ثلاث مراحل مر بها عقاب الاحتلال لضحاياه في فلسطين، العقاب الأول كان على مجرد البقاء على قيد الحياة، لأن ذلك يفسد الأطروحة الصهيونية القائلة إن فلسطين كانت أرضاً بلا شعب. والمرحلة الثانية من العقاب طالت كل من قال لا للأمر الواقع، ولم يتعامل مع كل ما جرى له على أنه قدر يجب التسليم به والعقاب الآن أصبح على الأنين من شدة الألم، أو من فرط التعذيب، وإضراب الأسرى الذي سلاحه الأمعاء الخاوية ولا شيء آخر، لأن المطلوب من الضحية أن تكون خرساء كي تكتمل الجريمة في صمت وبلا شهود، لكن الاحتلال بكل الصيغ التي عَبرت عنه في التاريخ حمل بذور موته ورحيله في داخله، لأنه فعل مضاد لحركة التاريخ، وللمنطق وهو محاصر على الدوام بقوانين دولية وأعراف إضافة إلى الموقف الأخلاقي. وقد مر وقت كان الاحتلال فيه اختباراً عسيراً لمنسوب العدالة في العالم، لأن من يصمت عنه هو كمن يتواطأ حيث لا مجال للحياد في مثل هذه الحالات التي إن لم تجد الرادع القانوني والأخلاقي تستشري. والأنين الذي يرشح من ضحايا الاحتلال والاستيطان ليس حجراً أو مسدساً أو حتى لغة، إنه حق الإنسان في التعبير عن القهر خصوصاً عندما يجد نفسه عارياً ووحيداً، ولم يحدث من قبل أن تم مثل هذا الانصراف عن القضية الفلسطينية، والذي شمل حتى ذوي القربى، لأنهم مشتبكون في حروب طائفية، وأصبحت لهم شجون أخرى. ومن يراجع النصوص الأدبية التي كتبت بالعبرية عن الأنين يجد أن هناك احتكاراً صهيونياً للألم رغم أن هناك هولوكوست من طراز آخر هو الهولوكوست الفلسطيني، فالضحية حين تكون تلميذاً نجيباً لجلادها تفقد نُبلها وبلاغتها، لأنها عندئذ لم تتمرد عليه بل تماهت معه وحاولت تقليده وتكراره! فهل بلغت السادية التي يمارسها الاحتلال حداً يصبح فيه الأنين جريمة تستحق الإدانة والعقاب؟ رغم أن الأنين لغة البشر كلهم وليس وقفاً على جنس أو لون، تماماً كما هو الألم والشجن. إن منطق احتكار حق الألم هو ما أنتج حالة السُعار الاستيطاني في فلسطين. وهذا ما يجب التنبيه إليه، لأن الأوراق اختلطت، وهناك من المفاهيم السائدة بفضل الميديا المؤدلجة والمسيسة والمسيرة ما يجب فك الاشتباك بينها. إذ لا يمكن أن يُصَور الاحتلال كما لو أنه في حالة دفاع عن النفس وفي المقابل يُصَور ضحاياه كما لو أنهم المعتدون.
مشاركة :