عبد الرحمن بن عوف.. «الأمين في الأرض والسماء»

  • 2/5/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

محمد حماد لما نزلت الآية‮ الكريمة: من ذا الذي‮ ‬يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له وله أجر كريم‮‬،‮ ‬قال أبو الدحداح الأنصاري‮: ‬وإن الله ليريد منا القرض؟ ‬قال النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم‮: ‬نعم‮ ‬يا أبا الدحداح‮‬،‮ ‬قال‮: ‬أرني‮ ‬يدك‮ ‬يا رسول الله، ‬فناوله رسول الله‮ ‬يده،‮ ‬قال‮: ‬فإني‮ ‬قد أقرضت ربي‮ ‬حائطي( بستاني)،‮ ‬قال‮: ‬وحائطه له فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها،‮ ‬فجاء أبو الدحداح فنادى‮: ‬يا أم الدحداح،‮ ‬قالت‮: ‬لبيك،‮ ‬قال‮: ‬اخرجي‮ ‬من الحائط فقد أقرضته ربي‮.‬ وفي‮ ‬رواية أخرى أنها لما سمعته‮ ‬يقول ذلك عمدت إلى صبيانها تخرج ما في‮ ‬أفواههم وتنفض ما في‮ ‬أكمامهم فقال النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم‮: ‬كم من عذق رداح في‮ ‬الجنة لأبي‮ ‬الدحداح‮.‬ هكذا كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم‮ ‬يسارعون في‮ ‬الخيرات،‮ ‬وقد سمع عبد الرحمن بن عوف رضي‮ ‬الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم‮ ‬يقول له‮: ‬يا ابن عوف إنك من الأغنياء،‮ ‬وإنك ستدخل الجنة حبوا،‮ ‬فأقرض الله‮ ‬يطلق لك قدميك‮‬،‮ ‬ومنذ ذاك الحين، وهو‮ ‬يقرض الله قرضاً حسناً،‮ ‬فيضاعفه الله له أضعافاً،‮ ‬فقد باع‮ ‬يوماً أرضاً بأربعين ألف دينار فرقها جميعاً على أهله من بني‮ ‬زهرة وأمهات المسلمين وفقراء المسلمين،‮ ‬وقدم خمسمائة فرس لجيوش الإسلام،‮ ‬ويوماً آخر ألفا وخمسمائة راحلة،‮ ‬وعند موته أوصى بخمسين ألف دينار في‮ ‬سبيل الله،‮ ‬وأربعمائة دينار لكل من بقي‮ ‬ممن شهدوا بدراً حتى وصل للخليفة عثمان نصيب من الوصية فأخذه وقال‮: ‬إن مال عبد الرحمن حلال صفو،‮ ‬وإن الطعمة منه عافية وبركة‮‬،‮ ‬وبلغ‮ ‬من جود عبد الرحمن بن عوف أنه قيل‮: ‬أهل المدينة جميعاً شركاء لابن عوف في‮ ‬ماله،‮ ‬ثلث‮ ‬يقرضهم،‮ ‬وثلث‮ ‬يقضي‮ ‬عنهم ديونهم،‮ ‬وثلث‮ ‬يصلهم ويعطيهم‮. ‬ هجرات ثلاث هو أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام،‮ ‬عرض عليه أبو بكر الصديق رضي‮ ‬الله عنه الإسلام فما‮ ‬غم عليه الأمر ولا أبطأ،‮ ‬بل سارع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم‮ ‬يبايعه،‮ ‬وفور إسلامه نال حظه من اضطهاد المشركين،‮ ‬فهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى والثانية،‮ ‬كما هاجر إلى المدينة مع المسلمين وشهد المشاهد كلها،‮ ‬فأصيب‮ ‬يوم أحد بعشرين جرحاً أحدها ترك عرجاً دائماً في‮ ‬ساقه،‮ ‬كما سقطت بعض ثناياه فتركت هتماً واضحاً في‮ ‬نطقه وحديثه‮.