عكس انطلاق بث الفضائية المصرية “الوثائقية” قبل أيام مدى إمكانية أن تعاني من مشكلة الانحياز إلى فكرة أو رؤية أو حسابات معينة، في محاولة لتوصيل رسائل فنية واقتصادية واجتماعية وسياسية، مع أن الحديث عنها قبيل انطلاقها وجد ترحابا وإشادة من مثقفين ومؤرخين وكتاب باعتبارها نقلة نوعية في معالجة القضايا بطريقة مبتكرة. القاهرة - بدأت قناة “الوثائقية” المصرية عملها رسميا في التاسع عشر من فبراير الجاري بعرض الجزء الأول من حوار أجرته مع أمير حدود تنظيم داعش هيثم عبدالحميد، حوى قصته ونقاط التحول في مسيرته قبل أن يعتنق الفكر المتطرف وينضم إلى التنظيم، كاشفا خبايا وأسرار عديدة، ثم انتقلت المحطة إلى عرض أفلام تتحدث عن بطولات شعبية لشخصيات مصرية قديمة. هناك شعور لدى بعض الدوائر بأن القناة سوف تعاني من غلبة الرؤية الأحادية التي تتنافى كليا مع المنهج المتبع في المعالجات الوثائقية – الاستقصائية، من حيث التوثيق والحياد وعرض وجهات النظر المختلفة وتقديم أدلة وبراهين لإقناع الجمهور بأنها تقوم ببث مضامين واقعية وليست خيالية، لكن ذلك لم يظهر حتى الآن، في حين أن العناوين العريضة وطبيعة القضايا التي نوقشت تبدوان موجهتيْن إلى حد كبير. حسن علي: نجاح الأفلام الوثائقية مرتبط بالحياد لأن ذلك يضفي المصداقية حسن علي: نجاح الأفلام الوثائقية مرتبط بالحياد لأن ذلك يضفي المصداقية من أبجديات الأعمال الوثائقية إقناع الجمهور بحقيقة معينة أو نفي خرافة محددة، أي أن جزءا من أهدافها التوجيه لتحقيق غاية لا فرضها بالأمر الواقع، لكن تظل معضلة “الوثائقية” المصرية أنها تعبر عن وجهة نظر ثقافية وسياسية أكثر من القيام بتحقيق يناقش القضية من كل جوانبها، ويلتقي شخصيات متباينة لإقناع الجمهور. روجت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية في مصر أن الاتجاه نحو تدشين فضائية وثائقية يستهدف إثراء المحتوى التاريخي والبحث المعلوماتي والتدقيق العلمي، في وقت يتعرض فيه الجمهور المصري لمحتويات معادية ومتقنة، لذلك هدفت الدولة إلى خلق ذراع إعلامية مختلفة تدافع عن وجهة نظرها انطلاقا من منهجية مماثلة. غير أن إدارة القناة عندما تحدثت عن أهداف المحطة الجديدة اختزلتها في نواح ضيقة لا تتفق مع قواعد العمل الوثائقي الأصيل، حيث أعلنت أنها ستعمل على تفكيك طروحات ما يسمى المتطرفين وجماعات الإسلام السياسي من خلال مجموعة من الحوارات، مع عرض سلسلة أفلام مشتركة وما يحدث في الواقع من مشروعات قومية وتنموية تقوم بها الدولة لمواجهة دعاة اليأس والإحباط والتحريض. ويرى خبراء أن الأعمال الوثائقية لا يُكتب لها النجاح ولا تكون مؤثرة إذا افتقدت المضمون الثقافي العميق، ولن تكون لها جدوى عندما تتعمد فرض رأي سياسي أو اجتماعي محدد، فمن أصول التوثيق الأمين والمصدّق عند الجمهور أن يكون المنتج النهائي محايدا ومهنيا ومستقلا عن المؤثرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويتناسب مع كل الفئات والانتماءات لا أن يعرض ليروج لوجهة نظر بعينها. ويعتقد هؤلاء الخبراء أن تقديم العمل الوثائقي في صورة رواية مكتوبة ومعدة مسبقا وتنحاز إلى طرف معين يتعارض مع مهنية وموضوعية الأفلام الوثائقية، وإن تم استدعاء مفردات الفكرة من الواقع، لكنها ستصل إلى المتلقي كأنها فيلم روائي استلهم من خيال أصحابه لاصطناع وقائع وشخصيات تكاد تكون شبيهة بالموجود ولا تتطابق معه، وهنا تفقد جدواها وقيمتها وتصبح هناك حالة نفور لدى الجمهور من مشاهدتها. ويعاني الإعلام المصري بشكل عام من تراجع في المهنية وتبدو رسائله موجهة ومنحازة لتجميل الصورة أو اصطناع واقع أقرب إلى الخيال، وقد يُظهر ذلك عدم وجود مشكلات، على الرغم من الأزمات المستعصية على الحل. من هنا يفترض أن تكون الأفلام الوثائقية التي يجري الإعداد لها وبثها مستوحاة من المجتمع لكشف النواحي الحياتية للناس دون التركيز على جزئية لفرض الرأي. لا يمانع العديد من الخبراء