بقلم: آلان فراشون يمكن القول إن المشهد السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية تغلب عليه الضبابية في الوقت الراهن. لا تزال شخصية الرئيس السابق الجمهوري دونالد ترامب تهيمن على هذا المشهد رغم أن أسهمه السياسية قد تضاءلت نسبيا. أنهى دونالد ترامب العام الماضي بشكل سيئ، والسؤال هو ما إذا كان يبدأ في الانحدار الشخصي، وهو ما قد يجعل من فترة رئاسته (2016-2020) مجرد قوس في التاريخ السياسي للولايات المتحدة الأمريكية. لنا أن نتساءل أيضا عما إذا كانت «السياسة الترامبية» ستحافظ على بقائها في تاريخ البلاد حتى إذا منيت آمال وتطلعات دونالد ترامب في العودة إلى البيت الأبيض بالفشل. عانى الرئيس السابق من الملاحقات القانونية ومن جزء من الناخبين في الولايات المتحدة الأمريكية. فقد خسر انتخابات التجديد النصفي التي أجريت يوم 8 نوفمبر 2022، بعد فشل العديد من المرشحين الموالين له والذين قدم لهم الدعم الشخصي. ثبت أن شعار (أمريكا عظيمة مرة أخرى) كان سامًا وعاد له بالوبال، حيث ابتعد عنه الناخبون المعتدلون من الحزب الجمهوري، والأكثر من ذلك، «المستقلون»، وهي المجموعة التي من دونها لا يمكن تحقيق فوز في الانتخابات الرئاسية. لا شك أن هذه المؤشرات لا تبشر بالخير بالنسبة إلى ترشيح ترامب في شهر نوفمبر 2024، وهو الترشح الذي أعلنه بعد أيام من الانتخابات النصفية. كانت استطلاعات الرأي قد أبرزت حظوظ الحزب الجمهوري-الحزب الكبير القديم- لاستعادة السيطرة على مجلس الشيوخ غير أن الديمقراطيين هم الذين احتفظوا بالأغلبية بنسبة (51 مقابل 49) في مجلس الشيوخ. ضمن النواة الصلبة للناخبين الجمهوريين والذين يمثلون قاعدة انتخابية كبيرة، لا يزال دونالد ترامب يتمتع بدعم قوي (70-80 من الناخبين الجمهوريين)، لكنه لا يتمتع بأغلبية في جمهور الناخبين ككل. في الحقيقة فإنه سبق لدونالد ترامب أن نجح في ذلك. ففي التصويت الشعبي الذي أجري في شهر نوفمبر 2016، حصل دونالد ترامب على 3 ملايين صوت أقل من منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون. لم يفز بالانتخابات الرئاسية في ذلك العام إلا بالاقتراع غير المباشر، من خلال الآلية المعروفة باسم «الناخبين الكبار». في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في نوفمبر 2020 تقدم جو بايدن على دونالد ترامب بحوالي 6 ملايين صوت، الذي فاز أيضًا بأغلبية أصوات «الناخبين الكبار». في انتخابات التجديد النصفي لعام 2018، وفي ظل وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض، سيطر الديمقراطيون على مجلس النواب. يقول قادة الحزب الجمهوري اليوم إن ترامب «آلة خاسرة للانتخابات»، لكن مشكلتهم لا تزال قائمة: لا يزال ترامب يتمتع بشعبية لدى ناخبي الحزب الجمهوري. هل ترامب اليوم هو أفضل قائد للتيار الترامبي؟ هل هو الأقدر على استغلال المزاج الكئيب لجزء كبير من الناخبين الأمريكيين؟ لا يوجد أي مؤشر يؤكد ذلك. هناك عدة عوامل متداخلة مثل حصاد فترة رئاسة ترامب وخطابه السياسي الشعبوي الذي تنامى كثيرا في الولايات المتحدة الأمريكية وانجراف الحزب الجمهوري وتداعيات الانتكاسات القانونية المتتالية التي ظلت تلاحقه والتي قد تعيق عودته إلى البيت الأبيض. إن ما يغري في شخصية ترامب لا يتعلق بما أنجزه في البيت الأبيض - ذلك أنه لم ينجز الكثير – بقدر ما كان يتعلق بما عبر ويعبر عنه. لقد كان ترامب قادرًا على الركوب بحنكة على موجة الاستياء والغضب – والذي ازداد زخمه في بداية سنة 2023. لقد استغل ترامب مخاوف من أنواع مختلفة وراح يعزف على وتر الحنين إلى أمريكا الأسطورية، التي لم تكن موجودة حقًا ولكن التي يتم استدعاؤها بكثير من الحزن من خلال القول كنا في حالة أفضل في الماضي. تتجلى حالة انعدام الاستقرار على المستويات الثقافية والاقتصادية والتكنولوجية والاستراتيجية، وهو ما يولد، سواء الأمس أو اليوم، حالة من الاستياء الشعبي الذي يشكل تربة خصبة لدونالد ترامب. لقد نجح دونالد ترامب في توحيد تحالف غير متجانس يشمل الأثرياء الذي حصلوا على خفض ضريبي في ظل إدارة دونالد ترامب، إضافة إلى الفئات الاجتماعية المهمشة في خضم النمو المعولم، فضلا عن أتباع التيار الديني الأنجيلي جنبًا إلى جنب مع المتعصبين ودعاة نظرية المؤامرة من جميع الفئات. كان ترامب «رجلهم الكبير»، الشخص الذي يعرف كيف يتحدث معهم. فقد تجرأ على قول ما