سنةٌ على حرب الجبابرة: النتائج وأخْذ العِبر

  • 2/25/2023
  • 19:17
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

بدأ العام الثاني للاجتياح الروسي لأوكرانيا ومعه عالم جديد تَغَيَّرَ كثيراً منذ ان بدأت الحرب في فبراير الماضي. فقد إنقسمت الدول فيما بينها وتَبَدَّلَتْ التحالفاتُ في شكلٍ لافِتٍ وأصبح الغرب أكثر عزلة وأقلّ هيمنة. ودَخَلَ العالمُ نظاماً متعدّد الأقطاب بعدما برزتْ أميركا لمحاربة روسيا من خلال حلف الناتو الذي كانت موسكو جزءاً منه لأعوام طويلة حين وثقت أن الغرب سيستوعبها لتكتشف أنه أراد إخضاعَها أو ترويضَها. ولكن النظام الجديد تعلّم من أخطاء الامبراطورية الأميركية التي هيمنتْ على العالم منذ الحرب العالمية الثانية ولا يطرح هيمنةً مقابل أخرى، بل تعدُّد الأقطاب وإنهاء الأحادية على العالم، وهو طرح بدأ التداول به عالمياً فيما أخذتْ الصين ترفع صوتها في وجه واشنطن من دون إشهار العداء لها. فبماذا ساهمتْ هذه الحرب؟ وما العِبر بعد سنةٍ من القتال الشرس؟ لم تَعُدْ الشعوبُ تصدّق أو تعطي إنتباهَها إلى شعار «الديموقراطية» أو «حقوق الإنسان» أو «الحرية» وهي قِيَم قلبتْ الولايات المتحدة من خلالها أنظمةً عدة وإحتلت دولاً كثيرة وتَسَبَّبَتْ في تهجير عشرات الملايين من الأشخاص والعائلات وقتْل وجرْح الملايين الآخَرين. وتقول وزارة الخارجية الصينية، في أول تصريحٍ تحدي خارج عن الديبلوماسية، على لسان الناطق باسمها وانغ وينبينغ ان «أميركا هي أكبر داعي للحرب. منذ تاريخ إنشائها الذي لا يزيد عن 240 عاماً لم تحارب أميركا فقط خلال 16 عاماً. إنها المُنْتِهك الأول لسيادة الدول وتتدخل في شؤونها الداخلية. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سعت أميركا إلى تخريب أكثر من 50 حكومة أجنبية وتدخّلت في إنتخابات أكثر من 30 دولة وحاولت إغتيال أكثر من 50 من قادة الدول. ما دامت الهيمنة وحبّ الحرب الأميركية هي المسيطرة، فإن العالم لن يحصل على السلام الذي يستحقّه». بأسطرٍ قليلة، إستطاعتْ الصين إظهارَ موقفها العلني من الحرب، وذلك بعدما أعلنت أميركا أنها سترسل قواتٍ عسكريةً إضافيةً إلى تايوان لتساعدها على التصدي للصين في حال إندلاع حرب مماثلة لأوكرانيا وأعطت الضوءَ الأخضرَ لحلف شمال الأطلسي الذي تقوده بالتوسع نحو بحر الصين وإظهار عدائه وتحديه لـ بيجينغ. ولكن ذلك ليس هو السبب الذي يدفع الصين لتحديد موقفها من أميركا. فليس ما اتهم به الناطق باسم الخارجية إلا موقف الرئيس شي جينبينغ. والواضح أنه آن الأوان لتحدي الأحادية الأميركية على العالم، كما قال بيان الخارجية في أسطره الأخيرة المهمة. فحسابات الدول الإقتصادية ومصالحها تتوقف عند الأمن القومي وحماية الدولة. ولهذه الأسباب فقد فضّلت روسيا أن تخاطر بمصالحها الاقتصادية مع أوروبا مقابل منْع أميركا من أن تفعل ما تشاء على الحدود الروسية وتضمّ أوكرانيا إلى صف دول الناتو الـ 30. وهذا الموقف يبدو أنه مماثل للموقف الصيني أيضاً الذي لا يرغب برؤية روسيا خاسرة لمصلحة أميركا التي لا تنفكّ عن تهديد الأمن القومي الصيني. ومن الطبيعي ان تفضّل بيجينغ ان تدعم حرباً على أرض أوكرانيا ومع روسيا بدل ان تنتقل الحرب إلى أراضيها إذا انتصر «الناتو» الذي وسّع عملياته ليشمل بحر الصين