سبق أن نشرتُ هنا في صحيفتنا الغراء صحيفة الرياض مقالاً بعنوان (الشعر الفصيح وعواصف العامية)، وكان المقال يشير إلى أنه لا توجد قطيعة، أو عدائية بين الشعر الفصيح، والشعر العامي، كما لا توجد مطابقة بينهما بشكل مطلق، وإن تحدّرا من أصل أجناسي واحد، وهو الشعر، لكن الإشكال الكبير يبدو في مسألة المزاحمة، أو المنافسة، فأي الشعرين ينبغي أن يكون ذا حظوة وصدارة؟! وهذا ما لم يبيّنه – في ظني – كثير من الذين يثيرون مسألة المفاضلة والأولية. إنني هنا لا أدعو إلى تمييز أحد الشعرين عن الآخر، أو تغليب الأول وتفضيله على الثاني، وإن كان يحق لي القول: إن الفصيح أصل، والعامي فرع عنه؛ ذلك أن الفصيح أسبق، وأقدم، وهو الأصل الذي استقى منه العامي فيما بعد، أو تحدّر من سلالته على الأقل، فالشعر العامي قد ينطبق عليه ما ينطبق على أنواع الشعر التي استجدت في القرون المتأخرة عن زمن توهج الشعر العربي الأصيل، كا (الدوبيت – الزجل – الكان كان – المواليا – القوما – التفعيلة..)؛ وفي ضوء ذلك التفرّع والتنوع لم يعد الشعر العامي مستغرباً. غير أن وفرة الشعر العامي في زمننا هذا، ومزاحمته للشعر الفصيح، لا تعنيان بأنه الأجدر، أو الأنسب، فلكلٍّ ميدانه، وزمانه، ولسانه، وأقرانه، ومن أجل ذلك فإن لكلٍّ أبجدياته وجمالياته، مع أنني أدرك بأن الشعر العامي إنما هو تحوّلٌ من الشعر الفصيح، وهو تحوّل مرتبط بتحول الناس، وظروف الحياة، لكنه على كل حال لا يسوّغ لتقديم أحدهما على الآخر، أو تفضيله عليه. أين تكمن المشكلة إذن في صراع الشعرين: الفصيح والعامي؟! أظن أن أصل الإشكال يظهر في محاولة إلباس أحدهما لباس الآخر، فلا الشعر الفصيح يصح أن يكون عاميّاً، ولا الشعر العاميّ يجوز له أن يكون فصيحاً، فلكل شعر منزلته التي يتبوؤها، ومكانته التي يتنزّلها؛ ولهذا فالشعر الفصيح منزلته أن يكون في سياق الشعر (العالِم)، على غرار (اللغة العالمة) أي ذات الاستعمال النخبوي، وكذا الشعر العامي فإن مكانته في الأوساط العامية ذات البعد الاجتماعي الشعبي، بلغته المستعملة، ولهجاته الدارجة، ومن هنا فإن سياقات الشعر الفصيح ومساراته، وطرق تلقيه، تختلف عن سياقات الشعر العامي ومساراته، وطرق تلقيه، وفي ضوء ذلك يبدو التباين والاختلاف، بعيداً عن التمايز والتفاضل. ولئن كان الشعر الفصيح بلغته العالمة، يختلف عن الشعر العامي بلغته الشعبية، فإن الأول قد يكون أكثر انفتاحاً، وأوسع أفقاً، والثاني قد يكون أقل مساحة، وأضيق دائرة؛ ذلك أن الشعر الفصيح يخاطب العربيّ وغيره بكل وضوح، بينما الشعر العاميّ يخاطب العربيّ المحدود في بيئة معيّنة؛ ولهذا قد يتذوق العربي - من الخليج إلى المحيط - شعراً فصيحاً يستعذبه، لكنه قد لا يفهم شعراً عاميّاً انطلق بلهجة تختلف عن لهجته المحلية، وإن كان استعماله عربيّاً، ومن هنا تبدو إشكالية التلقي واضحة الفوارق بين الشعرين. هذا التحديد لا يعني تمييز نوع على الآخر، لكنه تحديد يضع كل شعرٍ في نصابه ومكانه، وهو أمر مرتبط بجانب تداولي مهم أيضاً؛ فالمخاطبون في النوعين مختلفون؛ إذ لكل شعر مخاطبه الذي يتذوقه، ومقامه الذي يناسبه؛ فلا أظن أن شعراً فصيحاً سيُلقى في سياق شعبي سيكون مناسباً، كما لا أظن أن شعراً عاميّاً سيكون مقبولاً في سياقٍ عالِم.
مشاركة :