إن كان المجلس المركزي في دورته في أكتوبر 2018 قرر اعتماد مسمى رئيس الدولة بدلا من رئيس السلطة كما قرر الانتقال من مرحلة سلطة الحكم الذاتي إلى مرحلة الدولة فهل هذا ينطبق على الحكومة بحيث يجوز تسميتها بحكومة الدولة الفلسطينية؟ وهل تستطيع ممارسة عملها في علاقاتها مع الكيان الصهيوني وعلاقاتها الخارجية تحت هذا المسمى؟ وما علاقتها وحدود التزامها باتفاقية أوسلو؟ هل هي حكومة سياسية أم حكومة تكنوقراط؟ وهل يمكن أن تكون حكومة تكنوقراط في الحالة الفلسطينية؟ وما سر الصمت الذي يكتنف عمل حكومة اشتيه؟ منذ تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994 وتشكيل أول حكومة برئاسة ياسر عرفات إلى الآن -حكومة محمد اشتيه- تعاقبت 18 حكومة، وخلال هذه الفترة نلاحظ تراجعاً متدرجاً في الدور السياسي المباشر للحكومة وتحول من السياسة إلى التكنوقراط مع تقليص مناطق النفوذ والسيطرة وتراجع في المهام والخدمات، بل وصل الأمر إلى تهديدات أو تلويح بحل السلطة وإنهائها مما يعنى نهاية عمل الحكومة، تارة من القيادة الفلسطينية نفسها كرد على الممارسات الصهيونية وتقاعس المنتظم الدولي في دعم السلطة وحكومتها وتارة أخرى من دولة الاحتلال التي ترى أن السلطة/الحكومة لا تقوم بما يجب في الجانب الأمني وتمارس التحريض على العنف من خلال صرفها مخصصات لأسر الشهداء والأسرى. قبل الاستطراد ننوه أن توصيفنا للحكومة بأنها حكومة تكنوقراط ووزرائها بأنهم من التكنوقراط يأتي انسياقاً مع البلاغات الرسمية أو الاستعمال الدارج لهذا التوصيف، وتشكيل حومة تكنوقراط هو مطلب للرباعية الدولية وكان يريدون منها الالتزام بشروط الرباعية والتحرر من السياسة العرفاتية. في رأينا أنه في الحالة الفلسطينية من الصعب تجريد أو اسقاط صفة السياسي عن أي حكومة أو وزير ما دامت الحكومة تشتغل في ظل الاحتلال وملتزمة باتفاقات سياسية وأمنية واقتصادية مع الاحتلال ومع الجهات الدولية المانحة. مثلاً تجاوزاً نقول بأن سلام فياض كان رئيس وزراء من التكنوقراط. صحيح أنه جاء من مؤسسات مالية دولية ولم يكن منخرطاً سابقا في العمل السياسي الحزبي ولكن الكل يعلم الظروف السياسية التي أتت به وزيراً للمالية بداية في عهد أبو عمار ثم رئيساً للوزراء في عهد أبو مازن، كما أنه شارك في الانتخابات وشكل حزباً أو تجمعاً (الطريق الثالث) كان له ممثلون في المجلس التشريعي. ونفس الأمر بالنسبة للأكاديمي رامي الحمدالله الذي لم يكن يخفي طموحه السياسي لدرجة أثارت التخوفات عند مركزية حركة فتح التي حرضت الرئيس أبو مازن على إقالته أو دفعه لتقديم استقالته. الحكومات الأولى كانت حكومات سياسية بامتياز حيث كان يرأسها قائد سياسي كبير ووزراؤها من قادة الأحزاب أو من شخصيات سياسية تنتمي لجيل الثورة والنضال. فقد ترأس الزعيم الراحل ياسر عرفات قيادة أوّل خمس حكومات فلسطينية ابتداءً من 20 أيار/مايو 1994 وحتى 30 نيسان/ابريل 2002 بالإضافة إلى رئاسته للسلطة، ومن بعده وفي ظل ظروف ملتبسة تسلّم محمود عباس في نهاية نيسان/ابريل 2003 رئاسة الحكومة الفلسطينية السادسة وتم حينها الفصل بين رئاسة السلطة ورئاسة مجلس الوزراء، ومن بعده أحمد قريع. واستمرت رئاسة الحكومة عند حركة فتح إلى حين إجراء انتخابات المجلس التشريعي للمرّة الثانية في كانون الثاني/يناير 2006 وفازت فيها حركة حماس وكلف الرئيس أبو مازن زعيم حركة حماس في قطاع غزة إسماعيل هنية رئاسة الوزراء وبدأت الحكومة (العاشرة) عملها في 27 آذار/مارس 2006 وكانت مشكلة من وزراء سياسيين من حركة حماس ولم تشارك فيها فصائل منظمة