أشرف الصباغ: الواقع أكثر غرابة من الخيال العلمي

  • 2/1/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

من إحدى جامعات موسكو حصل أشرف الصباغ على الدكتوراه في الفيزياء النظرية والرياضية عام 1993، لكنه ترك هذا التخصص وراء ظهره، ومارس العمل الصحفي والكتابة الإبداعية والترجمة عن الروسية مباشرة، فأصدر من المجموعات القصصية خرابيش، والعطش، ومن الروايات مقاطع من سيرة أبو الوفا المصري وغيرها من قصص وروايات، كما ترجم إلى العربية جوانب من حياتهم، والفنون التشكيلية في مصر، الأدب الروسي في العشر سنوات الأخيرة وغواية إسرائيل: الصهيونية وانهيار الاتحاد السوفييتي. كيف بدأت عملية الإدراك الأولى، كما يوضح الصباغ في هذه الزيارة الثقافية؟ إنها تأتي عندما تنشر عملاً صغيراً، أو يكتب اسمك في صحيفة، تكتشف في هذه اللحظة أنك وسط كائنات تشبهك، تعرفها منذ زمن، تتناقش معها، تعيش حيوات مختلفة مع كل فرد فيها، تعبر معهم الأماكن والزمن والأحداث، تبدأ في إدراك ذاتك من وجهة نظر إبداعية، تعود بذاكرتك إلى البدايات. كيف كانت البدايات إذاً؟ يقول الصباغ: جدك لأمك يحملك على كتفه، يسير بك متجها إلى دكان الحلويات لا يزال صوته يطن في أذنيك، قالوا إنه توفي وأنا لم أبلغ بعد العامين، تتذكر الجنازة جيداً، القارئ يتلو سورة مريم، والنساء جالسات يحكين عن كل شيء عدا الموت، جدك لأبيك، يصدر فرماناً قاسياً بضرورة ذهابك إلى الكُتّاب، لكي تدخل المدرسة بعد ثلاث سنوات، حافظاً للقرآن مثل أولاد عمك، الأب غائب دائماً، إما في الخدمة العسكرية، أو في مدينة ما يبحث عن شيء ما. وأين الأم؟ يوضح الصباغ: حضور الأم يعوض كل شيء، خاصة إلى جانب الجد الذي لم يكتف بإرسال الحفيد إلى الكُتّاب، بل أيضاً بضرورة أن يساعد في كل أعمال الفلاحة، لكي ينشأ رجلا، لكنك، تتمرد على سيدنا الكفيف والعريف القاسي، عاقبوك على شيء ما لا تذكره، غافلتهما ذات يوم، وسحبتَ حذاءك، وقبل أن تنطلق، وجهتَ إليهم بعض السباب، قالوا إن الحرب بدأت، كانوا يمنعون إضاءة أي شيء ليلا، أخذوا رجالاً كثيرين إلى الجيش، ثم قالوا إن إسرائيل هزمت مصر. تتنوع الأماكن والأزمنة، قرى ونجوع، ثم مدينة ضخمة تطل على البحر المتوسط.. جيرانك من كل أنحاء الدنيا: أرمن ويونانيون وإيطاليون.. آخرون من قرى ومدن بحري وقبلي.. يقولون لك، إن هذا البحر المالح ليس له نهاية، لكنهم يدرِّسون لك في السنوات الأولى من المدرسة أن هناك دولا أخرى تطل على هذا البحر المالح من الجهة المقابلة، هكذا يتذكر الصباغ. يواصل: ترتبط ذكرياتك بالمتحف الروماني وسيدي جابر والبحر الواسع الكبير ونوات الشتاء، والكشافة، ورمال أبي قير، والقطار الذي امتطيته وأنت لم تبلغ الثامنة من عمرك بمفردك متوجها إلى الورشة التي تعمل بها في المنتزه، قالوا إن عبد