كنّ ثلاثاً قبل عام، ثم أصبحن خمساً مع بداية فصل الشتاء، وحالياً يتراوح عددهن بين سبع وثماني، وفي يوم الجمعة العدد أكبر من أن يعدّ أو يحصى. فالمسجد على مقربة من مكان التجمّع، والصدقات والزكاة تدفعهن للقدوم من هنا وهناك ليعدن منتصرات مجبورات الخاطر. لكنهن على يقين بأن الخاطر لم يُجبر إلا باكتمال «أدوات النصب». وهل هناك ما يمكن أن يخترق القلوب ويؤثّر في الصدور ويدفع بالأيادي إلى الاغتراف من حافظات النقود أكثر من رضيع بائس أو طفل شارد أو طفلة تتخذ من عبور الشارع وسط السيارات لعبة لطيفة ومغامرة طريفة؟ الطريف أن أحد الأطفال والذي لم يتعدَ الـ7 سنوات، قال لـ «الحياة» أن والده كهربائي ووالدته «موظفة»، وأنه يجيء إلى هذا الموقع صباح كل يوم للتسلية. ولدى سؤاله عمن بين النسوة المجتمعات على الرصيف هي والدته، أشار ببراءة وقال: «دي ودي» (هذه وهذه!). والدتا الصغير ربما تكونان جدته ووالدته، أو خالته وعمته، بل يمكن ألا تمتان له بصلة قرابة أصلاً. المركز الرئيس لمجموعة المتسولات ومعهن جمهرة الأطفال الذين يسرحون في تقاطعات شارعي «الثورة» و «صلاح سالم» (الأشهر في حي مصر الجديدة شرق القاهرة) بات معروفاً لكل من يرتاد المنطقة، بدءاً بالسكان مروراً بالمارة وانتهاء برجال الشرطة، الذين يتكثّف وجودهم في تلك البقعة بحكم ذهاب كبار المسؤولين من هناك وإيابهم. وهناك على ما يبدو اتفاق «جنتلمان» أو «جنتلومان» بين النسوة المتسولات ورجال الشرطة. ففي حال مرور أحد كبار المسؤولين، تنزوي عضوات «مجلس إدارة نقطة التسوّل» في شارع جانبي، ثم يعاودن التمركز بعد قليل. «ستات غلابة ويسترزقن» «يعني هي جت على هؤلاء؟!» «والله لو فقيرات بالفعل فيستحقنّ الصدقة، ولو متظاهرات بالفقر، فالله أعلم بالنيات». عبارات كثيرة لا تخرج عن هذا الإطار ترددها غالبية عظمى من المتصدقين، وأصحاب السيارات، والمارة، بل ورجال الشرطة أنفسهم. أحدهم قال لـ «الحياة» متأففاً: «نحن نتركهن وأطفالهن تعاطفاً منا ولو فعلنا غير ذلك ستوجّه لنا اتهامات بالعنف». وهن يتهمن باستخدامهن أطفالاً «مستأجرين» وسيلة للتأثير على المارة. ومخالفاتهن تبدو ثانوية جداً في خضم الأزمات المتفجّرة في أعقاب الرياح الربيعية. رياح الربيع التي نضحت بآثار جانبية كثيرة يدين لها الخارجون على القانون والمتاجرون بالأطفال بالشكر والتقدير. صحيح أن ظاهرة التسوّل من الظواهر التي تعاني منها مصر منذ سنوات طويلة، إلا أنها تحوّلت في الآونة الأخيرة إلى أمر واقع يُجبر الجميع على التعايش معه. وكم من قصص وحكايات بعضها يرويه مواطنون وبعضها الآخر ترويه صفحات الحوادث بصفة شبه يومية. فمن إلقاء القبض على عاطلين يديرون شبكة للإتجار في الأطفال عبر الخطف والتشويه والتسريح بغرض التسوّل نهاراً والاعتداء الجنسي ليلاً، إلى إلقاء القبض على متسوّلة والعثور معها على بضع آلاف من الجنيهات ثم اكتشاف امتلاكها لعمارة سكنية كاملة، إلى سائقي الأجرة الذين يتصادف تعاملهم مع متسوّلين إذ يقلونهم من مساكنهم