مستقبلاً. وخلال سنوات طويلة، بدءاً من مؤتمر ميونيخ 2007، حذّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من توسع الحلف العسكري لدول الغرب وحلفائهم على حدود روسيا دون اعتبار موسكو كشريكٍ فعلي للغرب، كما أمل زعيم الكرملين لعقودٍ طويلة. فالناتو يتوسّع بلا حدود،وأميركا تحاول إغشاء عيون المسؤولين الروس بإعطائهم أملاً زائفاً بأنهم جزء من المنظومة الدولية التي لا تملك أميركا أدنى رغبة بإشراك أي دولة فيها. ولم تعتقد موسكو أن دولاً المحايدة مثل فنلندا والنروج ستتخذ موقفاً ضدّها وتنضمّ إلى الحلف الأميركي - الأطلسي بعد ممارسة واشنطن الضغط اللازم لتحقيق أهدافها. وبالتالي، وَجَدَ الكرملين جبهةُ غربية موحّدة ومعادية تريد رؤية روسيا منهارةً تحت عقوبات إقتصادية ونظام مدمَّر مثلما كانت عليه سنة 1991. ولكن الغرب أخطأ الحساب ووجدت روسيا حلفاء في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا كانت لديها الشجاعة لترفض الضغوط الأميركية. وعادت روسيا إلى معاداة الغرب من جديد، ولكن بحلة وإقتصاد أقوى وتصميمٍ على عدم الهزيمة وإنشاء تحالفات جديدة بعيدة عن مَخالب واشنطن. إلا ان أحداثاً كثيرة لم يستشرفها الطرفان الروسي والأميركي وقعت خلال العام الماضي. إذ لم يتوقّع بوتين أن تحارب أوكرانيا بشراسةٍ وبعقيدة متماسكة مستعدّة للتضحية بكل شيء، وإعتقد الرئيس الروسي ان إحتلالَ كييف أمر سهل. ولم يتوقّع الرئيس الأميركي جو بايدن ان يصمد الإقتصاد الروسي ومعه رئيس الكرملين بعدما اعتقدت الإدارة الأميركية أن سقوط موسكو المدوّي سيكون بعد أشهر من الحرب. ولم بوتين أن يخسر أوروبا بهذه السهولة وأن تتخذ المجموعةُ الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا، الموقفَ المعادي الذي قرّر إغداق المال والسلاح لأوكرانيا، حتى قال مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا ان «روسيا والإتحاد الأوروبي لم يعد لهما علاقات بعد الآن». ولكن أميركا وحلفاءها الأوروبيين الشرقيين - المتعطشين للدماء الروسية أكثر من أي طرف آخَر مُشارِك في الحرب - يصرّون على أن «روسيا يجب أن تخسر في أوكرانيا». إلا أن موسكو، التي تصرّ على الإنتصار، سيطرت على مساحة أوكرانية تفوق مساحة دولتي ليتوانيا وإستونيا متّحدتيْن وهي تتقدّم، ولكن ببطء، في أرض المعركة. ومن غير المستبعد أن تطول الحرب «لسنوات» كما قال بايدن وأن تضمّ روسيا المحافظات الأربعة حين إنتهاء المعركة وتثبيت خطوط التماس، من دون إسقاط احتمال توسيع العمليات إلى مدينة أوديسا لإغلاق المنفذ البحري الوحيد لأوكرانيا على البحر الأسود. ويعلم القادة المنخرطون في الحرب أن كميات السلاح الغربي، الذي يتطلّب تدريباً مكثّفاً، لن تعطي اليد العليا لأوكرانيا بل ستطيل أمد الحرب وتستطيع المساهمة في استنزاف القوات الروسية لمدة أطول. وبرزتْ في هذه الحرب الصناعةُ العسكرية الإيرانية التي أثبتت طائراتها المسيَّرة أنها كاسرة للتوازن، وساهمت في ترجيح الكفة الروسية في لحظاتٍ من الحرب كانت تمثّل حَرَجاً لجيشها. إلا أن سنةً كاملةً من الحرب أعطت دروساً مهمة لجميع الجيوش وعلى رأسها الجيش الروسي الذي أدرك ضرورةَ تحديث قواته العسكرية وفشلَ الإمداد اللوجستي السريع والحاجةَ إلى تعديل القادة العسكريين والتأقلمَ مع مستلزمات الحرب الحديثة ومتطلّبات القادة على أرض المعركة والتعرّف على إستراتيجية الحرب التي يتبعها حلف الناتو حيث جميع الضربات، بما فيها تلك تحت الحزام مثل إستهداف جسر القرم ومطارات في عمق الأراضي الروسية، مسموحة. وهذا ما دفع الكرملين لإخراج أسلحته الحديثة والعمل على تسريع الإنتاج العسكري من خلال تنشيط الصناعة المحلية ودفْعها إلى قوتها القصوى. وقد ظهَرَ أيضاً عجزٌ كبير في المخزون العسكري الغربي الذي أصبح عاجزاً عن تلبية إحتياجات الجيش الأوكراني كما صرّح أمين عام حلف شمال الأطلسي يان ستولتنبرغ. وأدركتْ روسيا ان الغربَ خَدَعَها وأنها لن تستطيع الثقة به بعد اليوم. وقد تجلى ذلك في إعتراف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأنها وقعت إتفاق منسك - 1 و 2 لإعطاء أوكرانيا الوقت للتحضّر للحرب المقبلة لأن روسيا كانت متفوّقة عام 2014 وكانت تستطيع فرض أي شروط تريدها على كييف. وهذا ما سيدفع موسكو لإعادة التمركز والإتجاه نحو آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية من خلال منظمات البريكس وشنغهاي وتطوير العلاقة الإستراتيجية مع هذه الدول وإدارة ظهرها للغرب، بعدما كان بوتين يعول على أوروبا أكثر من غيرها. هكذا كان وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف يعتقد خطأً أن باستطاعته التفرقة بين دول الغرب، من دون الإدراك ان أوروبا تتمرّغ في أحضان أميركا وتنفّذ سياستها حتى ولو على حساب مصلحة الشعب الأوروبي نفسه. وقد ظهرت أوروبا خلال هذه السنة مسلوبةَ الإرادة وخصوصاً بعدما غضت النظر عن تدمير خطوط نورد ستريم الغازية التي كانت تستطيع تلبية الإحتياجات الأوروبية بأرخص الأسعار والتي إتُهمت أميركا بأنها تقف وراء العمل التخريبي. وتتعرّض الصناعة والإقتصاد الأوروبي لخطر جدي وخصوصاً بعد إنفصال أوروبا عن مصادر الطاقة الروسية. لقد شدّت أميركا العَصَب الأوروبي وأعادت الحياة لحلف الناتو الذي كان على حافة الاضمحلال لتصبح الحربُ ذات طبيعة عالمية تساهم فيها دولٌ أعضاء في الحلف بشكل مباشر. ودَخَلَ الجيش الروسي إلى المستنقع الأوكراني وأظهر انه لا يصل إلى مستوى طموحات القائد السياسي الذي بالَغَ في تقدير قوة جيشه الذي أَظْهَرَ عدم جهوزيته لحربٍ مماثلة واحتاج لأشهر لإدراك حقيقة ما كان بانتظاره في أوكرانيا. وأصبحت أوكرانيا مستودعاً لذخيرة الغرب وحقلَ تجارب لأسلحته لتتحوّل المعركة إلى حربِ إرادات برع فيها الجيش الاوكراني الذي يقدّم كل ما لديه في أرض المعركة. وما زال من السابق لأوانه إعلانُ إنتصارِ أو هزيمةِ أي طرفٍ من المتحاربين. إلا أن العالم تحوّل من القطب الأوحد الأميركي إلى عالمٍ متعدد الأقطاب لتفقد أميركا مكانتها كدولة عظمى وتصبح دولة قوية تجابه تكتلاً قوياً لا يريد محاربتها ولا الانصياع لها. لقد نجح بايدن في محطات عدة أهمها إدارة حرب من دون خسارة جندي أميركي واحد، ودفْع أوكرانيا لتقاتل عن عرش أميركا. إلا أن واشنطن بدأت تواجه تحدياً لعملتها الأقوى (الدولار) وكذلك بروز أدوات مالية تحويلية تواجه الـ SWIFT الذي تسيطر عليه. وهذا ما دفع الصين بقوتها الإقتصادية إلى الأمام ولتقدّم إلى إيران وروسيا الأدوات اللازمة لتخفيف وقْع العقوبات الغربية عليهما. وها هي دول مهمة مثل العراق والمملكة