محمد حماد لما نزلت الآية الكريمة: من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له وله أجر كريم، قال أبو الدحداح الأنصاري: وإن الله ليريد منا القرض؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله رسول الله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي( بستاني)، قال: وحائطه له فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها، فجاء أبو الدحداح فنادى: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي من الحائط فقد أقرضته ربي. وفي رواية أخرى أنها لما سمعته يقول ذلك عمدت إلى صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح. هكذا كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يسارعون في الخيرات، وقد سمع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: يا ابن عوف إنك من الأغنياء، وإنك ستدخل الجنة حبوا، فأقرض الله يطلق لك قدميك، ومنذ ذاك الحين، وهو يقرض الله قرضاً حسناً، فيضاعفه الله له أضعافاً، فقد باع يوماً أرضاً بأربعين ألف دينار فرقها جميعاً على أهله من بني زهرة وأمهات المسلمين وفقراء المسلمين، وقدم خمسمائة فرس لجيوش الإسلام، ويوماً آخر ألفا وخمسمائة راحلة، وعند موته أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، وأربعمائة دينار لكل من بقي ممن شهدوا بدراً حتى وصل للخليفة عثمان نصيب من الوصية فأخذه وقال: إن مال عبد الرحمن حلال صفو، وإن الطعمة منه عافية وبركة، وبلغ من جود عبد الرحمن بن عوف أنه قيل: أهل المدينة جميعاً شركاء لابن عوف في ماله، ثلث يقرضهم، وثلث يقضي عنهم ديونهم، وثلث يصلهم ويعطيهم. هجرات ثلاث هو أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، عرض عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه الإسلام فما غم عليه الأمر ولا أبطأ، بل سارع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يبايعه، وفور إسلامه نال حظه من اضطهاد المشركين، فهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى والثانية، كما هاجر إلى المدينة مع المسلمين وشهد المشاهد كلها، فأصيب يوم أحد بعشرين جرحاً أحدها ترك عرجاً دائماً في ساقه، كما سقطت بعض ثناياه فتركت هتماً واضحاً في نطقه وحديثه. صلى وراءه النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، يقول المغيرة بن شعبة: عدل رسول الله وأنا معه في غزوة تبوك قبل الفجر فعدلت معه، فأناخ النبي فتبرز ثم جاء فسكبت على يده من الإداوة، فغسل كفيه ثم غسل وجهه ثم حسر عن ذراعيه، فضاق كما جبته فأدخل يديه فأخرجهما من تحت الجبة فغسلهما إلى المرفق ومسح برأسه ثم توضأ على خفيه ثم ركب، فأقبلنا نسير حتى نجد الناس في الصلاة قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم حين كان وقت الصلاة، ووجدنا عبد الرحمن وقد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر، فقام رسول الله فصف مع المسلمين فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية، ثم سلم عبد الرحمن فقام رسول الله في صلاته ففزع المسلمون، فأكثروا التسبيح لأنهم سبقوا النبي بالصلاة، فلما سلم رسول الله قال لهم: قد أصبتم أو قد أحسنتم. تجارة مباركة وكان رضي الله عنه موفقاً بالتجارة إلى حد أثار عجبه فقال: لقد رأيتني لو رفعت حجراً لوجدت تحته فضة وذهباً، وكانت التجارة عند عبد الرحمن بن عوف عملاً وسعياً لا لجمع المال، ولكن للعيش الشريف، وهو الذي أبى أن يأخذ من أخيه الأنصاري نصف ماله حين آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فقال سعد لعبد الرحمن: أخي أنا أكثر أهل المدينة مالاً، فانظر شطر مالي فخذه، وتحتي امرأتان، فانظر أيتهما أعجب لك حتى أطلقها