صفحات منسية من تاريخ الجحفة

  • 2/26/2023
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

حينما تقف على جنبات قرية الجحفة ناظرا إلى ذلك القصر المنيف الذي قال فيه عمر بن أبي ربيعة المخزومي القرشي ( 23 – هــ93) : فَلَمّا أَضاءَ الفَجرُ عَنّا بَدا لَنا ذُرى النَخلِ وَالقَصرُ الَّذي دونَ عَزوَر وتلمح أخاديد الماء ومساقيه المبينة من الحجر بادية مع كثرة الرمال التي تغشاها وعندما تقرأ النقوش العادية القديمة الأثر يحق لك أن تقول أنها لمّا يشملها بعد قول أبي الطيب المتنبي : تَتَخَلَّفُ الآثارُ عَن أَصحابِها حيناً وَيُدرِكُها الفَناءُ فَتَتبَعُ وعندما تتأمل في أرضها وترى دروب القوافل وطرق السفر التي لم تنسجها الرياح الجنوبية القوية ولا الشمالية المستمرة تعلم عتيق زمنها وقدم طرقها وكثرة المرور معها.. ليس هذا فحسب بل عندما تطلع على الحجج والوثائق الأهلية التي بأيدي الناس والمبايعات القديمة فإنها تنبئك عن ثروة زراعية في أرض خصبة كثيرة المياه وفيرة الغدران وهي ملتقى للسيول من الأودية الشرقية بطول يتجاوز أكثر من المئة ميل شرقاً كل هذا من المشاهدة بالعين وأحاديث لسان الحال... فكيف إذا اطلعت على ذكر الجحفة في الكتب الإسلامية من تفسير وشروح الحديث والكتب الفقهية على المذاهب الأربعة والمعاجم العربية ودواوين الشعر وكتب المعاجم الجغرافية وكتب الرحلات... ورأيت كثرة ذكرها وشهرتها حتى أصبحت معلما يربط به ما يخفى مكانه لتقريبه للسامع أو للقارئ فيقال في تعريف مكان ما هو على بعد كذا وكذا من الجحفة أو يقال هو بين مكة والجحفة... مما يدل على حضور ذهني وشهرة مكان حتى أصبحت معلما مشهورا يضرب به المثل ويعّرف به المعلم المجهول والشواهد على ذلك الحضور وعلى تلك المعرفة كثيرة ومن أعلاها ما رواه الإمام مسلم رحمه الله : ( صَلَّى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: علَى قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ كَالْمُوَدِّعِ لِلأَحْيَاءِ وَالأمْوَاتِ، فَقالَ: إنِّي فَرَطُكُمْ علَى الحَوْضِ، وإنَّ عَرْضَهُ كما بيْنَ أَيْلَةَ إلى الجُحْفَةِ) كما يذكر ذلك كثيرا في كتب المعاجم والبلدان في التعريف بالأماكن القريبة من الجحفة وربطها بها لأنها معلم معروف حاضر في الأذهان قال الزمخشري في التعريف برابغ : (رابغ: على عشرة أميال من الجُحْفة فيما بين الابواء والجُحفة) فما الذي حصل وما الأمر الذي غير أمر هذه القرية حتى كادت أن تكون في عالم النسيان عند كثير من المثقفين فضلا عن غيرهم... هذا ما أحاول بيانه في هذا المقال المختصر عن تاريخ الجحفة وسبب اندثارها فأقول : المراد بالجحفة أوسع وأكبر من مكان الإحرام أو ما حول المسجدين المنسوبين إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل يشمل مسمى الجحفة منطقة واسعة تمتد شرقا وجنوبا وقد كان يقطنها أمة من الناس وتوالى بها أقوام وقد كانت المياه التي هي عماد الحياة تتوفر بها من من عدة مصادر فسيول تتردد عليها وغدران لا تجف وعيون فوارة فلذلك فهي وفيرة المزارع وكثيفة الأشجار وبها المباني الفارهة والتي لا زالت آثارها حاكية ومعالمها شاهدة إلى هذا اليوم مع بعد العهد وتوالي عوامل التعرية وأسباب الفناء وبسبب العبث أحيانا.. وما عزور ولا غدير خم والخرار ولا الغيضة وغيرها إلا أجزاء من الجحفة.. ويمر بالجحفة من جهة طرفها الغربي أكبر طرق القوافل على جنبات واديها الفحل الذي كان دائم السيول والغدران التي تبقى بعد انقطاع السيول زمنا ولا تكاد أن تجف لأن