الناصر مات، لن تبالغ إذا قلت إن الأرض أخرجت أحشاءها طوال أكثر من أسبوع كامل.. مصر كلها في الشوارع. تتفتح ذاكرة الصباغ على مدينة أخرى، قالوا إنها القاهرة، حيث انتقلت الأسرة. ليبدأ حياة غريبة في هذه المدينة الكبيرة.. يتابع عبر الراديو الأخبار والمسلسلات، ونشرات الأخبار التي تتحدث عن السياسة والحرب وفلسطين.. بين العمل والدراسة تتفتح عينه على الأماكن: الأماكن التي يعيش فيها هنا والآن، والأماكن التي تركها في قرية ما أو مدينة ما وأصبحت بعيدة الآن، لكن التفاصيل تتضح تدريجيا لتتداخل مع حواري القاهرة وأزقتها وورشها والوجوه الكثيرة التي تتداخل مع بعضها بعضا. يقول الصباغ: يفاجئك انتصار أكتوبر/تشرين الأول ١٩٧٣ تسمع حكايات الكبار، لكنها لا تشفي غليلك، فتمعن الاستماع إلى الراديو، تبدأ بقراءة الصحف، تقع بين يديك كتب مختلفة، تستعصي عليك المفردات، فتفاجئ مدرس اللغة العربية بسؤال: ماذا يعني قانون السببية؟ يسألك: أين قرأت هذه الكلمة؟ تقول له بفخر: عند مصطفى محمود.. يبتسم، ويشرح لك قانون السببية، وسرعان ما يبطل طه حسين مفعول مصطفى محمود، تهرب من المدرسة مع زملائك، وتذهبون إلى أقرب دار سينما، تمرون على سور الأزبكية، تلتقط أيديكم بعض الكتب القديمة بدون أي قصد، تقرؤون وتتبادلون الكتب. ويقول أيضاً: تفاجئك انتفاضة ١٨ و١٩ يناير/كانون الثاني ١٩٧٧ تتذكر أنك كنت قد بدأت تقرأ قبلها بثلاث أو أربع سنوات، تدرك أن ما كنت تسمعه في نشرات الأخبار، وما كنت تقرأه في الكتب القديمة يتماوج حولك عبر جحافل طلاب الجامعة والعمال الذين ملأوا الشوارع، وهتافاتهم ترج الشوارع والمباني، تتذكر كل التفاصيل، تحاول الكتابة عنها، تفشل، فتذهب لتكتب أبيات شعر ركيك، تواصل العمل والدراسة، تتذكر ما قرأته عن العمال والأطفال الذين يعملون في الورش، يسحبك عفريت القراءة لتجد ما تعيشه في البيت والحارة والورشة هناك عند ماركس ولينين، وكتب أخرى متوافرة في مكتبة يملكها أخو أحد زملائك. تفاصيل كثيرة، لا مفاجآت، حياة عادية: الأب مشغول دائماً بعمله، الأم مشغولة دائماً بالأب وبالأولاد، لا أحد حولك يقرأ أو يكتب، لكنهم مشغولون بك وبأنفسهم أيضا، وأحيانا لا يذكر الأب في أي صف أنت، وهل أنهيت المدرسة أم لا؟ وعبر الورشة تقفز من المدرسة إلى الجامعة، وفي الجامعة يتسع العالم وتتضاعف إمكاناته وإمكاناتك، تشارك في التظاهرات، وتكوِّن الأسر الثقافية، وتكتب في مجلات الحائط، تقرأ لنجيب محفوظ ويوسف إدريس وأنيس منصور والعقاد، تفاجئ نفسك بتشيخوف وديستويفسكي وهيمنجواي وصبري موسى، تواصل قراءة مكسيم جوركي، وتحاول الكتابة فتفشل.. تنشر قصصا ركيكة في مجلات الكلية المصورة وفي مجلات الحائط. لا شيء يمنع الصباغ من التدفق فيواصل: وحدثت المفاجأة.. تقترب منك فتاة وهي تبتسم تقول: ابن