العربية السعودية وإيران والهند يتداولون بعملاتهم المحلية أو باليوان الصيني أو الروبل الروسي لتجارتهم. وها هي روسيا تجمّد معاهدة «NEW START» للحدّ من الأسلحة النووية - التي كان وقعها الرئيس ديمتري ميدفيديف عام 2010 والتي مُددت عام 2021 لخمس سنوات - ليودّع عملية مراقبة الأسلحة النووية وتخفيضها ويطلق العنان لنشْر رؤوس نووية جديدة وصواريخ بعيدة المدى في الغواصات والقاذفات الحاملة لهذه القنابل الإستراتيجية. إنها بداية الحرب الأميركية - الروسية بعد 30 عاماً من الهدنة المزيفة. دفعتْ الحربُ الدائرة في أوكرانيا البلدين المتحاربين مباشرةً وبالوكالة إلى شفا المواجهة المباشرة أكثر من أي وقت لدرجة أن أعلنت روسيا أن خطر نشوب صراع نووي أصبح حقيقياً. وقد غيّرت روسيا عقيدتَها النووية من «عدم إستخدامها» إلى «ضرورة اللجوء إلى السلاح النووي للدفاع عن وحدة أراضي روسيا». ولا توجد إشارات لاستخدام السلاح النووي المدمّر على الرغم من التلويح الروسي به. وبتطور الحرب وإرسال الدبابات الحديثة إلى أوكرانيا، من دون استبعاد ان تتبعها طائرات حربية متطورة، يبدو أن روسيا المصممة على عدم خسارة الحرب لن تتوقف إلا بعد أن تحقق أهدافها. إلا أن ذلك ما زال بعيداً لأن احتلال كامل دونباس يبقى بعيداً. ومن الممكن ان تتوقف الحرب يوم يدرك الرئيسان الروسي والأميركي أنها لم تعد مُجْدِية وأنها لن تهزم موسكو التي تستوعب الخسارة البشرية والمادية، وخصوصاً أن الشعب الروسي في غالبيته لا يتبنى آمال واشنطن بتغيير النظام في بلاده. وإلى ذلك الحين، فإن الحرب مستمرّة ولا أفقَ لنهايتها في القريب المنظور. بدأ العام الثاني للاجتياح الروسي لأوكرانيا ومعه عالم جديد تَغَيَّرَ كثيراً منذ ان بدأت الحرب في فبراير الماضي. فقد إنقسمت الدول فيما بينها وتَبَدَّلَتْ التحالفاتُ في شكلٍ لافِتٍ وأصبح الغرب أكثر عزلة وأقلّ هيمنة. ودَخَلَ العالمُ نظاماً متعدّد الأقطاب بعدما برزتْ أميركا لمحاربة روسيا من خلال حلف الناتو الذي كانت موسكو جزءاً منه لأعوام طويلة حين وثقت أن الغرب سيستوعبها لتكتشف أنه أراد إخضاعَها أو ترويضَها. ولكن النظام الجديد تعلّم من أخطاء الامبراطورية الأميركية التي هيمنتْ على العالم منذ الحرب العالمية الثانية ولا يطرح هيمنةً مقابل أخرى، بل تعدُّد الأقطاب وإنهاء الأحادية على العالم، وهو طرح بدأ التداول به عالمياً فيما أخذتْ الصين ترفع صوتها في وجه واشنطن من دون إشهار العداء لها.فبماذا ساهمتْ هذه الحرب؟ وما العِبر بعد سنةٍ من القتال الشرس؟ سنة على حرب أوكرانيا... انتصارٌ ممنوع وهزيمة مستحيلة منذ يومين إيران وإسرائيل... الضربات المتقابلة مستمرة ولن تتوقف 22 فبراير 2023 لم تَعُدْ الشعوبُ تصدّق أو تعطي إنتباهَها إلى شعار «الديموقراطية» أو «حقوق الإنسان» أو «الحرية» وهي قِيَم قلبتْ الولايات المتحدة من خلالها أنظمةً عدة وإحتلت دولاً كثيرة وتَسَبَّبَتْ في تهجير عشرات الملايين من الأشخاص والعائلات وقتْل وجرْح الملايين الآخَرين.وتقول وزارة الخارجية الصينية، في أول تصريحٍ تحدي خارج عن الديبلوماسية، على لسان الناطق باسمها وانغ وينبينغ ان «أميركا هي أكبر داعي للحرب. منذ تاريخ إنشائها الذي لا يزيد عن 240 عاماً لم تحارب أميركا فقط خلال 16 عاماً. إنها المُنْتِهك الأول لسيادة الدول وتتدخل في شؤونها الداخلية. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سعت أميركا إلى تخريب أكثر من 50 حكومة أجنبية وتدخّلت في إنتخابات أكثر من 30 دولة وحاولت إغتيال أكثر من 50 من قادة الدول. ما دامت الهيمنة وحبّ الحرب الأميركية هي المسيطرة، فإن العالم لن يحصل على السلام الذي يستحقّه».بأسطرٍ قليلة، إستطاعتْ الصين إظهارَ موقفها العلني من الحرب، وذلك بعدما أعلنت أميركا أنها سترسل قواتٍ عسكريةً إضافيةً إلى تايوان لتساعدها على التصدي للصين في حال إندلاع حرب مماثلة لأوكرانيا وأعطت الضوءَ الأخضرَ لحلف شمال الأطلسي الذي تقوده بالتوسع نحو بحر الصين وإظهار عدائه وتحديه لـ بيجينغ.ولكن ذلك ليس هو السبب الذي يدفع الصين لتحديد موقفها من أميركا. فليس ما اتهم به الناطق باسم الخارجية إلا موقف الرئيس شي جينبينغ. والواضح أنه آن الأوان لتحدي الأحادية الأميركية على العالم، كما قال بيان الخارجية في أسطره الأخيرة المهمة. فحسابات الدول الإقتصادية ومصالحها تتوقف عند الأمن القومي وحماية الدولة. ولهذه الأسباب فقد فضّلت روسيا أن تخاطر بمصالحها الاقتصادية مع أوروبا مقابل منْع أميركا من أن تفعل ما تشاء على الحدود الروسية وتضمّ أوكرانيا إلى صف دول الناتو الـ 30. وهذا الموقف يبدو أنه مماثل للموقف الصيني أيضاً الذي لا يرغب برؤية روسيا خاسرة لمصلحة أميركا التي لا تنفكّ عن تهديد الأمن القومي الصيني. ومن الطبيعي ان تفضّل بيجينغ ان تدعم حرباً على أرض أوكرانيا ومع روسيا بدل ان تنتقل الحرب إلى أراضيها إذا انتصر «الناتو» الذي وسّع عملياته ليشمل بحر الصين مستقبلاً.وخلال سنوات طويلة، بدءاً من مؤتمر ميونيخ 2007، حذّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من توسع الحلف العسكري لدول الغرب وحلفائهم على حدود روسيا دون اعتبار موسكو كشريكٍ فعلي للغرب، كما أمل زعيم الكرملين لعقودٍ طويلة. فالناتو يتوسّع بلا حدود،وأميركا تحاول إغشاء عيون المسؤولين الروس بإعطائهم أملاً زائفاً بأنهم جزء من المنظومة الدولية التي لا تملك أميركا أدنى رغبة بإشراك أي دولة فيها.ولم تعتقد موسكو أن دولاً المحايدة مثل فنلندا والنروج ستتخذ موقفاً ضدّها وتنضمّ إلى الحلف الأميركي - الأطلسي بعد ممارسة واشنطن الضغط اللازم لتحقيق أهدافها. وبالتالي، وَجَدَ الكرملين جبهةُ غربية موحّدة ومعادية تريد رؤية روسيا منهارةً تحت عقوبات إقتصادية ونظام مدمَّر مثلما كانت عليه سنة 1991. ولكن الغرب أخطأ الحساب ووجدت روسيا حلفاء في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا كانت لديها الشجاعة لترفض الضغوط الأميركية. وعادت روسيا إلى معاداة الغرب من جديد، ولكن بحلة وإقتصاد أقوى وتصميمٍ على عدم الهزيمة وإنشاء تحالفات جديدة بعيدة عن مَخالب واشنطن.إلا ان أحداثاً كثيرة لم يستشرفها الطرفان الروسي والأميركي وقعت خلال العام الماضي. إذ لم يتوقّع بوتين أن تحارب أوكرانيا بشراسةٍ وبعقيدة متماسكة مستعدّة للتضحية بكل شيء، وإعتقد الرئيس الروسي ان إحتلالَ كييف أمر سهل. ولم يتوقّع الرئيس الأميركي جو بايدن ان يصمد الإقتصاد الروسي ومعه رئيس الكرملين بعدما اعتقدت الإدارة الأميركية أن سقوط موسكو المدوّي سيكون بعد أشهر من الحرب. ولم بوتين أن يخسر أوروبا بهذه السهولة وأن تتخذ المجموعةُ الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا، الموقفَ المعادي الذي قرّر إغداق المال والسلاح لأوكرانيا، حتى قال مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا ان «روسيا والإتحاد الأوروبي لم يعد لهما علاقات بعد الآن».