الوادي كان كثير السيول المنقولة من بُعد صيفا وشتاء قبل أن يتحول مجرى السيل إلى وادي رابغ في القرن السادس الهجري. وقد كان للجحفة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم مكانة اقتصادية وموقع جغرافي مميز على ساحل البحر الأحمر فعلى الجحفة يمر الطريق الأعظم درب الأنبياء عليهم السلام والموصل إلى مكة فكم من نبي مر مع هذا الطريق وكم من قوافل ورحلات عبرت من خلال الجحفة إلى البيت العتيق.. فما أن يهبط الذاهب إلى مكة من ثنية هرشى -التي هي مجمع للطرق القادمة من الشمال وخاصة الشمال الغربي-وينزل في ذلك الخبت الواسع الأرجاء –رابغ البر- إلا وتكون قرية الجحفة ماثلة أمامه وبها كل ما يحتاجه المسافرون وتتطلبه القوافل.. وكانت الجحفة قديماً تسمى مَهْيعة على وزن مخرمة أو مَهِيعة على وزن جميلة قال الزمخشري 538 : (الجُحُفة: ميقات أهل الشام في الإحرام واسمها مَهيعة سميت جُحْفة لان السيل أجتحف أهلها) وقال ياقوت ت 626 (مَهْيَعَةُ: بالفتح ثم السكون ثم ياء مفتوحة، وعين مهملة، وهو مفعلة من التهيّع وهو الانبساط، ومن قال إنه فعيل فهو مخطئ لأنه ليس في كلامهم فعيل بفتح أوله، وطريق مهيع واضح: وهي الجحفة) ثم سميت الجحفة لسيل عظيم اجتحف أهلها وكان ذلك قبل الإسلام ثم عادت عمارتها كما كانت... وكان يسكنها آنذاك العماليق من ذرية عبيل وعاد وقد اجتحفهم في إحدى سنيهم سيل عظيم فذهب بهم، فسمي المكان الجحفة بعد ذلك السيل فذاك قولُ شاعر منهم : عَيْنُ جودي على عبيلَ وهل يُر ... جع ما فات فيضها بالسجام وقد كانت لهم كما ذكر حضارة وعمارة وحرث تجري فيه المياه والعيون والشواهد على تلك الحضارة والعمارة ماثلة إلى اليوم عند من يتتبعها خبرا في الكتب أو شيئا من الواقع... وقد ازدادت تلك المكانة الجغرافية للجحفة بعد الإسلام وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم عندما جعلها الشارع أحد مواقيت الحج والعمرة إذ كانت الجحفة ذلك الزمن أعظم القرى بين مكة والمدينة وأكثرها عمارة فلذلك جعلها النبي صلى الله عليه وسلم ميقاتا للإحرام ولكونها تلتقي فيها الطرق وقد كانت محطة عامرة مكتملة بكل ما يحتاجه المسافرون قوافل أو فرادى.. وقد كانت الجحفة منزلا يندر ويقل أن تتجاوزه القوافل ولا تحط به ليتزودوا فيه من الماء ومما يحتاجون إليه من متطلبات... فقد نزل جيش مشركي أهل مكة في الجحفة عند ذهابهم لنصرة العير فكانت غزوة بدر ومنها رجع بنو زهرة وبالجحفة رأى جهيم بن الصلت رؤياه المشهورة في السير. (وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا. فقال: إني رأيت فيما يرى النائم، واني لبين النائم واليقظان إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف، ومعه بعير له ثم قال........) وهذا شيء مما ذكر في بعض الأحداث والمواقف التي في حصلت بالجحفة فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بالجحفة مرارا في هجرته من مكة إلى المدينة مر بالجحفة وقبلها وبعدها ولم يكن ذلك قصدا منه وإنما تشرفت تلك البقاع بمروره بها لأنها كانت على جادة الطريق.. وذكر ابن كثير في قوله تعالى : ( إن الذين فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) ((عن الضحاك قال : لما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة ، فبلغ الجحفة ، اشتاق إلى مكة ، فأنزل الله عليه : ( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) إلى مكة)) وقال القرطبي : في تفسير الآية : (قال القتبي : معاد الرجل : بلده ، لأنه ينصرف ثم يعود . وقال مقاتل : خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الغار ليلا مهاجرا إلى المدينة في غير الطريق مخافة الطلب ، فلما رجع إلى الطريق ونزل الجحفة عرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها فقال له جبريل إن الله يقول : إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد أي إلى مكة ظاهرا عليها . قال ابن عباس : نزلت هذه الآية بالجحفة ليست مكية ولا مدنية) وقد ذكرت كرامة لأم أيمن رضي الله عنها في الجحفة أو قريب منها والله أعلم بصحة سندها.... وفي رمضان من السنة الثامنة : جاء العباس بن عبدالمطلب بعياله من مكة مهاجراً إلى المدينة، فالتقى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بالجُحْفة. وذكر ابن سعد وغيره أن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي قبيلة من أهل اليمن من بجيلة، هاجر إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما انتهى إلى الجحفة لقيه خبر موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال عبدالله بن عباس قال لي عمرُ ونحنُ مُحرِمونَ بالجُحْفةِ : تعالَ أُباقيكَ أيُّنا أطولُ نفَسًا في الماءِ. وروى ........عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ دَخَلَ حَمَّامًا وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَالَ : " مَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِأَوْسَاخِنَا شَيْئًا " ( قال ابن قدامة كَانَتْ عَائِشَةُ، إذَا أَرَادَتْ الْحَجَّ أَحْرَمَتْ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَإِذَا أَرَادَتْ الْعُمْرَةَ أَحْرَمَتْ مِنْ الْجُحْفَةِ) وكان بها سوق عامرة يجد بها كل شخص بغيته من المسافرين الذين يشترون الطعام وغيره من أهلها وكذلك الحاضرون الذين يلقون القوافل ويشترون منهم ما يوردنه من أقمشة وبضائع بسيطة مجلوبة من بلدانهم وزروع كثيرة وبرك ماء وغير ذلك مما يحتاجه المسافرون.. قال أبو عبيد البكري ت 487 (الجحفة : وهى قرية جامعة، بها منبر) مرور النبي صلى الله عليه وسلم بالجحفة : من العلم اليقيني والخبر المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على الجحفة مرار في رحلاته وأسفاره بين مكة والمدينة كما هو الحال في رحلة هجرته وفي رحلة صلح الحديبية وعمرة القضاء وفي فتح مكة ثم حجة الوداع.. المساجد المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد : ممن اعتنى بذكر المساجد التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم الإمام البخاري في صحيحه حيث قال رحمه الله : (باب الْمَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ولم ينص على مسجدي الجحفة.. قال أبو عبيد البكري ت 487 في كتابه معجم ما استعجم : (وفى أول الجحفة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، بموضع يقال له عزور؛ وفى آخرها عند العلمين مسجد الأئمّة، وبين الجحفة والبحر نحو من ستّة أميال. وغدير خمّ على ثلاثة أميال من الجحفة، يسرة عن الطريق. وهذا الغدير تصبّ فيه عين، وحوله شجر كثير ملتفّ، وهى الغيضة التى تسمّى خمّ. وبين الغدير والعين مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك نخل ابن المعلّى وغيره) قال في خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى ل نور الدين السمهودي 911 هــ (مسجدان بالجحفة " قال الأسدي وفي أول الجحفة مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له غورث وفي آخرها عند العملين مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له مسجد الأئمة) • تنبيه : وهذه المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر وبنى الناس عليها مسجدا والله أعلم بصحة تحديد المكان وحتى على تقدير ثبوتها فإنه لا يجوز التبرك بها أو قصدها للصلاة فيها لو ثبت صحة أنه هو عيَن المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فهذه لم يثبت لها فضيلة تخصها، ولم يرد ترغيب في قصدها وصلاة ركعتين فيها. عزور : روى أبو داود (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة نريد المدينة، فلما كنا قريباً من عزور نزل ثم رفع يديه فدعا الله ساعة، ثم خر ساجداً فمكث طويلاً، ثم قام فرفع يديه فدعا الله تعالى ساعة، ثم خر ساجداً فمكث طويلاً، ثم قام فرفع يديه ساعة ثم خر ساجداً، ذكره أحمد ثلاثاً قال: إني سألت ربي وشفعت لأمتي فأعطاني ثلث أمتي، فخررت ساجداً شكراً لربي، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي فأعطاني ثلث أمتي، فخررت ساجداً لربي شكراً، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي فأعطاني الثلث الآخر، فخررت ساجداً لربي). قال ابن منظور ت 711 : وَفِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ عَزْوَر، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْوَاوِ، ثَنِيَّةُ الجُحْفَة وَعَلَيْهَا الطَّرِيقُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلى مَكَّةَ، وَيُقَالُ فيه عَزُورا.أ.هــ قال ياقوت ت 626 (وقال أبو نصر: عزور ثنية الجحفة عليها الطريق بين مكة والمدينة، وقال: عزور أيضا جبل عن يمنة طريق الحاج إلى معدن بني سليم بينهما عشرة أميال، وقال أميّة: إنّ التكرّم والندى من عامر ... جدّاك ما سلكت لحجّ عزور وقال عرّام بن الأصبغ: عزور جبل مقابل رضوى، وقد ذكرته مستقصى مع رضوى لأن كل واحد له بالآخر نشب في التعريف، وقال كثيّر: حلفت بربّ الراقصات إلى منى ... خلال الملا يمددن كل جديل تراها رفاقا بينهنّ تفاوت، ... ويمددن بالإهلال كلّ أصيل تواهقن بالحجّاج من بطن نخلة ... ومن عزور فالخبت خبت طفيل) أ.هــ غدير خم : لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة استوخمها الصحابة حيث كانت شديدة الوباء فاشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الله عز وجل أن ينقل حماها إلى الجحفة وفي رواية إلى خم فاستجاب الله دعاءه فقد روى الإمام البخاري وغيره : لمَّا قَدِمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وُعِكَ أبو بَكْرٍ وبِلَالٌ، قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عليهمَا، فَقُلتُ: يا أبَتِ كيفَ تَجِدُكَ؟ ويَا بلَالُ كيفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ: وكانَ أبو بَكْرٍ إذَا أخَذَتْهُ الحُمَّى يقولُ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ في أهْلِهِ... والمَوْتُ أدْنَى مِن شِرَاكِ نَعْلِهِ وَكانَ بلَالٌ إذَا أُقْلِعَ عنْه يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ فيَقولُ: أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هلْ أبِيتَنَّ لَيْلَةً... بوَادٍ وحَوْلِي إذْخِرٌ وجَلِيلُ وَهلْ أرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ... وهلْ تَبْدُوَنْ لي شَامَةٌ وطَفِيلُ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ، وصَحِّحْهَا، وبَارِكْ لَنَا في صَاعِهَا ومُدِّهَا، وانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بالجُحْفَةِ. ومن