دراسة المجتمع من موضوعات التاريخ المهمة، التي تكشف عن المظاهر الحضارية العربية لأي بلد، تلك المظاهر التي أغفلها البحث العلمي التاريخي في الفترات السابقة، ولم تكرس لها جهود كافية للكشف عنها واظهارها، حيث انصب الاهتمام على الجوانب السياسية، واهمال الجوانب الاجتماعية والثقافية والفكرية، لما تحتاجه من جهد، ولقلة المصادر التي يستقي الكاتب منها المعلومات، والتي لايزال اغلبها مخطوط، سواءً منها ماهو بحوزة الأهالي أم كانت لدى المراكز الحكومية التي تفرض قواعد معينة للبحث تصعب من مهمة الباحث، أم وجدت في مكتبات خارج البلاد. انطلاقا من هذه الرؤية تأتي هذه الدراسة المهمة للباحثة د.زينب سهيل "الحياة الاجتماعية في صنعاء ومحيطها.. خلال القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين"دراسة تاريخية"، وتأتي أهمية تناول أوضاع صنعاء ومحيطها الاجتماعي، خلال القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين لتمتع المجتمع اليمنى وبالأخص شماله على مدار الزمن بخصوصية وضعه الاجتماعي، وفقا للباحثة إنه "كان مجتمعًا شبه منعزل ومنغلق عن الأحداث العالمية خاصة في العصر الحديث، فقد حكمت شماله سلالة من الأئمة استمر حكمها لعدة قرون، اتسم بالقوة والضعف من حين إلى آخر، وصاحبه في بداية أمره تدخلات خارجية متمثلة بالدخول العثماني الأول (944-1044هـ/1538-1635م) والوجود المصري (1247-1260هـ/1832-1845م) والدخول الثاني للعثمانيين (1265-1336هـ/1849-1918م) في اليمن، وقيام الأئمة بجمع الأنصار لإخراجهم منها بسبب ماكانوا يرون في حكمهم من ظلم، وما تبع تلك الأحداث من انحصار في بوتقة مغلقة بعيدًا عن كل المجريات التي تحدث في العالم، حتى لا تعود الأمور إلى سابق عهدها، ويعود التدخل في شؤون البلاد مرة أخرى. وهو ما أضاف خصوصية للمجتمع اليمني الذي وصفه البعض بأنه يعود إلى العصور الوسطى. وترد د.سهيل هذا الانعزال يرجع لعدة عوامل منها: أولا سوء الأوضاع السياسية داخل البلاد ومحاولة كل من يدعو إلى الإمامة فرض سيطرته؛ مما أدى إلى حروب مستمرة في البلاد. ثانيا انتشار المجاعات والأوبئة نتيجة لما سبق. ثالثا عدم استفادتهم من تجارب الآخرين مثل: تجربة محمد على في مصر، وبالتالي انعدام تأثرهم بها، والسبب في ذلك هو الإحتكاك معه عند دخوله إلى الجزيرة العربية، والدخول في حروب وصراعات؛ لذلك لم يتم الإفادة من التقدم الذي كانت تخطوه مصر في تلك الفترة. رابعا العزلة التي فرضتها الظروف السياسية.وهذا ما جعل اليمن يعيش في حالة عزلة تامة صبغت المجتمع بسمات - لا زالت إلى حد كبير موجودة ومؤثرة فيه- من عادات وتقاليد في الملبس والمأكل...الخ. ولكن على الرغم من أنّ القرن التاسع عشر كان مليئًا بالصراعات، فإن بعض الأئمة اهتموا بالجانب الإجتماعي؛ فالإمام المنصور علي(1189-1224هـ/1775-1809م) على سبيل المثال اشتهر ببنائه للقصور، وتشييد المباني الخاصة به، أو العامة- كما كان أبوه من قبله - والاهتمام بالأعراس سواء له أو لأبناء أسرته.أمَّا العثمانيون فقد كان لهم دورهم في صبغ بعض عاداتهم على المجتمع اليمنى، نشاهد لها آثارًا إلى اليوم في الأطعمة والعمارة واللغة والملابس. وتشير د.سهيل إلى أن الطابع القبلي المهيمن لعب على الأوضاع في اليمن الدور الأكبر، والأثر الأعم في بقاء الكثير من العادات والتقاليد، فظلت الكثير من المفاهيم الاجتماعية، سائدة في عموم المناطق، خلال القرن التاسع عشر وإلى نهاية حكم آل حميد الدين، ولذلك يمكن رؤية الكثير من العادات والتقاليد، التي تطورت إلى أن صارت احتفالات تقام لها المراسيم، وتطلق لها المدافع، فمن المعلوم أنّ الإسلام قد عُرف فيه عيدان هما: عيد الفطر، وعيد الأضحى؛ ولذلك لا غرابة من إقامة الاحتفالات فيهما، لكن في اليمن كما هو في سائر الدول، وجدت احتفالات أخرى