خالتي مجنون مثلك، يكبرنا سنا، لكنه يتحدث كما تكتب أنت في هذه المجلات، أحينا أتذكره كلما سمعتك تتحدث، أخذتني إلى ابن خالتها: رجل قصير، وسيم، عيناه باسمتان في حزن، يتحدث في هدوء لدرجة أنك تندهش لمخارج ألفاظه المميزة والدقيقة، كان يعيش مع أمه وجدته وولديه، أذكر أننا بدأنا الحديث قرب المساء وأنهيناه في صباح اليوم التالي، ظللت عنده ٣ أيام كاملة.. كان بيته مفتوحا دائما.. عشرات الأشخاص يأتون ويذهبون.. وإبريق الشاي مملوء طوال الوقت.. كان يدرِّس اللغة الفرنسية لتلاميذ المرحلة الثانوية بالمجان. عنده التقيت الشاعر نجيب شهاب الدين، ثم الكاتب محمد إبراهيم مبروك، عنده وضعت يدي على المنهج، علمني القراءة من جديد، وإعادة القراءة مرة واثنتين وثلاث، من مكتبته الضخمة، انطلقت إلى عالم أرحب وأوسع وأكثر تنظيما ومنهجية في القراءة والتفكير، قرأ قصصي الأولى، وأبدى إعجابه، ثم ساعدني على إعادة الكتابة، وقبل منتصف ثمانينات القرن العشرين، فاجأته بقصة ملخص ما نشر عن سلمى منشورة في مجلة القاهرة، وأعطاني الشاعر عمر نجم وقتها عشرين جنيها كاملة مكافأة، ودعاني إلى الكاب دور. يواصل الصباغ: أنهيت الخدمة العسكرية بقصة واحدة، ومنها إلى دار التحرير للطبع والنشر للعمل بالقسم الفني بجريدة المساء، تعرفت بالكاتب والروائي محمد جبريل الذي مد يده لي، كما مدها لعشرات غيري، كان وسط القاهرة مفتوحاً أمامي، تلمست الطريق إلى هناك، حضرت جلسات الناقد إبراهيم فتحي في مقهى فينكس بعماد الدين.. كان هناك الكتّاب إبراهيم أصلان وإبراهيم عبد المجيد وعشرات يحضرون ويغيبون كل أسبوع. وتأخذ الصباغ الصحافة من أحيائه الشعبية التي عاش فيها، لتلقي به في أحياء شعبية أخرى.. يلتقي بشرا من هنا ومن هناك.. يحلم مع أصحابه على شاطئ النيل أو في الحسين والغورية.. يسير ويسير الزمن موازيا له، إلى أن يجد نفسه مطرودا من جريدة المساء.. لا يهم لماذا طردوه؟ لم يكن الأمر يعني أي شيء، هناك ما يمكن عمله. يمكنه أن يحكي الحكاية بألف شكل وبألف وجه، لكن ماذا يكمن وراء الحكي والحكايات؟ يكمن وعي من نوع آخر، يراوغه ويراوده، ويفر منه عندما يريد إدراكه.. يكتشف أن الوعي والإدراك قيم مثل المعنى العام للضمير، وجوهر المهنة، والالتزام الأخلاقي بمعناه الفلسفي.. منظومة قيم تتكون وتتراكم عبر مسارات ملتوية ومتعرجة ومتقاطعة وصاعدة وهابطة، وفي نهاية المطاف يتشكل منها كائن مثل بصمته التي لا تشبه بصمات الآخرين، حيث بصمات الآخرين لا تتشابه أيضاً. يسافر بعيدا بمحض الصدفة، ويتعلم لغات أخرى لم يكن يقصد أن يتعلمها، تباغته الغربة، فتفجر عنده كل الثنائيات: الأنا والآخر، الشرق والغرب، التقدم والتخلف.. تتراكم المعرفة بقصد ودون قصد، يطل الإدراك برأسه ليمنهج معارفه.. ويخطو أولى خطواته على طرق ودروب جديدة