التحرير. لم تصمد حكومة حماس طويلاً بسبب الحصار المالي والاقتصادي والسياسي، وانتهى الأمر في 17 آذار/مارس 2007 بتشكيل الحكومة الفلسطينية الحادية عشرة (حكومة الوحدة الوطنية) التي شارك فيها سياسيون من أغلب الفصائل الفلسطينية، قادها اسماعيل هنية، وكان عزام الأحمد نائباً له. بعد ثلاثة أشهر على تشكيل هذه الحكومة حدث الانقسام وسيطرت حركة حماس بالقوة العسكرية على قطاع غزة، الأمر الذي دفع الرئيس محمود عباس لإقالة حكومة اسماعيل هنية في 14 حزيران/يونيو، وإعلان حالة الطوارئ في مناطق السلطة، وكلّف سلام فياض بتشكيل حكومة (تنفذ حالة الطوارئ) وانتقل مقرها من غزة إلى رام الله، وكانت هذه أول حكومة تمارس عملها دون نيل الثقة من المجلس التشريعي كما كان أغلب أعضائها من التكنوقراط، واستمرت حتى 19 أيار/مايو 2009 ثم أعاد فياض تشكيل الحكومة الثالثة عشر والتي استمرّت حتى منتصف 2012، وبعدها الحكومة الرابعة عشر التي انتهت في منتصف 2013. بعد "التكنوقراطي" فياض كلف الرئيس "التكنوقراطي" رامي الحمد الله رئيس جامعة النجاح بتشكيل الحكومة الخامسة عشر وبعدها الحكومة السادسة عشر في حزيران 2014 (حكومة الوفاق الوطني) في الثاني من حزيران/يونيو 2014 بعد اتفاق مخيم الشاطئ والتشاور مع الفصائل. بسبب عدم تمكين حركة حماس الحكومة من ممارسة مهامها في القطاع وأيضاً بسبب اعتراضات من قيادات فتحاوية على نهج رامي الحمد الله دعت اللجنة المركزية لحركة فتح لتشكيل حكومة فصائلية من منظمة التحرير، وكلف الرئيس القيادي الفتحاوي محمد اشتية في 10 آذار/مارس بتشكيل حكومة جديدة، لتكون خلفًا لحكومة الحمد الله. من بين حكومات السلطة الفلسطينية الثمانية عشر فإن حكومة د.اشتيه الأقل حضوراً سياسياً والأكثر صمتاً مقارنة بالحكومات السابقة حيث نادراً ما نسمع تصريحات من الوزراء حتى فيما يتعلق بمهامهم الوظيفية، حتى رئيس الوزراء لم يعد يتحدث ويصرح كما كان سابقا، كما صمت الناطق باسم الحكومة. قد يتم تفسير ذلك بالقول إن الحكومة تعمل بصمت وهذا أمر إيجابي، أو تفسيره كضعف من الحكومة بسبب صعوبة الأوضاع التي جاءت فيها عام 2019 وما تلاها من ظروف أكثر صعوبة وتعقيداً، وقد يكون السبب لأن غالبية وزرائها من التكنوقراط وهؤلاء يتجنبون الخوض بالأمور السياسية، بالرغم من أن رئيسها قائد سياسي فتحاوي، أو لأن أوامر عليا طلبت منهم العمل بصمت وعدم الإدلاء بأي تصريحات سياسية، او لأنها الاكثر التزاماً باتفاقية أوسلو التي حددت نطاق عمل الحكومة/السلطة في نطاق الحكم الذاتي المحدود. وأي كان السبب فلا نستطيع الفصل بين عمل الحكومة والظروف العامة التي تمر بها القضية بشكل عام محليا ودوليا، والمحاولات المستميتة من دولة الكيان العنصري للتضييق على عملها وربما إسقاط السلطة وخلق قيادات بديلة، أيضا الموقف السلبي بل والمعادي لها من طرف حركتي حماس والجهاد الإسلامي وبعض فصائل منظمة التحرير وخصوصا الجبهة الشعبية. إن كانت الحكومة غير منزهة من الخطأ ويمكن لومها وانتقادها في بعض الملفات المتعلقة مثلا بالحريات أو محاربة الفساد أو العمل الدبلوماسي الخ إلا أن صمتها وابتعادها عن الجدل السياسي المباشر والتصريحات النارية يمكن اعتباره تصرفا مقبولا وعقلانيا حتى تضمن ثقة الجهات المانحة وتمويلها وحتى لا تمنح العدو مزيداً من الذرائع للتضييق على عملها وتدمير ما تم إنجازه. ولكن إلى متى ستستمر الأمور على هذه الحالة من الالتباس والارباك وغياب استراتيجية عمل وطني تواجه المخاطر غير المسبوقة ليس فقط للحكومة والسلطة، بل للوجود الوطني على أرض فلسطين؟
مشاركة :