طايع لـ المدينة : «المحاكاة البائسة» أبشع ما وقع فيه شعراء النثر

  • 2/10/2023
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

«عبدالرحيم طايع».. مبدع حر، طليق كعصفور، وجامح كحصان بري، لا يأسره شكل فني، ولا يركن للمقولات الجاهزة ولا التنميطات والتصنيفات النقدية، هو يكتب ما يعكس روحه الوثابة المبدعة، غير معني سوى بالنص وصدقه وبراعته، فتتنقل روحه بين الفصحى والعامية، ويعيد قراءة الموروث الشعبي بعيون العاشق لهذا البلد وتاريخه.. ولعبدالرحيم دواوين: (سبع تنويعات، صفية، وجه كبير مخيف، روايح فل تحريرها).. وغيرها.. حصل على جائزة التفوق من نقابة اتحاد كتاب مصر مؤخرًا.. في حواره مع «المدينة» نفتح خزائنه الإبداعية ونقف عند علامات مهمة في مسيرته الأدبية وآرائه الصريحة والجريئة في بعض قضايا الشعر وجوازاته والقائمين عليه.. * لماذا المراوحة بين شكلين إبداعيين الفصحى والعامية، هل هي حاجة الذات للتحقق والوصول لعدد أكبر من المتلقين، أم أن لكل شكل مبرراته الجمالية بالنسبة لك؟ - العملية معقدة جداً في الحقيقة، والنصان توازيا داخلي منذ بدأت، لا أعرف الأسباب العميقة لكتابة نص باللغة الدارجة وكتابة آخر بالفصحى، ما أعرفه أنني دارس للفصحى (خريج دار علوم) ومشهور كوني أحد حماتها لا مجرد العارفين بقاعدتها، وكنت مميزاً فيها منذ الطفولة، كما أعرف خبايا «الدارجة» بحكم كوني مصرياً (شارعياً) ولدت ونشأت بأقدم شوارع الصعيد المصري الجنوبي: شارع النقيب بمدينة قنا (الجنوب المصري نفسه بيئة أغنى ما تكون بالفلكلور وباللهجات المنوعة الحميمة وطبيعته الغالبة شعبية ناطقة).. في فترة أقدم كنت لو أسمعت من يعرفونني كشاعر فصحى قصيدة بالعامية؛ قالوا: رائع وفوق الوصف وكذا ولم يكونوا يستغربون.. والعكس صحيح، فالنصان لهما عندي نفس الأهمية والقيمة والتركيز، لا تفضيل ولا إيثار، لكن لا إدراك لأبعادهما (المتساوية) في نفسي أيضاً! التيار الأكثر نباهة * يمتلئ المشهد الشعري لقصيدة العامية بتيارات متزاحمة، حتى ليصعب تحديد قوة التيار الذي يتسيد الساحة.. ما رؤيتك لهذا المشهد وتفسيرك لزخمه؟ - مع الوقت تتطور الأشياء، ولم يزل التيار المتسيد للساحة، باعتقادي، هو الذي يرضي طرفي التلقي: المعنيين (الشعراء أنفسهم والكتاب والمثقفين والمهتمين) واللامعنيين (الجمهور في قاعدته العامة) شخصياً أعتبرهذا التيار هو الأكثر نباهة وذكاء وتحققاً، والمشهد غني، بلا شك، مع تعددية الأصوات به مهما قوي بعضها وضعف الآخر، ولا يحتاج تعدد الأصوات إلى شرح؛ فكما أنني أختلف عن صديقي الأقرب في الطباع يصح اختلافي مع ابن جيلي في رؤيتنا للشعر (وكلانا يؤدي دوره المختلف في حدود البرواز نفسه).. صوتي بصمتي وصوت غيري بصمته ولو تجايلنا.. الكتابة روح صاحبها مهما تزامن مع آخرين؛ ولذا، بالمناسبة، أمقت لصوص الشعر والأدب!. طحين بعد الضجيج * قصيدة النثر تخلصت من عراكها مع الذين ينكرونها، ومع هذا لا يبدو في الأفق أنها ترسخ بالتراكم لذائقة جديدة، فهل كانت المعارك الأدبية دافعاً لتزايد أعداد مبدعيها.. وهل ثمة طحين بعد الضجيج؟ - أعتز بتجاربي في هذا الإطار، تجاربي بالعامية والفصحى وأراها متخلصة من المشابهة (التقليد الأعمى والمحاكاة البائسة) وهو أبشع ما وقع فيه شعراء قصيدة النثر بمصر.. أحد دواويني اختير لمكتبة الكونجرس الأمريكي: «وجه كبير مخيف»، على الرغم من عدم الاهتمام النقدي به هنا كالعادة.. طبعا تزايدت الأعداد بالحق وبالباطل، والمعنى أظنه مفهوماً: بعضهم كتب قصيدة النثر من باب الاستسهال والقفز على القواعد التي لا يعرفها أصلاً (أو مر بها ولم يقدر عليها).. وبعضهم كتبها فقيهاً بأبعادها بعد أن قطع شوطاً هائلاً في العمودية والتفعيلة (أو إحداهما) وقرأ الأدبيات المتعلقة بالقصيدة النثرية واطلع على تجاربها في الشرق والغرب، والأكيد، كالموت والحياة، أننا سنلتفت، بقوة، لبعضها، يوماً ما. الشجو الدافئ * الرجوع لقراءة الموروث الشعبي أشبه بالاستئناس بدفء الوجدان المصري في عمقه وبساطته، لماذا تمر على هذا الموروث كل فترة.. ألا تكفى القصيدة لكي تقول كل ما ينبغي أن يقال؟ - مهم جداً ما تقول، أنا دخلت هذه المنطقة الشائكة مختلفاً عمن سبقني.. دراساتي في الأدب الشعبي (أربع دراسات قصيرة كنت نلت بها مشروع التفرغ من وزارة الثقافة المصرية بفترة سابقة، وأصدرت منها دراسة بعد ذلك والثانية ستصدر خلال شهور والدراستان الباقيتان في الطريق).. مناطق لم يتطرق إليها الباحثون الشعبيون من قبل، وأستغرب أن كتاباً لي صدر بهذا المضمار ومر على المتخصصين مرور الكرام.. أبدي دهشتي للتجاهل؛ لأن البحث فريد في بابه ولأنه ليس مسبوقاً بالمرة على الرغم من ضيق صفحاته.. القصيدة كيان مغاير؛ مهما تكن تغطي الحاجات الوجدانية للمبدع، لكن لا تغني عن الشجو الدافئ المنبعث من السطر الذي تقوله امرأة بسيطة من الشمال المصري أو الجنوب.. سطر ملئ بالحكمة تجلله بلاغة خاصة رفيعة تتصل بالبلاغة العربية في تجلياتها الكبرى العبقرية (أو بالجذور المصرية الفرعونية الساحرة الآسرة).. ليس هناك لون فني يمكنه الإشباع بمفرده حقيقة ولا خيال، بل الألوان تتنادى ويعضد بعضها بعضاً، وعلينا أن نترجم الأفكار بصور شتى ما دام بوسعنا صنع ذلك بدراية عظيمة وإخلاص وإتقان؛ والمتأمل لملابس الناس في الشوارع، لا سيما النساء، بوسعه معرفة السر بيسر- سر بهاء تفاعلات الألوان المتباينة في تناغمها الباهر بالنسيج الواحد.. والموضوع متصل، في الصميم، بتعدد الألوان الفنية والقوالب التي تحوي داخلها الحروف! الشاعر المؤرخ * رصدت يوميات أحداث مصرية برباعيات شعرية، هل ترى أن الشاعر لا يزال يحمل في طياته بعض وظائفه القديمة كمؤرخ لأوجاع الناس وهمومهم؟ - لا يجب، في الحقيقة، أن يضمحل هذا الدور؛ فالشاعر، بالأساس، مؤرخ قومه الأثير (الميكروفون المعبر عن آلامهم وآمالهم بصورة فنية أخاذة نافذة)، ومهما تكن الوظيفة اختلفت والآليات تغيرت بمرور الوقت، ينبغي أن يفرغ الشاعر نفسه، أمام الأحداث الكبرى، راصداً إياها ومحتفلاً بها أو ناقضاً لها، والأهم: عاكساً رأيه فيها ورؤيته حولها، ما دام يملك الأدوات التي يصل بها إلى الجمهور العريض، ربما يضطره ذلك إلى الهبوط فنياً بمعنى ما (لضمان الوصول إلى عدد أكبر)، لكن يظل هو صوت الجموع الذي يمكن الرجوع إليه اختصاراً للمسألة كلها.. في الآخر أقول: حين يقرر الشاعر أن يكون جمهور نفسه أو أن يقرأ لأشباهه فحسب، وهو حر طبعاً، لا عليه بمثل ذلك مهما تكن الخسارة فادحة من كل جهة. الميل إلى الفلسفة * ما الذي تشعر بتغيره فيك، أدبياً، بمرور الوقت؟ - الميل إلى الفلسفة أكثر، حتى لو جمحت أحياناً، والاختزال ثم الاختزال، فلماذا تقول في عشرين سطراً ما يمكنك قوله في سطرين اثنين؟ أراني صرت بسيطاً أيضاً، بصورة لا تؤذي العمق، وصرت هادئاً والعالم يشتعل من حولي، أعني هدوءاً نصياً لا شخصياً. لست موظفاً * من المعروف أنك لم تلتزم بوظيفة ما، وظيفة ثابتة تضمن دخلاً مضموناً، وأنك تقاسي ويلات معيشية لأنك زوج وعائل، ترى كيف ترى الأمر بعين المبدع؟ وما تأثيره الواضح عليك؟ - تركت وظيفتي الحكومية؛ لأنني كائن لا يمكن التزامه بنظام الحضور والانصراف، هناك كائنات هكذا في هذا العالم، ولأسباب أهم تتعلق بالبيروقراطية والفساد وتقليدية الموظفين القاتلة، أرى الأمر صعباً طبعاً، ويدخلني التفكير فيه بدوائر من الأجدى ألا يدخل فيها مبدع بالذات، وتأثيره سلبي وإيجابي، أعني مفيداً وضاراً، كما يمكن أن يكون مفهوماً، وعلى كل حال أنا أعمل بالصحافة الورقية والإلكترونية ككاتب رأي، دخل ضعيف، لكنه معقول، وأفضل من العدم، وعمل غير ثابت، لكنه أفضل من اللاعمل مطلقاً، وأعتقد أنني صنعت شيئاً عظيماً بدائرة الكتابة للصحافة، مقالات منوعة مكتوبة برقي وعناية، وبوجه يشير إلى وعيي الذي تعبت في رعايته، والذي يسميه الأصدقاء النابهون فارقاً، تزيد الآن عن نصف ألف، وأسأل نفسي دائماً: لماذا لا يلتفتون إليها، بعين التقدير، ويقولون لصاحبها (من غير ميدالية ولا وسام): أحسنت. خيبات متلاحقة * لك أحلام تتجاوز الأحلام العادية بالتأكيد، كسائر المبدعين الراسخين ذوي التجارب الطويلة المدهشة، أيمكننا أن نعرف ولو بعضها؟ - ربما تندهش لو أخبرتك بأن خيباتنا المجتمعية المتلاحقة، لم تسمح لأحلامنا أن تتجاوز العاديين، في نفسي لنفسي شيء ولأصدقائي المبدعين الرائعين شيء، هذا قد يكون مختلفاً، وأما ما في نفسي لبيتي وامرأتي والطفلتين، فهو نفسه الخير الذي يحلم به جاري، أيا كان، وصاحب البقالة الذي تحت البيت، الخير الذي لا تميز فيه! أنا مقهور يا صديقي، وهذا جزء كبير من القهر، وقد تسمعني أقول: متى نعثر على حلم جميل مذهل نحلمه؟، ولا تسمعني أقول: متى يتحقق الحلم؟.. فالأحلام، في عموميتها، لم تعد جميلة ولا مذهلة، بحكم الضغوط والقسوة الزائدة الفاشية في الواقع. أكبر ضحية * أين منك صعيدك وأنت مقيم في القاهرة، كما اخترت، إقامة كاملة، أعني صعيدك الذي شكلك بوجه عام، بما في ذلك العقل والوجدان، أين بيئتك الأصلية الجنوبية، بلا تخصيص لقيمة معينة من قيمها؟ - بينما أقيم في القاهرة صعيدي مقيم فيّ، هذه حقيقة أكيدة، لا أتنصل منه ولا أشعر بغضبه لأنني تركته، لقد شكلني وانتهى الأمر، وليس لديه جديد، أذكره على الدوام وكثيراً ما أمشي في شوارع القاهرة وأجلس في مقاهيها ونواديها وهو معي، ولكنني، بالمناسبة، أملك رأياً يغاير معظم آراء قومي الصعايدة في القاهرة؛ فلست أراها قاتلة ولا شيئاً من هذا القبيل، بل أحياناً أراها أكبر ضحية، وهذا محل كتابة كبيرة عن المدينة والأقاليم ما زالت تستوي بداخلي، تغيرت لهجتي إلى القاهرية، ولم أجد في المسألة خيانة ما، وقد كنت حريصاً للأمانة على ميلاد البنتين، ابنتي، في القاهرة؛ لأنني هكذا أكون وارثاً فيها بمعنى ما، وإن كان الإرث هنا مفهوماً يحيل إلى صعيديتي، نطقته بتلقائية، ولا بأس بالأمر طبعاً فأنا القاهرة وأنا الصعيد، وأذكرك بأن زوجتي تنتمي إلى القاهرة في النهاية، وهي شريكة حبيبة، متجذرة في النفس، أنا صعيدي مديني بالأساس، لست قروياً، وما أقرب أبناء المدن إلى العواصم، أحب قنا بلدي وأحب القاهرة عاصمتي بلا تفرقة مهينة، اعتادها عصبيون، ومن حسنات الملمح الفرعوني الكثيف الآسر، في جنوبنا المصري، أنه منحنا مصرية عظيمة لا تفتتها القبليات بسهولة، عندي بالأخص، أخيراً فإنني أود إنصاف الصعيد أيضاً، الصعيد الجنوبي بالذات، فهو مظلوم في الدراما وأعين الشماليين، ومجهول وهذا هو الأخطر، لكن حقيقته في غاية التحضر واللطف، وهذا كلام يطول. عار عظيم * حصدت جوائز ونلت تكريمات، ربما قليلة ولكن معتبرة، وقمت بالتحكيم في جائزة ساويرس، الدورة السابعة في 2020، إلا أن رأيك في الموضوع برمته ليس إيجابياً.. ما الأسباب؟ - في أكثر من مسابقة، سواء محلية أو عربية، كنت أعرف أسماء الفائزين لو عرفت أسماء المتقدمين، قل لي الاسم وبلد الجائزة، وأنا أقول لك من سيفوز ومن سيخرج صفر اليدين، وهذا عار عظيم طبعاً، على الجوائز وعلى المتسابقين أنفسهم، من جهة أخرى صار التقدم للجوائز لا يعني سوى السعي إلى المال، بصورة تكاد أن تكون مطلقة، وهذا خطر على الإبداع لأنه يخضعه لشروط الجائزة فيجعله مفصلاً على مقاسها لا على مقاس الجمال والكمال، وأما عن التحكيم فالمعايير متباينة بشكل مزعج ومؤسف، الرواية الأولى هنا هي الأخيرة هناك، والعكس، وليس هذا منطقياً للأمانة، لأن مشارب النقاد والأساتذة المثقفين المتصدين للتحكيم، يجب أن تكون متقاربة لا شديدة التباعد هكذا.. هناك استثناءات في كل ما ذكرت بالطبع، وبالنسبة لتجربتي كحكم في مسابقة ساويرس؛ فقد كانت رائعة وحرة وأمينة، ولو طلبوني مرة أخرى للبيت الطلب ما لم تكن هناك موانع، أنا أخاف من التقديم في المسابقات، أخاف حقاً، لأن مفاجآتها غير السارة صارت أثقل من أن يحتملها القلب، وأما التكريمات فإنها في الأغلب تخص صاحب المحل وزبائنه، للأسف، ولا تخص من يستحقونها.. ولكن عندي أملاً في أن يتغير هذا كله.. ليست يائساً، لأن الأولاد الجدد، وإن كانوا عبثيين في الكتابة أحيانا كتجريبيين، فإنهم أيقاظ الضمائر بشكل أفضل مما كان في أسلافهم، هذا حق لا يصح نكرانه! ليس هناك لون فني يمكنه الإشباع بمفرده أكتب الفصحى والعامية بنفس الأهمية والتركيز خسارة فادحة للشاعر لو تجاهل الجمهور الرجوع للموروث الشعبي استئناس بدفء الوجدان.

مشاركة :