الأحاديث التي ذكر فيها غدير خم ما رواه الإمام أَحْمَدُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَسَارُوا مَعَهُ نَحْوَ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخَرَارِ مِنَ الْجُحْفَةِ، اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَكَانَ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ، فَلُبِطَ سَهْلٌ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي سَهْلٍ! وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَلَا يُفِيقُ، قَالَ: «هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ؟» قَالُوا: نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ وَقَالَ: «عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، هَلَّا إِذَا رأيت ما يعجبك بركت؟ - ثم قال- اغْتَسِلْ لَهُ» فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمَرْفِقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ، ثُمَّ صب ذلك الماء عليه فصبه رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ يُكْفَأُ الْقَدَحُ وَرَاءَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. ومن الأحداث الشهيرة حديث الغدير وكان ذلك يوم الأحد وفي الثامن عشر من شهر ذي الحجة في العام العاشر من الهجرة عام حجة الوداع وبينما كان النبي صلى الله عليه وسلم في طريق العودة إلى المدينة وإيابه من رحلة الحج نزل في إحدى محطات الطريق في أعلى وادي الجحفة وتحديدا عند غدير خم ثم نادى مناديه بالصلاة جامعة فاجتمع من كان معه حوله وقريب منه تحت الدوح والأشجار بحيث يسمعونه فخطب فيهم خطبة وكان من قوله في تلك الخطبة : (أذكركم الله في أهل بيتي) ومنها (من كنت مولاه فعلي مولاه) ويدل هذا الحديث عند أهل السنة على حقوق أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وعلى فضل عليّ ومحبته ونفي التهم والتنقص الذي وجه له من بعض أفراد الجيش الذين كانوا معه في اليمن قبيل حجة الوداع ولا دلالة له على قضية الخلافة أو أحقيته بالخلافة كما ادعت الشيعة في ذلك بل غاية ما فيه إثبات فضل أهل البيت ومنهم أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وبيان محبة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب وإن من مقتضى محبة النبي صلى الله عليه وسلم محبة علي رضي الله عنه وعدم بغضه أو تنقصه واتهامه بما هو بريء منه. والمقصود هنا ذكر نبذ عن المكان وشيء مما ارتبط به. إمارات ومشيخة في الجحفة : ظلت الجحفة عامرة واستمرت تلك بعد الإسلام ونزل فيها طائفة من أهل البيت من الجعفريين والحسينين والحسنين وما تفرع منهم وقامت لهؤلاء في المنطقة إمارات ومشيخة بلغت وامتدت إلى الجحفة وكان بينهم نزاعات وحروب ثم انتهت ربما بتدخل قبائل زبيد وربما كان لخراب الجحفة دور في تلاشي ذلك الصراع على الجحفة وودان... خراب الجحفة في القرن السادس : ظلت الجحفة عامرة ومكانا للإحرام حتى اندثرت وخربت بسبب تحول السيول عنها إلى رابغ مما أدى إلى قلة المياه وجفاف العيون بسبب انقطاع السيول الكثيرة التي كانت تغشاها وتحولها إلى منطقة الحكاك ثم رابغ مما تسبب في ازدهار رابغ وخصوبة واديها ونمائه وكان هذا الاندثار وبداية الخراب في نهاية القران السادس وبداية القرن السابع وممن أشار إليه ياقوت المتوفى 626 في كتابه المشهور معجم البلدان والذي ألفه سنة 615 والذي يظهر أن انحراف السيل عنها وتحوله كان تدريجيا أبصره بعض الناس قبل تفحله وتحولها جملة فلما علموا عن