تُعَظَّم، ويحتفل بها مثل الأعياد الدينية، فصارت من الأعياد الرسمية، ومنها: يوم المولد النبوي، والجمعة الرجبية وهي أول جمعة من شهر رجب التي وصل بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) إلى صنعاء عندما بُعث إلى اليمن، وعيد النشور "يوم الغدير". فكل احتفال كان له هيئته ومظاهره، كما وجد في صنعاء والمناطق الأخرى احتفالات أخرى، كانت تصاحب تخرج الطلاب من المدارس الابتدائية والعلمية والعسكرية، وكانت مظاهر هذه الاحتفالات، تتساوى في طريقة تقديمها وهيئتها، ما يقام اليوم، ومن اللافت للنظر، أنها لم توجد بكثرة إلاّ في عهد آل حميد الدين؛ ويمكن إرجاع هذا الأمر إلى أخذهم تقليد هذه الاحتفالات من الأتراك، حيث تعد من البصمات التي تركوها في الحياة الاجتماعية والسياسية، أثناء وجودهم في اليمن. فنجد أنّ جريدة صنعاء، التي كانت تصدر في عهد الأتراك، تذكر الكثير من الاحتفالات وطريقتها، فواصلت جريدة الإيمان خليفتها الأسلوب نفسه في طريقة عرض الاحتفال على صفحاتها، وهو الذي يجعلنا نرجح أنّ هذه الاحتفالات وما كان يقام فيها أو طريقة الإعداد والتجهيز والعرض لها إنما هي من تقاليدهم، والنهج الذي اتبعه الأتراك، عندما كانوا في صنعاء. وتلاحظ أن المجتمع اليهودي في اليمن امتاز بوجود العديد من الأعياد التي كان يحتفل بها كعيد الفصح ويعد من أهم الأعياد لدى طائفة اليهود اليوم الرابع عشر من شهر أغسطس ويسمى أيضًا بعيد الفطير؛ لأن اليهود يأكلون فيه فطيرًا قبل أن يتخمر، لاعتقادهم بأن أجدادهم فعلوا ذلك بعد خروجهم من مصر. أما يوم التكفير والمسمى بيوم كيبور أو الغفران. ويقع في العاشر من أكتوبر/تشرين الثاني من كل عام، وفيه يصوم اليهود ويتعبدون للتكفير عن خطاياهم، أما عيد رأس السنة ويكون في الثامن والعشرين من أكتوبر من كل عام، ويكون احتفالهم بتقديم الذبائح، وأكل بعض الفواكه كالرمان والخضروات كاليقطين (الدُبا)، ولهم أيضًا عيد الحانوكة ويسمى عيد الأنوار أو التدشين ويقع في الخامس والعشرين من كل عام، وعيد المضلة، وعيد يوم التنظيف، وعيد إيخا وهو في التاسع من أغسطس/آب ويعد يوم حداد ويصيام حزنًا على تشرد اليهود، ومن عادة اليهود في هذه المناسبات الاجتماع لدى إحدى الأسر منهم، بمكان كبير يقضونه في الرقص والغناء، أو العزف على الآلات الموسيقية كالطرب والأكارديون، وخلال هذا التجمع يتناولون بعض المأكولات كالكعك المحلى، والجوز اللوز، وقبل الانتهاء من الاحتفال يشربون قليلًا من العرق المحلي المصنوع من الزبيب. كما أنّ لهم يومًا في الأسبوع يحتفلون فيه هو يوم السبت "إذا جاء يوم الجمعة من كل أسبوع هرع اليهود للاستعداد ليوم السبت وأول هذه الاستعدادات تنظيف الدور والمعابد (الكنيس) والثياب والأجسام وكل شيء وقد رأى الكاتب فتاتين يغسلان عتبة الباب بالماء والصابون وإحداهما تنظف ساقية المياه القذرة مابين عتبة الدار والبلوع الخارجي". أما أهل صنعاء القديمة والجديدة فهم ينظفون أرضيات مرافق المنزل ليس بالماء والصابون ولا بالماء وحده، إنما بمخلفات الحيوانات الطرية فهم يفرشونه فوق الأرضيات، وفي رأيهم أنه يمتص التراب العالق بأحجار تلك الأرضيات وبعد ربع إلى نصف ساعة يقومون بكنسه فيجمعونه ويحتفظون به كوقود للتنور وتظل رائحته عالقة لساعات مالم تفتح النوافذ، وقد تحدثت فايان عن ذلك بقولها: "تصل هاجر لترتيب البيت، فتنثر الروث على السلالم والممرات بدل نشارة الخشب، حتى لا يثور الغبار.. وترتفع رائحة قوية، ولكنها ليست كريهة على أية حال.. وتنحني هاجر تكنس بحزمة من الأغصان". يلزم اليهود في أيام سبتهم دورهم وتكون معابدهم مطفأة الأنوار، فلا يظهر لهم أثر في دروب صنعاء، وهم يرتدون أفخر ما لديهم من الملابس، ويشربون خمرًا من صنعهم الخاص، وبالإضافة إلى السبت هناك السبت السابع ويعرف بسبت السبوت أو