في أن يكون من بين أدوار الأفلام الوثائقية تفكيك الخرافات ودحض الخطاب المعادي الذي تقدمه منابر معارضة وتأمل الحكومة في أن تنجح قناة “الوثائقية” في إبراز الهوية المصرية وتنوعها وثرائها الثقافي والسياسي والاجتماعي، لكن ذلك يتطلب قدرا كبيرا من الاستقلال في العمل عن الرسائل الموجهة، إذ يصعب إقناع الناس بفرضية خيالية وهم يعيشون واقعا مغايرا لها، فهناك مخطط من القناة لتجميل صورة العاصمة الإدارية الجديدة التي تتعرض الحكومة بسببها لانتقادات حادة، بالتالي يفترض عند إعداد الفيلم الوثائقي عنها مناقشة القضية بإيجابياتها وسلبياتها. ومن السهل إقناع المتلقي برسالة الفيلم الوثائقي، شريطة أن يتم تقديم المحتوى بطريقة التصدير المباشر للحقائق، أو على الأقل بواسطة المحاكاة، والعبرة في أن يكون ذلك بشكل دقيق وأمين لمخاطبة العقل والوجدان وإثارة الرغبة في المعرفة والفهم، بشكل استقصائي شيق لا عن طريق إجراء حوار مع شخصية معينة أو بث معلومات عامة عن كيان يتم الترويج له بصور ومحتوى لفظي دعائي. قال حسن علي أستاذ الإعلام بجامعة السويس، وعضو لجنة تطوير اتحاد الإذاعة والتلفزيون سابقا، إن نجاح الأفلام الوثائقية يرتبط بالتزامها بالحياد وبعدها عن المؤثرات والتوجهات الرسمية، لأن ذلك يضفي المصداقية على مضمونها الذي يصل إلى الجمهور، والغاية أن يكون المحتوى مميزا ومختلفا ويضيف إلى المشاهد قيمة تجعله ينجذب إلى استكمال مطالعة العمل. وأضاف لـ”العرب” أن “وجود رؤى مختلفة تخدم نفس الهدف وتجذب الجمهور إلى وجهة النظر الصحيحة وفق ثقافته واقتناعه بمضمون الرسالة، يجعله يشعر بعدم وجود توجيه متعمد إلى زاوية أو قضية محددة”. وكشف أنه كرئيس لجمعية حماية المشاهدين المصريين يرى أن قيمة الفيلم الوثائقي تتجلى عندما يجيب عن تساؤلات كل الفئات، وهذا يرتبط بوجود أكثر من معالجة للفكرة محل النقاش، ومن الضروري استطلاع رأي أكثر من طرف في الفيلم الواحد للإجابة عن التساؤلات المرتبطة بالقضية محل النقاش أو الظاهرة محل العرض، فمن المهم تجنب الانحياز المطلق للرأي الواحد، لأن مصداقية الأفلام الوثائقية ترتبط بالعمق. نجاح قناة "الوثائقية" في المحيط العربي يتطلب تأسيس تيار معرفي، وهذا لن يتحقق إلا بالتنوع الإيجابي الذي يضمن للجمهور التعرض لمحتوى يحترم عقله ولا يمانع العديد من الخبراء في أن يكون من بين أدوار الأفلام الوثائقية تفكيك الخرافات ودحض الخطاب المعادي الذي تقدمه منابر معارضة، لكن لا يجب أن يحدث ذلك بشكل موجه، والعبرة في إقناع الجمهور بإجابات واقعية حيادية عن طبيعة تساؤلاته المرتبطة بالفكرة ومحاولة أن يقوم الفيلم بإثبات صحتها أو نفي صلاحيتها. وأنشأت الشركة المتحدة في مصر قبل أربع سنوات وحدة للأفلام الوثائقية، أنتجت 50 فيلما جرى عرضها على قنوات تابعة لها، وركزت على الجوانب السياسية المتعلقة بالرد على ما تعرضه قنوات تدور في فلك تنظيم الإخوان، بهدف دحض الخطاب المعادي الذي تقدمه عبر أفلامها الوثائقية التي زاد بثها مؤخرا على قنوات الجماعة، وسط مخاوف من أن تكون رسائل الرد الموجهة جزءا أصيلا من السياسة التحريرية للوثائقية الجديدة. ويصعب الابتعاد عن التوجه نحو تكريس الرؤية الأحادية في المعالجة الوثائقية المصرية دون الاقتناع بحتمية اختيار أهل الخبرة، لأن ذلك يكرس إنتاج سلع معرفية موحدة القالب وموجهة الرسالة، ويرسخ أفكارا تتناسب مع توجهات الدولة باعتبارها ممولة للقناة، ويجعلها محاطة بمحاذير والتزامات تتعارض مع أدبيات إنتاج أعمال ذات توجه بحثي تنويري بشكل يكرس تغييب الوعي وفرض الوصاية. ويتطلب نجاح قناة “الوثائقية” في المحيط العربي تأسيس تيار معرفي، وهذا لن يتحقق إلا بالتنوع الإيجابي الذي يضمن للجمهور التعرض لمحتوى يحترم عقله بعيدا عن النمطية والتقارير الدعائية التي تمارس النقل السطحي بالاعتماد على عنصر المقابلات لفرض رؤية بعينها لا تتفق مع شغف المجتمع بالتنوير والتنوع.
مشاركة :