المؤثرين القدامى ـ الذين كانوا أضدادا في السابق ـ عند قدوم موجة من التغيير مع فريق إداري جديد. قد يحصل توافق غير مدروس وغير مفيد عندما يتفق مثل هؤلاء الموظفين على مقاومة التغيير والتصدي للملفات الجديدة. تشكل مثل هذه التوافقات السلبية قوة لا يستهان بها، وتكون في العادة مدمرة للمرحلة تؤثر في عملية التغيير وربما تجمده بالكامل. ومن أمثلة تقارب المتباعدين على ملفات محددة لأسباب فنية، يحصل هذا عند عملية صنع القرار في مشروع يتكون من عدة مراحل، وعندما يشترك عدد من الأعضاء في قراراتهم السلبية بسبب غياب المعلومة عنهم، فيشكلون قوة ضغط على الفريق الآخر، ورغم حسن النية، إلا أن آلية اتخاذ القرار التي فشلت في تجهيز متخذيه بالمعلومة الملائمة تسببت في صنع جبهة من التوافق السلبي المتكرر، والمؤثر بكل تأكيد في النتائج. عندما يجتمع التخطيط وسوء النية مع الفرصة المتمثلة في البيئة الرخوة تأتي صور أكثر قتامة من التوافقات السلبية، مثل التواطؤ للاختلاس أو التخريب والانقلابات الإدارية. ومثل هذه الصور ليست بحاجة إلى تأكيد بأننا سنجد بها توافقا وتقاربا بين أشخاص وفرق، وربما إدارات، لكنه توافق سلبي يتطلب المحاربة المباشرة بأدنى درجات التسامح.
مشاركة :