خطيب الحرم المكي: الحضارة لا تقاس بالترف المادي وإنما بآثارها في حفظ كرامة الإنسان

  • 2/17/2023
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور صالح بن حميد المسلمين بتقوى الله، ولزوم الاستغفار . وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم في الحرم المكي الشريف: قيام الحضارات وازدهارها، وسقوطها وانهيارها يرجع إلى ما تحمله من قيم، ومبادئ، ونظرة إلى الحياة، كما يرجع بقاؤها وقوتها إلى معاييرها في ضبط سلوك الإنسان وتربيته، ولا تحرص أمة من الأمم على شيء من مفاخرها وآدابها مثل حرصها على قيمها الحضارية التي تشكل حياتها، وملاكَ أمرها ، وعلوَّ شأنها. وذكر أن الأخلاق هي أساس بناء الأمم ، وبرسوخها يتحقق الأمن والسلامة من الهلاك ، والفناء ، بل لا يمكن العيش ولا التعايش – بإذن الله – بغير القيم العالية ، والأخلاق السامية لافتًا النظر إلى أنه متى ما كان الخلق حميداً أثمر سلوكاً رشيداً، وصلاح أفعال الإنسان بصلاح أخلاقه، وأي مجتمع لا يرتبط بروابط مكارم الأخلاق فإنه لا ينعم بالسلم والوئام والانسجام، بل يظهر فيه التفكك والتصارع، ثم الفناء والتلاشي . وبيّن “بن حميد” أن الحضارة لا تقاس بآثارها المادية ، ولا بالترف المادي ، بل بآثارها في حفظ الإنسان وصيانة كرامته ، موضحًا أن الماديات ، والمخترعات ، والمكتشفات ، لا تكفي لسلامة البشرية ، ونشر الطمأنينة والسلام ، مؤكدًا أن القواعد الأخلاقية لا تنفك عن المبادئ الدينية، ولا عن المقاصد الإيمانية ، ولا تنفصم عن التعاليم الشرعية . وأفاد أن جماع الخُلُق هو التدين، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين ، فلا دين بغير أخلاق ، ولا أخلاق بغير دين ، كما أن الأخلاق الصحيحة ، والقيم المستقيمة لا تتغير بتغير الأشخاص ، ولا بتبدل الأحوال ، ولا بتقلب الأزمنة، ولا تعدد الأمكنة، فهي تكون مع العدو والصديق، ومع القريب والبعيد ، ومع القوي والضعيف ، ومع المنتصر والمهزوم ، ومع البَرِّ والفاجر ، ففي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (وخالق الناس بخلق حسن).رواه الترمذي بسند صحيح من حديث أبي ذر ، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما . وأضاف أن من الانهيار العظيم أن تتبع الأخلاق المصالح، فهذا زور وانحراف، وهي حينئذ سياسات مصالح لا سياسات مبادئ . وأكد أن ما تعانيه البشرية اليوم في كثير من ديارها من خوف وقلق، وما يبرز من تغيرات في المناخ ، ومن حرائق في الغابات ، وجفاف في بعض الأنهار ، وما يتجلى من تمييز في المعايير ، والنظر المتباين للشعوب ، ومعالجة الأزمات العالمية ، وما يحصل من تقتيل، وإجلاء عن الديار ، وتهجير عن الأوطان كله بسبب التنكر للقيم ، والجرأة على معالم الدين الحق ، وغلبة الأثرة والأنانية، والإغراق في الشهوات، والتفكك الأسري، والتحرر الجنسي. وأوضح خطيب الحرم المكي أنه قد برز الإلحاد ، والانحراف في الحرية الفردية ، والتحرر العقلي والفكري ، والتمرد على الأسرة وتماسكها ، حتى وصلوا – والعياذ بالله – إلى ما يسمى بالمثلية ، وهو الشذوذ ، والفاحشة التي لم يسبق إليها أحد من العالمين مضيفًا: لقد خسروا وهم يعيشون على وعود في تحقيق السلام ، وإنهاء الحروب، ونشر العدالة والمساواة ، وبسط الأمن ، واحترام حقوق الإنسان على ظن منهم أن التقدم المادي كفيل بملء الفراغ الروحي ، ونشر القيم الصحيحة ، والأخلاق المستقيمة ، وغرقوا في أوحال الرغبات الجسدية ، والشهوات المادية ، والتحلل من الضوابط الأخلاقية موضحا أنه حين تضعف القيم يخترع الإنسان آلات الفساد ، ووسائل الغواية ، وكل ما يؤدي إلى التدمير والهلاك . وتابع: ما أنعم الله به من التقدم العلمي الهائل ، وما تحقق للإنسانية من إنجازات في ميادين العلم أمر لا ينكر ، ويستحق الشكرَ ، ومعرفةَ حق الله فيه ، في