‬ صلى وراءه النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم في‮ ‬غزوة تبوك،‮ ‬يقول المغيرة بن شعبة‮: ‬عدل رسول الله وأنا معه في‮ ‬غزوة تبوك قبل الفجر فعدلت معه،‮ ‬فأناخ النبي‮ ‬فتبرز ثم جاء فسكبت على‮ ‬يده من الإداوة،‮ ‬فغسل كفيه ثم‮ ‬غسل وجهه ثم حسر عن ذراعيه،‮ ‬فضاق كما جبته فأدخل‮ ‬يديه فأخرجهما من تحت الجبة فغسلهما إلى المرفق ومسح برأسه ثم توضأ على خفيه ثم ركب،‮ ‬فأقبلنا نسير حتى نجد الناس في‮ ‬الصلاة قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم حين كان وقت الصلاة،‮ ‬ووجدنا عبد الرحمن وقد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر،‮ ‬فقام رسول الله فصف مع المسلمين فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية،‮ ‬ثم سلم عبد الرحمن فقام رسول الله في‮ ‬صلاته ففزع المسلمون،‮ ‬فأكثروا التسبيح لأنهم سبقوا النبي‮ ‬بالصلاة،‮ ‬فلما سلم رسول الله قال لهم‮: ‬قد أصبتم‮ ‬أو‮ ‬قد أحسنتم‮.‬ تجارة مباركة وكان رضي‮ ‬الله عنه موفقاً بالتجارة إلى حد أثار عجبه فقال‮: ‬لقد رأيتني‮ ‬لو رفعت حجراً لوجدت تحته فضة وذهبا‮ً‬،‮ ‬وكانت التجارة عند عبد الرحمن بن عوف عملاً وسعياً لا لجمع المال،‮ ‬ولكن للعيش الشريف،‮ ‬وهو الذي‮ ‬أبى أن‮ ‬يأخذ من أخيه الأنصاري‮ ‬نصف ماله حين آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار،‮ ‬فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع،‮ ‬فقال سعد لعبد الرحمن‮: ‬أخي‮ ‬أنا أكثر أهل المدينة مالاً،‮ ‬فانظر شطر مالي‮ ‬فخذه،‮ ‬وتحتي‮ ‬امرأتان،‮ ‬فانظر أيتهما أعجب لك حتى أطلقها وتتزوجها‮‬،‮ ‬فقال عبد الرحمن‮: ‬بارك الله لك في‮ ‬أهلك ومالك،‮ ‬دلوني‮ ‬على السوق‮‬،‮ ‬وخرج إلى السوق فاشترى وباع وربح‮.‬ وتاجر عبد الرحمن بن عوف رضي‮ ‬الله عنه وبارك الله في‮ ‬تجارته كثيراً،‮ ‬وقال عنه بعض المؤرخين‮: ‬كان تاجراً مجدوداً في‮ ‬التجارة وكسب مالاً كثيراً وخلف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومئة فرس ترعى بالبقيع وكان‮ ‬يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً فكان‮ ‬يدخل منه قوت أهله سنة‮.‬ ‮ ‬وكان رضي‮ ‬الله عنه‮ ‬يعرف حق الله في‮ ‬تجارته،‮ فلم تكن تجارته له وحده،‮ ‬وإنما لله وللمسلمين حق فيها. في سبيل الله ‮ ‬في‮ ‬أحد الأيام اقتربت من المدينة ريح قادمة إليها حسبها الناس عاصفة تثير الرمال،‮ ‬لكن سرعان ما تبين أنها قافلة كبيرة تزحم المدينة وترجها رجاً،‮ ‬وسألت أم المؤمنين عائشة رضي‮ ‬الله عنها‮: ‬ما هذا الذي‮ ‬يحدث في‮ ‬المدينة؟،‮ ‬وأجيبت إنها قافلة لعبد الرحمن بن عوف أتت من الشام تحمل تجارة له فعجبت أم المؤمنين‮: ‬قافلة تحدث كل هذه الرجة؟