عجزهم في علاجه بادروا ببيع أملاكهم وتحولوا إلى الشراء في رابغ وغيره من الأودية وفي ذلك قصص وأخبار يتناقلها العامة ليس عليه مستند تنسب إليه.. وأما مسألة الإحرام من رابغ فهي جائزة بالاتفاق لا لأنها نقل للميقات بل هي من الإحرام قبل الميقات وهذا جائز باتقاق... قال ابن قدامة : 3 / 250 قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : (أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ أَنَّهُ مُحْرِمٌ. وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَيُكْرَهُ قَبْلَهُ) وقد يفهم من قول ابن قدامة رحمه الله ت 620 إشارة إلى اشتهار خراب الجحفة حيث قال رحمه الله (3 / 246 ) فَصْلٌ: (وَإِذَا كَانَ الْمِيقَاتُ قَرْيَةً فَانْتَقَلَتْ إلَى مَكَان آخَرَ، فَمَوْضِعُ الْإِحْرَامِ مِنْ الْأُولَى، وَإِنْ انْتَقَلَ الِاسْمُ إلَى الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ الْمَوْضِع، فَلَا يَزُولُ بِخَرَابِهِ) وقد دأب الحجاج بعد ذلك على النزول في رابغ لوفرة المياه ووجود الأسواق به وكل ما تحتاجه القوافل من قوت وطعام للناس وأعلاف لدوابهم فمنهم من كان يحرم من رابغ ومنهم من كان يلبس ثياب الإحرام من رابغ ويحرم بالنسك إذا حاذى الجحفة وهي غير بعيد عن رابغ... الجحفة في كتب رحلات الحج : يعد كتاب الرحلة وثيقة اجتماعية تصور لك واقع الناس وعاداتهم وتبين أحوالهم ومعالم جغرافية أرضهم وبعض الحوادث آنذاك وتخبرك عن المجهول في ذلك الزمن الذي دونت فيه ويستفيد كل من نظر فيها من عالم أو أديب أو قارئ ويجد بها مبتغاه ومطلبه وما أكثر فوائدها وأجم منافعها وبالرغم من ازدهار أدب الرحلات في القرون الثمانية الماضية وخاصة رحلات الحج والعمرة إلى البيت العتيق ومرور الأدباء والعلماء على الجحفة أو بمحاذاتها فإنه لا يوجد لها كثير ذكر يؤثر أو خبر ذو شأن ينقل إلا يسيرا وسبب ذلك أنها كانت خرابا في ذلك الزمن وتحول الإحرام إلى رابغ فلذلك كثر الحديث عن رابغ وندر عن الجحفة مع إنها الميقات الأصل : ومن أمثلة هذه الرحلات ومن أشهرها : 1- رحلة ابن جبير ت 614 ولم يذكر ابن جبير الجحفة في رحلته سنة 579 هـــ 2- قال العبدري المتوفى بعد 700 هــ في رحلته سنة 688 (والجحفة على يسار طريق الركب على أميال وهي الميقات وما أظن بها الآن عمارة....ذكر أهل الأخبار أن الجحفة كان اسمها قديما مهيعة حتى نزلها بنو عبيل إخوة عاد في الدهر الأول حين أخرجتهم العمالقة من يثرب فأتى عليهم سيل اجتحفهم فسميت الجحفة وحكى القاضي عياض في مشارقه قولا إنما سميت الجحفة من سيل الجحاف الذي اجتحف الحجاج عام ثمانين (ثم اندهش كيف لم ينبه القاضي على بعده) ثم قال : وذلك أنها كانت تسمى الجحفة قبل الإسلام وإلى الآن وجاء ذكرها في الأحاديث الصحيحة والأخبار الثابتة وكان سيل الجحاف في إمارة عبدالملك بن مروان فكيف سميت به قبل وجوده....) 3- رحلة ابن رشيد السبتي ت ٧٢١ هـ قال في رحلته 683 هــ (وتمادينا على المسير إلى محل النزول لم نعرفه ثم منه إلى رابغ، وافيناه ضحوة يوم الأحد ثاني ذي الحجة، وهو في هذه المدة موضع إحرام الركب المصري، وهو دون الجحفة بنحو عشرة أميال إلى جهة المدينة، والجحفة عن يسار الطريق اليوم، ومن رابغ يرفع الناس الماء) 4- رحلة ابن بطوطة ت 779 لم يذكر سوى التعريف برابغ إنه (دون الجحفة) وهذه نماذج وصفحات يسيرة من تاريخ رابغ والجحفة وشيء مما حدث بها وهذه مختارات من كتاب لي في ذلك يسر الله إتمامه والانتفاع به وأسعد بملحوظات الإخوة الكرام.

مشاركة :