كانوا يفكرون فيه بصوت عالٍ بهدوء، كما أشار إلى عدو متعدد الأوجه، أي «الدولة العميقة» ونخب السواحل (الشرق والغرب)، والخبراء، والفردية الليبرالية المتطرفة، والتعددية، والتجارة الحرة، ومنظمة التجارة العالمية، والمهاجرون وغيرهم. يعتبر ترامب أن هذه القوى الشيطانية هي التي تهدد الأمريكيين «الحقيقيين» من حيث «ثقافتهم، وأسباب وجودهم وتقاليدهم»، وهو ما تطرق إليه البروفيسور ران هاليفي بامتياز في فوضى الديمقراطية الأمريكية. لكن ماذا عن آفاق الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في شهر نوفمبر 2024 مع نهاية عهد الرئيس الديمقراطي الحالي جو بايدن؟ تؤكد استطلاعات الرأي فوز ترامب في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري في عام 2024، غير أن الصورة تصبح أكثر ضبابية وغير واضحة عندما يتعلق الأمر بتقييم فرص دونالد في مواجهته لمرشح ديمقراطي في الانتخابات الرئاسية القادمة. ضد ديمقراطي - الوسط يتماشى، وليس نجم الجناح «المستيقظ» للحزب. لا شك أن دونالد ترامب - المترجم الممتاز لمزاج البلد والمجتمع الأمريكي – يدرك ذلك، فروح العصر لا تستهويه ولا تمثل بالتالي نقطة قوته. إنه يسعى إلى الارتباط بأكثر أتباعه إخلاصًا وتطرفًا كما أنه يتناول طعام العشاء مع زعيم أبيض متعصب وسيئ السمعة؛ يدافع عن حركة QAnon وهي طائفة تقول بفكر المؤامرات. إنه يعلم أن الفوز في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري يتحقق على اليمين. اختار دونالد ترامب أن ينأى بنفسه عن أولئك الذين كانوا أكثر المتعاونين معه. أما اليوم فقد أصبح محاطا بالمتملقين المشكوك فيهم، وهو لم يعد يقبل بأي تناقض. فقد حبس نفسه في داخل فقاعة من الأوهام التي انتهى به الأمر إلى الاعتقاد بأن انتخابات 2020 «سُرقت منه» وأن انتصار بايدن «كذبة كبيرة» وأن الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية غير شرعي. خلصت جميع السلطات القضائية والإدارية وغيرها التي تمت دعوتها للمصادقة على نتائج اقتراع 7 نوفمبر 2020 إلى فوز المرشح الديمقراطي، بيد أن دونالد ترامب، الذي يحظى بدعم غالبية الناخبين الجمهوريين، يخيف مسؤولي الحزب المنتخبين. لقد فرض عليهم فرضية «الكذبة الكبرى» التي يتبناها 80% من ناخبيه! لقد أصبح أحد بنود عقيدة الحزب القديم الكبير، وعنصر غير قابل للتفاوض يجب على الجمهوريين الخضوع له، والذين يصبون للفوز بمقعد في الكونجرس، حيث إنهم يطلبون الدعم السياسي والأموال. لا يزال دونالد ترامب يكرر نفس الخطاب السياسي أكثر حتى مما كان عليه الأمر في سنة 2016، وهو لا يزال يردد أنه الوحيد القادر على «إنقاذ أمريكا» – ذلك ما يقوله ولن نعرف أبدًا من ماذا وكيف. خلال اجتماعاته ولقاءاته لا يزال ترامب يردد أنه سيكون «ضحية» «الدولة العميقة» أو القضاة أو الصحافة، أو حتى أولئك الذين يرفضون اتباع خطه. يظهر دونالد ترامب في صورة القديس سان سيباستيان، أي في صورة الضحية التي تتعرض لسهام النخب الفكرية والأكاديمية في الولايات المتحدة الأمريكية لسهام أطلقت عليه من قبل نخب البلاد! لقد كان شغوفا بنفسه ولم يكن يقيم وزنا للجدل العام حول هذه السياسة أو تلك. أيا كانت القرارات التي سيتخذها القضاة - لائحة الاتهام والإدانة أو وقف التتبع - فإن التحقيقات الجارية تشكل صورة ترامب. فالتحقيق الذي أجراه مجلس النواب الأمريكي بشأن دور دونالد ترامب المحتمل في الهجوم الذي نُفذ في 6 يناير 2021 ضد مبنى الكابيتول، أي مقر الكونغرس، هو الأكثر ضررًا. فقد وجدت لجنة التحقيق، التي يهيمن عليها الديمقراطيون، أن بعض أقرب مستشاري الرئيس الخامس والأربعين حاولوا نوعًا من الانقلاب القانوني. هل كان شاغل البيت الأبيض متورطًا بشكل مباشر؟ سيتعين على جاك سميث، المدعي الخاص الذي عينه وزير العدل، ميريك جارلاند، تحديد ذلك. كان للهجوم على مبنى الكابيتول من قبل حشد من النشطاء الذين كان الرئيس قد أثار حماستهم الرئيس هدف واحد: ترهيب نائب الرئيس مايك بنس والجمهوريين المنتخبين لرفض «التصديق» على نتائج انتخابات يوم 7 نوفمبر 020 وإصدار أمر بإعادة التصويت في بعض الولايات الأمريكية. كان الهدف هو التشكيك - بالقوة - في اختيار غالبية الأمريكيين، وعكس نتائج صناديق الاقتراع ومحاولة مناورة أخيرة لإبقاء دونالد ترامب في السلطة. شهدت الديمقراطية الأمريكية أوقاتًا أفضل في الماضي. بوليتيك
مشاركة :