إلى أماكن العمل، أي تقاطعات الشوارع المزدحمة والإشارات والمناطق الراقية وكأن القانون في غيبوبة. قانون الطفل رقم 12 الصادر عام 1996 والمعدّل بالقانون 126 في عام 2008 والمعطّل تنفيذه، بات تطبيقه حتمياً بعدما تفاقمت ظاهرة استغلال الأطفال حتى وصلت مرحلة «الإبداع». يقول أحمد مصيلحي رئيس شبكة الدفاع عن الأطفال في نقابة المحامين، أنه تقدّم قبل أيام بمقترحات عدة لرئيس مجلس النواب آملاً في إنقاذ الطفل المصري الذي يمثل 40 في المئة من التعداد السكاني، وبعدما تزايدت حدة الأخطار والانتهاكات التي يتعرّض لها على مدى السنوات الخمس الماضية. ويضيف: «تكثّفت التقارير الصادرة عن المنظمات غير الحكومية والخاصة فى السنوات الثلاث الأخيرة، والتي تؤكّد الإبداع في استغلال الأطفال بمختلف السبل ولكل الأغراض، بما في ذلك التسوّل والاستغلال السياسي. وزادت ظواهر خطف الأطفال واستغلالهم جنسياً وفي التسوّل والإتجار والتهجير عبر الحدود. وانتشروا على الجسور وداخل الأنــفاق وتجمـــّع المـــيكروباصات وســيارات الأجرة، ما يعد إشهاراً منهم بفقدانهم أشكال الحماية والرعاية. كما زادت أعداد الأطفال في الشارع وإقبالهم على التسوّل، فضلاً عن مطاردات الشرطة لهم في ميادين بعينها». يذكر أنه تمّ القبض على حوالى ألفي طفل في حالات تسوّل في القاهرة منذ بداية 2016، وهم الأطفال الذين لم يتمكّنوا من الهروب من الحملات الأمنية. ويطالب مصيلحي في ورقة قدمها إلى مجلس النواب بالعمل على إنشاء لجنة نيابية لحقوق الطفل، مع إعادة تبعية المجلس القومي للطفولة والأمومة إلى رئيس مجلس الوزراء وليس إلى وزارة الصحة. وهو التغيير الذي حدث في أعقاب «ثورة يناير 2011»، ما أفقد المجلس سلطته وقدرته على التحرّك. كما يدعو مصيلحي إلى تفعيل دور مجموعات حماية الأطفال والمتطوعين والمنظمات الحكومية وغير الحكومية وتكثيفها، وتطبيق القانون وتغليظ العقوبات على الجرائم المرتكبة في حق الطفل، وأن يقتصر دور الشرطة على حفظ أمن مؤسسات رعاية الأطفال من دون التعامل المباشر معهم، وكذلك العمل على تطوير نموذج شهادات الميلاد لتحوي بصمة الطفل سواء القدم أو العين لمواجهة ظاهرة خطف الأطفال والإتجار بهم في التسوّل وغيره، ناهيك بالإتجار في أعضائهم. تحذير أجرى المجلس القومي للطفولة والأمومة، دراسة خلال شهر رمضان الماضي، بناء على بلاغات تلقاها خط «نجدة الطفل» تشكو من «تفجّر» ظاهرة التسوّل، وتشير إلى شكوك بتخدير أطفال صغار السن استخدمتهم متسولات، مع لجوئهن إلى العنف المفرط سواء في التعامل مع الصغار أو الردّ على أسئلة المارة والاختصاصيين الاجتماعيين الموفدين من المجلس حول علاقتهن بالصغار. واتضح أن النسبة الأكبر من الأطفال المستخدمين في التسول في سن الثالثة تقريباً، تليهم فئة الأطفال أبناء الأعوام الخمسة، ثم الأطفال الذين لا تزيد أعمارهم عن عام واحد. كما لوحظ أن الأطفال الأكبر سناً يوجدون على شكل تجمّعات في الميادين أو الحدائق العامة وقرب المرافق الحيوية.
مشاركة :