الإمام محمد بن سعود: الدنيا إنما جعلت لكرامة بني آدم

  • 2/21/2023
  • 13:14
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

لم يكن عام 1727 عاما عاديا، عام تحقق فيه حلم البناء والتأسيس لدولة عظيمة على يد الإمام محمد بن سعود، الذي بنى أمجادا وملاحم تروى لمئات الأعوام. نحو ثلاثة قرون مرت على ملحمة التأسيس، ولا تزال الأجيال المتعاقبة تذكر رجالا عظماء أسسوا كيانا متينا، وحققوا الوحدة والأمن والاستقرار، مع مواصلة البناء والتوحيد والتنمية لدولة تسير بشعبها نحو المستقبل المزدهر. حلم يراود العقلاء اعترى جزيرة العرب إهمال استمر قرونا عدة، لذا، كان لا بد من حكيم يسعى إلى توحيد هذه الأرض، في حلم يراود العقلاء، ومنهم مانع بن ربيعة المريدي الحنفي، الذي عبر في رحلته من شرق الجزيرة العربية ورمال الدهناء القاحلة إلى وادي حنيفة، وأسس "الدرعية"، نسبة إلى عشيرة المردة من "الدروع". ويعد ذلك الحدث في العام 1446م، أبرز أحداث الجزيرة العربية في العصر الوسيط، وفقا لكتاب "يوم التأسيس" الصادر عن دارة الملك عبدالعزيز، وكان قدوم مانع المريدي اللبنة الأولى لتأسيس أعظم دولة قامت في المنطقة، بعد دولة النبوة والخلافة الراشدة. وعند النظر والتأمل في مدينة الدرعية التي تأسست في منتصف القرن التاسع الهجري، يتبين أن مانع المريدي (الجد الـ12 للملك عبدالعزيز) أسس الدرعية لتكون الدولة القابلة للتوسع مع الأيام، ونستشف من مواقف أمراء الدرعية أن هناك دستورا عائليا للحكم ركز على فكرة الدولة، وعلى العنصر العربي، وهذا ما جعل هذه المدينة لا تقوم على عصبية قبلية، وإنما على أساس دولة عربية. عبر التاريخ، كانت الدرعية تتوسع وتضيف بحسب الاستقرار السياسي، وهذه الأمور والدروس والتجارب المتراكمة الطويلة فهمها الإمام محمد بن سعود، وانتقلت على يده دولة المدينة في الدرعية إلى مرحلة الدولة، التي تعارف المؤرخون على تسميتها بـ"الدولة السعودية الأولى"، وكانت منذ تأسيسها حتى يومنا هذا دولة عربية خالصة بحكامها وشعبها. كريم الأخلاق يوثق كتاب "يوم التأسيس" الصادر عن دارة الملك عبدالعزيز كثيرا من مآثر الإمام محمد بن سعود رحمه الله، فقد كان محبا للخلوة والتأمل والتفكر، وهو ما يدل على شخصيته في الاستقراء والتأني والرؤية المستقبلية. ذكر الثقات من المخبرين أنه كان رجلا كثيرا الخيرات والعبادة، وكان أبوه سعود وجده محمد أميرين على إمارة الدرعية، وهما أكبر قومهما، وكان الإمام محمد كريم الطبيعة، ميسر الرزق، له أملاك كثيرة من نخل وزروع، قيل من سخائه إن الرجل كان يأتيه من البلدان من يطلب منه شيئا كثيرا لوفاء دين عليه، فإذا عرف أنه محق أعطاه إياه، حتى إنه في أحد الأعوام وفد عليه رجل من أهل بريدة، وكان تاجرا لكنه أفلس، حيث كان يشتغل ببعض أموال الناس، فصرفها في مهمات نفسه، وكان الذي عليه أربعة آلاف ذهب، فلما وصل الدرعية أبدى الأمر لمحمد بن سعود، فأعطاه أربعة آلاف ذهب، فقال له أولاده، أتعطي رجلا لا تعرفه إلا بالاسم هذا المبلغ؟ فقال، نعم. يا أولادي، الدنيا إنما جعلت لكرامة بني آدم، فالخير منهم ذو الشرف إذا ذل ينبغي إعانته بما يمكن لئلا يزدريه السفلة، وهذا الرجل قد سمعتم به أنه رجل كان ذا مال وشرف، وقد اضطره الزمان، فعلى الناس الكرام إبداء الخير لمثله. وكان للإمام محمد من الأبناء أربعة، وهم، عبدالعزيز، عبدالله، سعود، وفيصل. الأئمة والمجتمع كان أئمة الدولة السعودية الأولى متصفين بصفات العرب النبيلة، كالكرم، المروءة، الشجاعة، الوفاء والحلم. وكان مجلس الإمام مفتوحا لاستقبال المواطنين يدخلون عليه يوميا، وكان الأئمة كثيري العطاء والصدقات للمحتاجين والوفود وأهل العلم وطلبته ومعلمي القرآن والمؤذنين وأئمة المساجد. وكانوا يرسلون القهوة لأهل القيام في رمضان. وكان الصبيان من أهل الدرعية إذا خرجوا من عند المعلم يصعدون إلى الأئمة بألواحهم، ويعرضون عليهم خطوطهم، فمن استحسن خطه منهم أعطوه جزيلا، وأعطوا الباقين دونه. وكان عطاؤهم للضعفاء والمساكين كثيرا. وكان المعهود من الإمام محمد بن سعود، أنه لا يرى شابا من أهل بلدته وجماعته غير متزوج إلا سأل عن حاله. فإذا قيل له، لا يملك شيئا من جهاز جهزه، وأمره بالزواج، وإذا امتنع أحد أن يعطي ابنته لشخص خطبها وهو كفؤ إلا سار بنفسه إليه، وعاتبه في ذلك، وربما اشترط على نفسه أن زوجوا هذا فلانة، فإن أصابها منه ضرر من كسوة أو متاع أو سكن، فأنا ضامن به، وكان كذلك يفعل لا محالة، وذلك لحسن سيرته وسريرته، ورغبته في التئام جماعته وكثرة خيرهم بالتناسل والتعاضد، وكان يحب الخلوة. قيل، إنه كان يأتي البيت، فيجلس وحده، ولا يريد أحدا من أولاده أو نسائه أن يدخل عليه. وكان لا يرضى الحرب مع أحد ولو عيل عليه، ويأمر جماعته بإطفاء الفتن دائما. القيادة والتأسيس تأسست الدولة السعودية الأولى وتوحدت في عهد الإمام محمد بن سعود على مرحلتين، الأولى خلال الفترة 1139 / 1158هـ الموافق 1727 / 1745 وكان من أبرز أحداثها توحيد شطري الدرعية وجعلها تحت حكم واحد، بعد أن كان الحكم متفرقا في مركزين، والاهتمام بالأمور الداخلية وتقوية مجتمع الدرعية وتوحيد أفراده، وتنظيم الأمور الاقتصادية للدولة، إضافة إلى بناء حي جديد في سمحان وهو حي الطرفية، وانتقل إليه بعد أن كان حي غصيبة مركز الحكم مدة طويلة. كما نشر الاستقرار في الدولة في مجالات متنوعة، والاستقلال السياسي وعدم الولاء لأي قوة، في حين أن بعض بلدان نجد كانت تدين بالولاء لبعض الزعامات الإقليمية. ومن أبرز أحداث هذه الفترة إرساله أخاه الأمير مشاري إلى الرياض لإعادة دهام بـن دواس إلى الإمارة بعد أن تمرد عليه بناء على طلب دهام المعونة من الدولة السعودية الأولى، ومناصرة الدعوة الإصلاحية التي نادى بها الشيخ محمد بن عبدالوهاب الذي اختار الدرعية لقوتها واستقلالها وقدرة حاكمها على نصرة الدعوة وحمايتها، والتواصل مع البلدات الأخرى للانضمام إلى الدولة السعودية، وقدرة الإمام الكبيرة على احتواء زعاماتها وجعلهم يعلنون الانضمام للدولة والوحدة، وبناء سور الدرعية للتصدي للهجمات الخارجية القادمة إلى الدرعية من شرق الجزيرة العربية. أما في المرحلة الثانية من التأسيس خلال الفترة 1159 / 1179هـ الموافق 1746 / 1765، فكان أبرز ما وقع فيها بدء حملات التوحيد، وتوليه قيادتها، وتوحيد معظم منطقة نجد وانتشار أخبار الدولة في معظم أرجاء الجزيرة العربية، والقدرة على تأمين طرق الحج والتجارة فأصبحت نجد من المناطق الآمنة، والنجـاح في التصدي لعدد من الحملات التي أرادت القضاء على الدولة في بدايتها. توفي الإمام محمد بن سعود عام 1765، بعد 40 عاما من القيادة والتأسيس.

مشاركة :