ولكن أميركا وحلفاءها الأوروبيين الشرقيين - المتعطشين للدماء الروسية أكثر من أي طرف آخَر مُشارِك في الحرب - يصرّون على أن «روسيا يجب أن تخسر في أوكرانيا». إلا أن موسكو، التي تصرّ على الإنتصار، سيطرت على مساحة أوكرانية تفوق مساحة دولتي ليتوانيا وإستونيا متّحدتيْن وهي تتقدّم، ولكن ببطء، في أرض المعركة. ومن غير المستبعد أن تطول الحرب «لسنوات» كما قال بايدن وأن تضمّ روسيا المحافظات الأربعة حين إنتهاء المعركة وتثبيت خطوط التماس، من دون إسقاط احتمال توسيع العمليات إلى مدينة أوديسا لإغلاق المنفذ البحري الوحيد لأوكرانيا على البحر الأسود. ويعلم القادة المنخرطون في الحرب أن كميات السلاح الغربي، الذي يتطلّب تدريباً مكثّفاً، لن تعطي اليد العليا لأوكرانيا بل ستطيل أمد الحرب وتستطيع المساهمة في استنزاف القوات الروسية لمدة أطول.وبرزتْ في هذه الحرب الصناعةُ العسكرية الإيرانية التي أثبتت طائراتها المسيَّرة أنها كاسرة للتوازن، وساهمت في ترجيح الكفة الروسية في لحظاتٍ من الحرب كانت تمثّل حَرَجاً لجيشها. إلا أن سنةً كاملةً من الحرب أعطت دروساً مهمة لجميع الجيوش وعلى رأسها الجيش الروسي الذي أدرك ضرورةَ تحديث قواته العسكرية وفشلَ الإمداد اللوجستي السريع والحاجةَ إلى تعديل القادة العسكريين والتأقلمَ مع مستلزمات الحرب الحديثة ومتطلّبات القادة على أرض المعركة والتعرّف على إستراتيجية الحرب التي يتبعها حلف الناتو حيث جميع الضربات، بما فيها تلك تحت الحزام مثل إستهداف جسر القرم ومطارات في عمق الأراضي الروسية، مسموحة. وهذا ما دفع الكرملين لإخراج أسلحته الحديثة والعمل على تسريع الإنتاج العسكري من خلال تنشيط الصناعة المحلية ودفْعها إلى قوتها القصوى. وقد ظهَرَ أيضاً عجزٌ كبير في المخزون العسكري الغربي الذي أصبح عاجزاً عن تلبية إحتياجات الجيش الأوكراني كما صرّح أمين عام حلف شمال الأطلسي يان ستولتنبرغ.وأدركتْ روسيا ان الغربَ خَدَعَها وأنها لن تستطيع الثقة به بعد اليوم. وقد تجلى ذلك في إعتراف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأنها وقعت إتفاق منسك - 1 و 2 لإعطاء أوكرانيا الوقت للتحضّر للحرب المقبلة لأن روسيا كانت متفوّقة عام 2014 وكانت تستطيع فرض أي شروط تريدها على كييف. وهذا ما سيدفع موسكو لإعادة التمركز والإتجاه نحو آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية من خلال منظمات البريكس وشنغهاي وتطوير العلاقة الإستراتيجية مع هذه الدول وإدارة ظهرها للغرب، بعدما كان بوتين يعول على أوروبا أكثر من غيرها.هكذا كان وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف يعتقد خطأً أن باستطاعته التفرقة بين دول الغرب، من دون الإدراك ان أوروبا تتمرّغ في أحضان أميركا وتنفّذ سياستها حتى ولو على حساب مصلحة الشعب الأوروبي نفسه. وقد ظهرت أوروبا خلال هذه السنة مسلوبةَ الإرادة وخصوصاً بعدما غضت النظر عن تدمير خطوط نورد ستريم الغازية التي كانت تستطيع تلبية الإحتياجات الأوروبية بأرخص الأسعار والتي إتُهمت أميركا بأنها تقف وراء العمل التخريبي. وتتعرّض الصناعة والإقتصاد الأوروبي لخطر جدي وخصوصاً بعد إنفصال أوروبا عن مصادر الطاقة الروسية.