يوم الخضير، وهناك أيضًا سبت الشهور وهو الشهر السابع، وسبت السنين وهي السنة السابعة، وامتاز يهود صنعاء بحبهم للسرور، وقضاء أكثر أوقاتهم في الرقص والغناء واللعب على بعض الآلات الموسيقية، ولم يكن المسلمون يعترضون على مواكبهم. وترى أن ما ساد في فترة الدراسة من أحداث سياسية واجتماعية وما تركته من آثار إيجابية أو سلبية على مظاهر الحياة الاجتماعية في صنعاء وما انتشر فيها من حوادث وكوارث طبيعية وفوضى داخلية وفساد إداري، مما كونَّ صورة عن الواقع الاجتماعي، غلب عليه صبغة الطابع السياسي، فكلما حاولنا الولوج إلى داخل النظام الاجتماعي، نفاجأ بغلبة الطابع السياسي وتمحوره في كل الأمور، ولكنا بقدر المستطاع حاولنا الخروج بصورة ولو جزئية للأوضاع الاجتماعية، التي لاحظنا أنها لم تتغير كثيرًا، حتى بداية ثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962م والتي تركزت في: أولا اتسمت الحياة الاجتماعية في صنعاء ومحيطها بتعدد الفئات الاجتماعية نسبة إلى تنوع التضاريس الجغرافية التي أدت بالتالي إلى تنوع سمات أهل كل منطقة عن الأخرى فمن الملاحظ أنّ أهل المناطق الجبلية اتسم أفرادها بالنشاط وشدة الحيوية كما اتصفوا بالذكاء والحذر من الغرباء والشك فيهم، وذلك بعكس أهل المناطق الساحلية الذين يميلون إلى الراحة والدعة والسلام، وهذ ما جعل أهل المناطق الجبلية يلجؤون إلى شن الغارات كلما قلت عليهم مواردهم المالية. أمَّا أهل الساحل فقد كان من طبعهم مناصرة الأقوياء، وأكثر ما يدلنا على ذلك أنّ المشعوذين الذين كانت لهم صولات سياسية كان أغلب ظهورهم في المناطق الساحلية. ثانيا تّمكُن القبائل ببطشها من إقلاق أمن وراحة الناس، بسبب تدهور حالتهم المادية، التي جعلتهم يرون في العاصمة هدفًا، يلجؤون إليه للضغط على الإمام لأخذ المال؛ بدليل تهديمهم لبئر العزب التي كانت مليئة بالقصور العامرة، وقتلهم للمشائخ، ووقوع اليمن الأسفل تحت سيطرتهم مدة من الزمن. ويرجع ذلك إلى طبيعة البلاد الجبلية الجافة، التي تجعل اليمنيين يميلون إلى التمرد على السلطة، وإلى محاولة جعل بعض القبائل كأنها دولة داخل دولة. ثالثا استحكام عادة الثأر كعرف لدى القبائل حتى وإن كانت من الموالين للسلطة، وذلك بعدم لجوئها للدولة أو للقضاء أو تهاونها عن قتلاها الذين يقتلون أثناء حروبهم مع الأمام في مواجهة منافسيه، فيلجؤون للتحالف مع قبائل أخرى ضد تلك التي حاربوها للأخذ بثأر قتلاهم. وميل بعض المشائخ للحكم التركي لما كانوا يرونه في البداية من عدل وإنصاف واستقرار في بداية عهدهم، وفي أحيان أخرى لتركهم يتصرفون في القبيلة كيف يشاؤون فليس للدولة سوى المبالغ المقررة على القبيلة. رابعا كان للكوارث الطبيعية دور في تكوين النظام الاجتماعي وليس النظام السياسي فقط، لما لها من أهمية في تحديد المسار الذي يسير عليه المجتمع، بعد حدوث الكوارث من برد وزلازل وأمراض...إلخ، وهذا هو المهم في هذه الأحداث فعلى الرغم من أنها تشكل فترة فوضى للسياسيين، فإنهم لم يتمكنوا من تلافيها؛ وذلك لعدم التخطيط المسبق وخاصة عند انتشار الأوبئة، لعدم توفر البنية التحتية الأولية التي تمكن من تفادي هذه المشاكل أو التقليل منها ومن خطرها، ونتيجة لانغماس الأئمة في حل مشكلاتهم السياسية، ومحاولة الحفاظ على سلطتهم، أصبحوا لا يفكرون كثيرًا في جلب خبرات خارجية خاصة بعد تجربتهم مع الأتراك، حيث اعتقدوا أنّ أحسن وأسلم طريقة لتفادي أي وجود خارجي في اليمن، هو إغلاق أبواب اليمن في وجه أي شخص يأتي من خارجه، حتى وإن كان يحمل الخير للبلاد.إن السبب في كثرة الحوادث والأزمات وانتشار المجاعات في هذه الفترة، يرجع لسوء ولاة الأمر، فما أكثر الأئمة الذين لا يجيدون التصرف في الأمور أو الحكم بروية، وإن وجد الإمام السوي فهنالك الوزير السيء الذي يأكل أموال الشعب.
مشاركة :