،‮ ‬فقالوا لها‮: ‬أجل‮ ‬يا أم المؤمنين،‮ ‬إنها سبعمائة راحلة،‮ ‬وهزت أم المؤمنين رأسها وتذكرت‮: ‬أما أني‮ ‬سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم‮ ‬يقول‮: ‬رأيت عبد الرحمن بن عوف‮ ‬يدخل الجنة حبواً‮‬،‮ ‬ووصلت هذه الكلمات إلى عبد الرحمن بن عوف،‮ ‬فتذكر أنه سمع هذا الحديث من النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة،‮ ‬فحث خطاه إلى السيدة عائشة وقال لها‮: ‬لقد ذكرتني‮ ‬بحديث لم أنسه،‮ ‬ثم قال‮: ‬أما إني‮ ‬أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في‮ ‬سبيل الله،‮ ‬ووزعت حمولة سبعمائة راحلة على أهل المدينة وما حولها‮.‬ لم يكن ثراء عبد الرحمن بن عوف ‬يبطره بل كان‮ ‬يتخوف من أن‮ ‬يكون قد حرم من فضل الله في‮ ‬الآخرة بما أعطي‮ ‬من فضل في‮ ‬الدنيا،‮ ‬وخوفه هذا جعل الكبر لا‮ ‬يعرف إليه طريقاً،‮ ‬فقد قيل‮: ‬إنه لو رآه‮ ‬غريب لا‮ ‬يعرفه وهو جالس مع خدمه،‮ ‬ما استطاع أن‮ ‬يميزه من بينهم‮.‬ أصحاب الشورى وكان عبد الرحمن بن عوف من الستة أصحاب الشورى الذين جعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‮ ‬الله عنه الخلافة لهم من بعده قائلا‮ً: ‬لقد توفي‮ ‬رسول الله وهو عنهم راض‮‬،‮ ‬وأشار الجميع إلى عبد الرحمن في‮ ‬أنه الأحق بالخلافة،‮ ‬فقال‮: ‬والله لأن تؤخذ مدية فتوضع في‮ ‬حلقي،‮ ‬ثم‮ ‬ينفذ بها إلى الجانب الآخر،‮ ‬أحب إلي من ذلك،‮ ‬وفور اجتماع الستة لاختيار خليفة الفاروق تنازل عبد الرحمن بن عوف عن حقه الذي‮ ‬أعطاه إياه عمر،‮ ‬وجعل الأمر بين الخمسة الباقين،‮ ‬فاختاروه ليكون الحكم بينهم،‮ ‬فقال لأصحاب الشورى‮: ‬هل لكم أن أختار لكم وأنتقي‮ ‬منها،‮ ‬قال علي بن أبي‮ ‬طالب‮: ‬أنا أول من رضي‮ ‬فإني‮ ‬سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم‮ ‬يقول‮: ‬أنت أمين في‮ ‬أهل السماء وأمين في‮ ‬أهل الأرض‮‬،‮ ‬فاختار عبد الرحمن بن عوف عثمان بن عفان للخلافة،‮ ‬ووافق الجميع على اختياره‮.‬ كانت وفاة عبد الرحمن بن عوف سنة إحدى وثلاثين،‮ ‬وقيل‮: ‬سنة اثنتين وثلاثين وهو ابن خمس وسبعين سنة بالمدينة،‮ ‬وأرادت أم المؤمنين أن تخصه بشرف لم تخص به سواه،‮ ‬فعرضت عليه أن‮ ‬يدفن في‮ ‬حجرتها إلى جوار الرسول وأبي‮ ‬بكر وعمر،‮ ‬لكنه استحى أن‮ ‬يرفع نفسه إلى هذا الجوار،‮ ‬وطلب دفنه بجوار عثمان بن مظعون إذ تواثقا‮ ‬يوماً أيهما مات بعد الآخر‮ ‬يدفن إلى جوار صاحبه،‮ ‬ولما حضرت الوفاة عبد الرحمن بن عوف بكى بكاء شديداً فسئل عن بكائه فقال‮: ‬إن مصعب بن عمير كان خيرا مني‮ ‬توفي‮ ‬على عهد رسول الله،‮ ‬ولم‮ ‬يكن له ما‮ ‬يكفن فيه وإن حمزة بن عبد المطلب كان خيرا مني‮ ‬لم نجد له كفناً،‮ ‬وإني‮ ‬أخشى أن أكون ممن عجلت له طيباته في‮ ‬حياته الدنيا وأخشى أن أحتبس عن أصحابي‮ ‬بكثرة مالي،‮ ‬ولكن سرعان ما‮ ‬غشيته السكينة وأشرق وجهه وأرهفت أذناه للسمع كما لو كان هناك من‮ ‬يحادثه،‮ ‬ولعله سمع ما وعده الرسول صلى الله عليه وسلم‮: ‬عبد الرحمن بن عوف في‮ ‬الجنة‮‬،‮ ‬ودفن بالبقيع وصلى عليه الخليفة عثمان رضي‮ ‬الله عنه‮.‬

مشاركة :