وتتزوجها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، وخرج إلى السوق فاشترى وباع وربح. وتاجر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وبارك الله في تجارته كثيراً، وقال عنه بعض المؤرخين: كان تاجراً مجدوداً في التجارة وكسب مالاً كثيراً وخلف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومئة فرس ترعى بالبقيع وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً فكان يدخل منه قوت أهله سنة. وكان رضي الله عنه يعرف حق الله في تجارته، فلم تكن تجارته له وحده، وإنما لله وللمسلمين حق فيها. في سبيل الله في أحد الأيام اقتربت من المدينة ريح قادمة إليها حسبها الناس عاصفة تثير الرمال، لكن سرعان ما تبين أنها قافلة كبيرة تزحم المدينة وترجها رجاً، وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما هذا الذي يحدث في المدينة؟، وأجيبت إنها قافلة لعبد الرحمن بن عوف أتت من الشام تحمل تجارة له فعجبت أم المؤمنين: قافلة تحدث كل هذه الرجة؟، فقالوا لها: أجل يا أم المؤمنين، إنها سبعمائة راحلة، وهزت أم المؤمنين رأسها وتذكرت: أما أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبواً، ووصلت هذه الكلمات إلى عبد الرحمن بن عوف، فتذكر أنه سمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، فحث خطاه إلى السيدة عائشة وقال لها: لقد ذكرتني بحديث لم أنسه، ثم قال: أما إني أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله، ووزعت حمولة سبعمائة راحلة على أهل المدينة وما حولها. لم يكن ثراء عبد الرحمن بن عوف يبطره بل كان يتخوف من أن يكون قد حرم من فضل الله في الآخرة بما أعطي من فضل في الدنيا، وخوفه هذا جعل الكبر لا يعرف إليه طريقاً، فقد قيل: إنه لو رآه غريب لا يعرفه وهو جالس مع خدمه، ما استطاع أن يميزه من بينهم. أصحاب الشورى وكان عبد الرحمن بن عوف من الستة أصحاب الشورى الذين جعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة لهم من بعده قائلاً: لقد توفي رسول الله وهو عنهم راض، وأشار الجميع إلى عبد الرحمن في أنه الأحق بالخلافة، فقال: والله لأن تؤخذ مدية فتوضع في حلقي، ثم ينفذ بها إلى الجانب الآخر، أحب إلي من ذلك، وفور اجتماع الستة لاختيار خليفة الفاروق تنازل عبد الرحمن بن عوف عن حقه الذي أعطاه إياه عمر، وجعل الأمر بين الخمسة الباقين، فاختاروه ليكون الحكم بينهم، فقال لأصحاب الشورى: هل لكم أن أختار لكم وأنتقي منها، قال علي بن أبي طالب: أنا أول من رضي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنت أمين في أهل السماء وأمين في أهل الأرض، فاختار عبد الرحمن بن عوف عثمان بن عفان للخلافة، ووافق الجميع على اختياره. كانت وفاة عبد الرحمن بن عوف سنة إحدى وثلاثين، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين وهو ابن خمس وسبعين سنة بالمدينة، وأرادت أم المؤمنين أن تخصه بشرف لم تخص به سواه، فعرضت عليه أن يدفن في حجرتها إلى جوار الرسول وأبي بكر وعمر، لكنه استحى أن يرفع نفسه إلى هذا الجوار، وطلب دفنه بجوار عثمان بن مظعون إذ تواثقا يوماً أيهما مات بعد الآخر يدفن إلى جوار صاحبه، ولما حضرت الوفاة عبد الرحمن بن عوف بكى بكاء شديداً فسئل عن بكائه فقال: إن مصعب بن عمير كان خيرا مني توفي على عهد رسول الله، ولم يكن له ما يكفن فيه وإن حمزة بن عبد المطلب كان خيرا مني لم نجد له كفناً، وإني أخشى أن أكون ممن عجلت له طيباته في حياته الدنيا وأخشى أن أحتبس عن أصحابي بكثرة مالي، ولكن سرعان ما غشيته السكينة وأشرق وجهه وأرهفت أذناه للسمع كما لو كان هناك من يحادثه، ولعله سمع ما وعده الرسول صلى الله عليه وسلم: عبد الرحمن بن عوف في الجنة، ودفن بالبقيع وصلى عليه الخليفة عثمان رضي الله عنه.
مشاركة :