• تثبت العملية الإرهابية، التي استهدفت مسجدًا في محافظة الأحساء أن بلادنا -بجميع مناطقها، ومكوّناتها- تقع ضمن دائرة خطط هذا التيار المتعطّش لسفك الدماء، والذي لا يقيم حرمة للإنسان، ويسعى لإفساد الأرض، بدلاً من إعمارها، كما جاءت بذلك الديانات التوحيدية، وفي مقدمتها الدِّينُ الإسلاميُّ، كما يثبت الحدث -كما ذكرنا في مقالات سابقة- أن أدبيات التيار السياسي الإسلامي قد مهَّدت الطريق أمام التيارات التكفيرية، والتي عملت -جاهدةً- على مدى أكثر من نصف قرن من الزمن، على تهميش، وإلغاء مبدأ الولاء للوطن، واستبدلت به الولاء للمرجعيات الدينية الخارجية، سواء كان ذلك المرجع طالبيًّا، أو جهاديًّا سلفيًّا، أو قاعديًّا، أو داعشيًّا، أو حزبيًّا، وأن هذه المرجعيات تختار لتنفيذ عملياتها الإرهابية شبابًا من صغار السن، وبعضهم من أصحاب السوابق الإجرامية، موهمةً إِيَّاهم أن مثل هذه التفجيرات تغطي على ماضيهم الموغل في الإجرام، وتلحقهم -حسب زعمها الباطل- بالشهداء. • وهناك قضية أخرى هامّة، وهي أن بعض المنظِّرين لهذه الحركات الإرهابية، أو المتشددة لا يمتلكون أيّ قاعدة فقهية، وهم أقرب إلى دائرة الوعظ، فبعضهم مثلاً كان تقنيًّا، وبعضهم الآخر جاء من جذور بعثية، مثل مَن نصَّب نفسه خليفة للمسلمين في أرض العراق والشام المدعو أبو بكر البغدادي، ورفاقه، وأن انخراط بعض شبابنا ضمن هذه المنظومات التكفيرية، وسواهم ممّن جنَّدتهم هذه الحركات لتحقيق أهدافها تنطبق عليهم أوصاف، وسمات حركة الخوارج المعروفة؛ لإيمانهم بالخروج على كل «إمام»، سوى «إمامهم» الخاص بهم، أو مرجعهم الدّيني المعتمَد، واعتقادهم -كما ورد في المراجع المتخصصة- أن ذلك الأمر -أيّ الخروج- على الإمام، أو الحاكم، وولي الأمر هو فريضة عليهم، لا يسعهم المقام في طاعته حتّى يخرجوا، أو يتّخذوا لأنفسهم دار هجرة، والمسلمون عندهم كفار، ومشركون إلاَّ مَن رافقهم، وبايعهم، واستجار بهم.! ويطلق عليهم الفرق المارقة. ويذهب الإمام الإسفراييني بأن «الكفر لا محالة لازم لهم لتكفيرهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم».. انظر: الغلو والفرق الغالية، عبدالله سلوم السامرائي، ص 281 - 285. • وأسعى في هذه المقالة لإيراد مشهد عظيم من سلوكيات نبي الأمة عليه صلاة الله وسلامه، يدلل على تسامحه، وعظمة أخلاقه التي ورد ذكرها في القرآن الكريم: فلقد أورد أصحاب السير أن نفرًا من المنافقين قد اعترضوا طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم غدرًا به في طريق عودته إلى المدينة بعد عودته من غزوة تبوك، فلمّا كان اليوم التالي بعد وصوله إلى المدينة جاءه الصحابي أسيد بن حضير -رضي الله عنه- وقال له: لا أبرح حتى آتيك برؤوسهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «إني أكره أن يقول الناس إن محمدًا قد قاتل بقومه حتى إذا أظهره الله تعالى بهم أقبل عليهم يقتلهم».. فقال أسيد، يا رسول الله هؤلاء ليسوا بأصحاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس يظهرون الشهادة»؟ السيرة الحلبية ج3، ص276. • ولهذا كان الإمام أبو حامد الغزالي -رحمه الله- واضحًا في تحديده للمؤمن، حيث ذكر أن كل من قال بالشهادة فهو مؤمن، وليس بكافر، ويذهب الى تفصيل ذلك بقوله «إنني أعطيك علامة صحيحة مطّردة منعكسة لتتّخذها مطمع نظرك، وترعوي بسببها عن تكفير الفرق، وتطويل اللسان في أهل الإسلام، وإن اختلفت طرقهم ماداموا متمسكين بقول لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله، صادقين بها،غير متناقضين لها، والكفر هو تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم في شيء ممّا جاء به، والإيمان تصديقه في جميع ما جاء به. «انظر فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، أبو حامد الغزالي ص55». • ونجد هذه الحركات والتيارات المتطرّفة لجهلها بمقاصد الشرع الحنيف تعمد إلى تكفير كلّ مَن خالفها، واستباحة دمائهم، مع أن الأدلة متواترة في عصمة دم المسلم. وهذه قصة أسامة بن زيد عندما قتل رجلاً بعد نطقه بالشهادة، فكانت كلمات النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم واضحة: «أكشفت عن قلبه»؟ وكرّر ذلك عليه حتى قال أسامة -رضي الله عنه- «تمنيت أنني لم أكن أسلمت يومئذٍ». • ولا بد في ختام هذه المقالة من الإشادة بجهود رجال الأمن الذين تمكّنوا بفضل الله من السيطرة على هذا الموقف الآثم، حيث قاموا بالحيلولة دون تمكُّن انتحاريين من الدخول للمسجد، وضبطوا ما بين أيدي بعضهم من أحزمة ناسفة، كما يجب الإشادة بما قامت به هيئة كبار العلماء من إدانة شديدة -كعادتها- لهذا الحادث الآثم والمجرم، داعية أهل العلم والفكر والرأي إلى تكثيف جهودهم في تبيان مخاطر هذا الفكر، الذي يستهدف الأمة في دينها، ووحدتها، ومقوماتها، والعزاء لأشقائنا في الأحساء، سائلين الله أن يتقبل ضحاياهم في عباده الشهداء.
مشاركة :