عندما تقرأ عنوان الرّواية (بَقْبَشِة) تظنُّ أنّكَ ستتلمّسُ طريقَكَ بصعوبة كما تفعلُ عندما تبحث عن أشياء في عتمة ليل مُظلمٍ عن طريق تحسُّس الأشياء باللّمس للوصول إلى ما تريد، وهذا ما يُسمَّى باللّهجة العامّية في بلاد الشّام البَقْبَشِة. ولكنّك تُفاجَأُ بأنَّ الكاتبَ يأخذُكَ ببراعةٍ وكأنّه يُرِيكَ أحداثَ الرّواية عبر منظارٍ واضحٍ فينتقلُ بك من مشهدٍ إلى آخَرَ بسلاسةٍ وتؤدّة، بل وينقلك عبر الزّمان والمكان من قصّة إلى أخرى يربطُ بينها خيط رفيع، فأبطالُ القصّةِ كلّهم يعيشون في منطقةٍ واحدة وتربط بينهم خيوط علاقات مخفيّة، ما بين حبّ وكُره، استبدادٍ وثورة، تنمُّر وخضوع. وأكثر من هذا تنقلُكَ الرّوايةُ إلى عصر الحُكم العثمانيّ وتأثيراته السّلبيّة على البعض والإيجابيّة على البعض الآخَر، ولا يدّعي الكاتب أن العُثمانيين قد حكموا البلادَ وظلموا العبادَ من دون مساعدة أهل البلد أنفسهم أو بعضهم الذين اعتادوا أن يستغلّوا أيّ استعمار يأتيهم ليكيدوا لبعضهم ويحصلوا على نفوذ يجعلهم أقوياء (كما يظنّون). أبطال القصّة من أهالي القرى الجبليّة المُحافِظة يحاولون التَّكيّف مع ظروف الحُكم الدَّخيل ونفوذ الإقطاعيين الذي ازداد شراسة بفعل الدّعم الخارجيّ. ليس هناك بطل واحد للرّواية، بل فيها مجموعة أبطال يشكّلون شبكة متداخلة، يحرّكهم الكاتب كما يحرّك المُخرجُ عدستَه برشاقة وسَلاسة من دون أن يُشعرَكَ أنّك انتقلتَ إلى قصة لا علاقةَ لها بالقصّة الأصلية، كما تظنُّ. وتمتاز شخصياته بالبساطة والعفوية التي تظهرُ من خلال الحوار الذي يُدخله باللَّهجة العامّيّة فتنقل إلى ذلك الزّمن الجميل البسيط الذي حصلت فيه أحداث الرّواية. كما يسلِّطُ الكاتبُ الضَّوءَ على العادات والتّقاليد التي إن كانت جميلة في بعض الأحيان فهي قد تؤدّي إلى مشاكل لا حلول لها، كمشكلة الزّواج التي لم يكن يُسْمَحُ فيها للعريس ولا لأهله أن يروا العروس فيُفاجَأ بعد العرس أنها ليست الفتاة الجميلة التي أروه إيّاها من (خرم الباب) بل هي أختها القبيحة فيقرر أنه سيطلّقها مباشرة. استطاع الكاتبُ أن يمسك خيوط الأحداث منذ اللّحظة الأولى فلم يشرد عن الهدف الذي رسمه طريقًا لروايته، بل استطاع ببراعة أن يسرد الأحداث بتسلسل مريح ويحافظ على لغة الرّواية ويميّز بين اللّغة التي يتكلّمها الإنسان البسيط العادي وبين تلك التي يتكلّم بها المثقّف والمتعلّم. في الرّواية إضاءة على جوانب إيجابيّة كانت موجودة في ذلك الزّمن، ومنها التعاون والتعاضد والمساعدة بين النّاس لاسيّما عندما يقع أحدهم بمصيبة فتجد الجميع يساعدونه ليخلّصوه من براثن الظّلم، كما يضيء على جوانب سلبيّة ومنها الاستبداد والظّلم والإقطاع والتّعذيب… نستطيع من خلال رواية (بقبشة) أن نقرأ تاريخ تلك المنطقة التي حصلت فيها أحداث القصة والتي قد تُشبه في كثير من تفاصيلها ما كان يحصل في مناطق أُخرى… بورك الكاتب صقر البعيني، وبورك قلمُه الحُرّ المُبدع…
مشاركة :