أكثر التواء وتعرجا، لا أبيض ولا أسود في هذا العالم.. الحياة قوس قزح، وبين كل لون وآخر تتعدد الألوان.. تسقط قناعات وقضايا وأفكار، وتظهر أخرى جديدة محملة بما راكمته السنوات. وفجأة يجد نفسه، بحكم العمل، وسط الحروب والكوارث الطبيعية، والاحتجاجات والانتفاضات، والثورات.. يسافر من بلد إلى آخر.. تتعدد الألوان والألسنة والوجوه والقوميات، يعيد اكتشاف العالم في ضوء المصطلحات الجديدة: الشمال والجنوب، المركز والأطراف، تجارة ال أسلحة والتكنولوجيا.. يفكر في كل ذلك عندما يرى نتائج الحروب: الجثث والدمار.. عندما يرى نتائج الفساد والاستبداد: احتجاجات وتظاهرات وثورات وقنابل غاز ورصاص حي يخترق أجساد المتظاهرين والمحتجين من أجل مطالب هي في الحقيقة أبسط حقوقهم. يسير محملا بكل التجارب والخبرات، وكلما تصور أنه اكتفى، يكتشف أنه لم ير شيئا، ولا يعرف أي شيء بعد.. وبحكم الغواية، يكمل السير، وهنا يقول: هناك في أعماقك شيء ما يدفعك على طريق تلك الغواية، حتى إذا كنت قد قررت التوقف لسبب أو لآخر، لا شيء مجانيا في هذا العالم، الغواية تحتاج إلى تضحية، تقف أمام اختيارات حياتية ووجودية، تفاجئك ثنائيات: الواجب والضمير، الخير والشر، القبح والجمال، الفقر والثراء.. لكنك لا تستطيع الاختيار لسبب بسيط للغاية: العالم متنوع، والاختيارات كثيرة، والاحتمالات أكثر.. لا أبيض ولا أسود.. تدرك أن يقين الشباب قد فارقك، وحلت محله حكمة الشك. يعيد الصباغ ترتيب العالم يوميا، سواء بالورقة والقلم، أو بأزرار الكمبيوتر، وكلما تصور أنه نجح في صياغة معادلة ما، اكتشف أن العالم بحاجة إلى المزيد من الترتيب، وفجأة يقع في الورطة الكبرى: لقد أصبح ما يجري في الواقع، أكثر غرابة وإثارة للدهشة من كل أفكاره وأفكار كل كتاب العالم الأحياء والذين رحلوا! واقع لا يستطيع إدراكه إلا بواقع افتراضي، غير أن الواقع الافتراضي تداخل الآن مع الواقع، وأصبحا بحاجة إلى شيء ما قد يكون الواقع ما بعد الافتراضي هنا يضع الصباغ قدمه على أول الطريق: الخيال هو الحل، ليس الوهم أو الشعوذة، إنما الخيال والجنون المعرفيان المرصعان بالمعرفة والعلوم والتكنولوجيا. يقول الصباغ: هنا نتوقَّف قليلا لنتأمل اللوحة، أو ببساطة لنطلق العنان لخيالنا بالمعنى العلمي والإيجابي بعيدا عن الشطحات والهلوسات: إذا كان القرن الحادي والعشرون هو قرن تعدد الأبعاد والقياسات، وتراجُع الثقة بالواقع، والتوالد السريع للمهرجين والأفاقين، وتنامى التزييف، والتصنّع، والنَسْخ الإعلامي، والمَسْخ الإعلامي، والأشباه الإلكترونية، والعوالم المتعددة.. إذاً فماذا يمكن أن يكون عليه القرن الثاني والعشرون؟ وماذا يمكن أن نطلق عليه؟ وبأي كرامات سيهل علينا؟ هذا إذا كنا سنستمر في الوجود بأحاسيسنا العادية والمألوفة بالواقع!

مشاركة :