لقد شدّت أميركا العَصَب الأوروبي وأعادت الحياة لحلف الناتو الذي كان على حافة الاضمحلال لتصبح الحربُ ذات طبيعة عالمية تساهم فيها دولٌ أعضاء في الحلف بشكل مباشر. ودَخَلَ الجيش الروسي إلى المستنقع الأوكراني وأظهر انه لا يصل إلى مستوى طموحات القائد السياسي الذي بالَغَ في تقدير قوة جيشه الذي أَظْهَرَ عدم جهوزيته لحربٍ مماثلة واحتاج لأشهر لإدراك حقيقة ما كان بانتظاره في أوكرانيا. وأصبحت أوكرانيا مستودعاً لذخيرة الغرب وحقلَ تجارب لأسلحته لتتحوّل المعركة إلى حربِ إرادات برع فيها الجيش الاوكراني الذي يقدّم كل ما لديه في أرض المعركة.وما زال من السابق لأوانه إعلانُ إنتصارِ أو هزيمةِ أي طرفٍ من المتحاربين. إلا أن العالم تحوّل من القطب الأوحد الأميركي إلى عالمٍ متعدد الأقطاب لتفقد أميركا مكانتها كدولة عظمى وتصبح دولة قوية تجابه تكتلاً قوياً لا يريد محاربتها ولا الانصياع لها.لقد نجح بايدن في محطات عدة أهمها إدارة حرب من دون خسارة جندي أميركي واحد، ودفْع أوكرانيا لتقاتل عن عرش أميركا. إلا أن واشنطن بدأت تواجه تحدياً لعملتها الأقوى (الدولار) وكذلك بروز أدوات مالية تحويلية تواجه الـ SWIFT الذي تسيطر عليه. وهذا ما دفع الصين بقوتها الإقتصادية إلى الأمام ولتقدّم إلى إيران وروسيا الأدوات اللازمة لتخفيف وقْع العقوبات الغربية عليهما. وها هي دول مهمة مثل العراق والمملكة العربية السعودية وإيران والهند يتداولون بعملاتهم المحلية أو باليوان الصيني أو الروبل الروسي لتجارتهم.وها هي روسيا تجمّد معاهدة «NEW START» للحدّ من الأسلحة النووية - التي كان وقعها الرئيس ديمتري ميدفيديف عام 2010 والتي مُددت عام 2021 لخمس سنوات - ليودّع عملية مراقبة الأسلحة النووية وتخفيضها ويطلق العنان لنشْر رؤوس نووية جديدة وصواريخ بعيدة المدى في الغواصات والقاذفات الحاملة لهذه القنابل الإستراتيجية. إنها بداية الحرب الأميركية - الروسية بعد 30 عاماً من الهدنة المزيفة.دفعتْ الحربُ الدائرة في أوكرانيا البلدين المتحاربين مباشرةً وبالوكالة إلى شفا المواجهة المباشرة أكثر من أي وقت لدرجة أن أعلنت روسيا أن خطر نشوب صراع نووي أصبح حقيقياً. وقد غيّرت روسيا عقيدتَها النووية من «عدم إستخدامها» إلى «ضرورة اللجوء إلى السلاح النووي للدفاع عن وحدة أراضي روسيا». ولا توجد إشارات لاستخدام السلاح النووي المدمّر على الرغم من التلويح الروسي به.وبتطور الحرب وإرسال الدبابات الحديثة إلى أوكرانيا، من دون استبعاد ان تتبعها طائرات حربية متطورة، يبدو أن روسيا المصممة على عدم خسارة الحرب لن تتوقف إلا بعد أن تحقق أهدافها. إلا أن ذلك ما زال بعيداً لأن احتلال كامل دونباس يبقى بعيداً. ومن الممكن ان تتوقف الحرب يوم يدرك الرئيسان الروسي والأميركي أنها لم تعد مُجْدِية وأنها لن تهزم موسكو التي تستوعب الخسارة البشرية والمادية، وخصوصاً أن الشعب الروسي في غالبيته لا يتبنى آمال واشنطن بتغيير النظام في بلاده. وإلى ذلك الحين، فإن الحرب مستمرّة ولا أفقَ لنهايتها في القريب المنظور.

مشاركة :