الصناعة ، والطب ، والتعليم ، والثقافة ، والاتصالات ، والتقنيات ، وعلوم الفضاء ، وغيرها ، ولكن المصيبة في إهمال القيم ، والأخلاق ، وعدم العناية الصحيحة ، بالنفس والروح ، والقلب ، والعمل الصالح . وذكر “بن حميد” أن القيم هي التي تربط الحضارة بالثقافة ، وتربط العلم بالسلوك فالقيم الحضارية هي الروح ، وهي النور الذي يمد البشر بالحياة الحقيقة موضحًا أن مقام القيم في السيرة النبوية يتجلى في قول أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ، وهي تصف النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي أول ما تنزل : كلا والله لا يخزيك الله أبدًا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتَكْسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، ثم لما نزل الوحي وتتابع تجلى لنا قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في وصف محمد صلى الله عليه وسلم : (كان خلقه القرآن) . وأضاف أنه لا سبيل لإصلاح الناس بل إصلاح البشرية إلا بالالتزام بتعاليم الدين ، ومنهجه الأخلاقي ، وأخذ الناس بفضائله وتوجيهاته ، الدين الحق بتعاليمه وقيمه هو الذي أنشا الأمة ، وأنشأ لها حضارة لم تتحقق لغيرها ، ولم تصمد صمودها على مدى خمسة عشر قرنا في قيمها الإنسانية : قيمِ العدل ، والرحمة ، والمساواة، والتسامح ، والوسطية ، والتعايش في قيم كبرى لا تحصر. وأردف: إن شئتم مزيداً من البيان لمقام الأخلاق في ديننا فانظروا وتأملوا قيم الإسلام في أشد المواقف وأحلكها إنها حالات الحرب وحال قيام المعارك ، واشتداد الوطيس ليقول قائد المسلمين مخاطبا جيشه : (لا تخونوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا طفلاً ، ولا شيخا كبيرا ، ولا امرأة ، ولا تقطعوا نخلا ، ولا تحرقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تذبحوا شاه ، ولا بقرة ، ولا بعيراً إلا لمأكلة وسوف تمرون على قوم فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم ، وما فرغوا أنفسهم له)، وامتدح النبي صل الله عليه وسلم حلف الفضول وقال : (ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت)، لأنه حلف إيجابي ، حلف يكرس قيم السلم ، وفي وثيقة المدينة النبوية المنورة بيان لهذا المنهج الواضح ، وترسيخ لهذه القيم العظيمة ، فقد جعلت هذه الوثيقة كل مكونات مجتمع المدينة يداً واحدة على من يريد النيل من أهلها (أي الدولة) . وأكد أن قيم الإسلام وحضارته قامت على الدين والتوحيد الخالص ، والجهاد لإعلاء كلمة الله، والاعتزاز بالعقيدة ، وهي مع كل هذا الوضوح والجلاء أشد ما عرف التاريخ تساميا ، وعدالة ، ورحمة ، وإنسانية مبينًا أن قيم الحضارة وأخلاق الإسلام عاشها المسلمون منذ عهد النبوة ، ثم عهد الخلافة الراشدة ، ثم عهود الدول الإسلامية المتعاقبة ، في كل تاريخ الإسلام ، بل وفي عهد الاستعمار ، والحاضر المعاصر ، فهي قيم ثابته ، وأخلاق الإسلام في المسلمين راسخة ، لا تتأثر بعوامل الزمن ، وتقلبات السياسة ، وتغيرات الاجتماع والاقتصاد وغيرها . واستطرد خطيب الحرم المكي بالقول: بخلاف ما يشاهد في كثير من الحضارات التي غالبًا ما تكون مرتبطة بحال الناس والزمان من أمن ورخاء ، وفقر وغنى ، فإذا ما تغير الحال انقلبت الموازين واضطربت المعايير ، فأكل قويهم ضعيفهم ، وسطا غنيهم على فقيرهم ، واستبد ظالمهم بحقوقهم ، بل إن المسلمين في فتوحاتهم وحضارتهم لم يخربوا الديار التي دخلوها ، ولم يهدموا العامر فيها ، ولم يقتلوا أو يقاتلوا من لم يقاتلهم، ويرفع السلاح عليهم، أما حضارات غيرهم فاذا دخلوا الديار هدموها، وشردوا أهلها، وخربوا عامرها ، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وما ذلكم إلا لأن قيم الإسلام وحضارته وأخلاقه متصلة بالعقيدة وبأحكام الشريعة، وبمعايير أخلاقه .

مشاركة :