كنا وفي وقت ليس ببعيد نقرأ في نتائج الثانوية العامة "لم ينجح أحد"، بينما اليوم بتنا نسمع ونقرأ ونشاهد عبارة "لم يسقط أحد"! وكأننا نقول للطلبة ما عليك سوى أن تذهب وتحضر الحصص لتنجح، اختفى المعنى الحقيقي للنجاح والتنافس، وبات جيل كامل يعتقد بأنه يستحق التقدير والإشادة ليس لأنه فعل شيئا بل لأنه موجود! أردد دائما على طالباتي جملة: "لا تقولي لا أقدر بل قولي لا أريد، لأنه هنالك فرق بين أن تؤمني بأنك غير قادرة، وأنك لا ترغبين في القيام بالمجهود"، كيف سيعرف الطالب أنه يمتلك القدرة إن لم يجرب، ونحن في جزء كبير من مؤسساتنا التعليمية لم نسمح أو نوفر له الفرص لذلك؟! ما يحدث من التركيز على الاختبارات بدلا من اكتساب المعلومات وتجربة كل جديد ومختلف من العلوم الإنسانية والتطبيقية والمهارات والأفكار والآراء، يدفع الطالب إلى التركيز على هدف معين ألا وهو الدرجة ولا شيء آخر! بل إن جلهم بات يتوقع أن المدرس سوف يحدد ما هو المطلوب في الاختبار من المنهج أو يلخص لهم المنهج في ملزمة للمراجعة! أصبح طعم الفشل غريبا عليهم بل لا يعرفون كيفية التعامل معه! نقول لهم الكل ناجح، ولكن هل هذا حقا ما يحدث في الحياة؟ إن لم يتعرفوا على الفشل، وإن لم نتعرف على نقاط ضعفهم ونعمل على معالجتها، وأيضا إن لم نتعرف على نقاط قوتهم ونعززها، يكون كل ما نقوم به هو مجرد هباء وهدر للطاقة الشبابية التي تعتبر الثروة الأساسية للوطن! لا نقول إن الغالبية لديها ضعف وبالوقت نفسه لا نقول إن الغالبية ليس لها نقاط قوة، كل ما نقوله إنه لدى الجميع نوع أو أكثر من الذكاءات المتعددة التي عرفها لنا جاردنر، ما علينا سوى التعرف عليها وتعزيزها، وفي الوقت نفسه نجهز الطلبة على تقبل أنهم قد يفشلون في مجال ما، ولكنهم قد يتميزون في آخر، ولكن المفتاح هنا هو المجهود والإصرار والإرادة، ففي الحياة لا شيء يأتي على طبق من فضة! لنعلمهم بأن الفشل ليس نهاية العالم، فهو يقدم لهم فرص التعرف على المرونة والتعلم من أخطائهم، وبذلك نمهد للنضج الانفعالي من خلال خبرات تسمح بالتعرض لمجموعة واسعة من المشاعر تصقل شخصياتهم وتمدها بالقوة لمواجهة التحديات، وفوق كل ذلك نساعدهم على التعرف على ماهية النجاح الحقيقي وتقديره سواء كان منهم أو من غيرهم، فيجب أن يدركوا أنه في بعض الأحيان قد يكون أفضل ما لديهم ليس كافيا وعليهم تقديم المزيد من الوقت والجهد، وهذا ليس عيبا أو نقصا، بل إنها الحياة لأن الناجحين فيها هم الذين يكافحون بكل ما لديهم من قوة، والناجحون هم الذين يدركون أن للإنجاز ثمنا يكمن في متطلبات وتضحيات مرهقة، كما يجب أن نُعدّهم لكي يتمكنوا من مواجهة التقييم، سواء أتى من الذات أو الغير، وفق معايير صارمة من شأنها أن تجعلهم مؤهلين لتلبية متطلبات تخصصاتهم، وبالتالي متطلبات مهنهم ووظائفهم، فالعالم الخارجي أصبح تنافسيا يصل حد الشراسة وسوق العمل لا يرحم. نحن نتمنى أن يقدم التعليم لدينا فرصا متساوية من أجل أن يصل أكبر عدد ممكن للنجاح والتفوق، ولكن علينا أن ندرك أيضا أنه حتى وإن وجد تكافؤ الفرص هذا لا يؤدي بالضرورة إلى نتائج متساوية، لأن القدرات تتفاوت، فسيظل هنالك من هو الأفضل والأسرع والأقوى والأذكى، فالبشر ليسوا متشابهين، وليس المطلوب أن يكونوا كذلك، في حين أن المطلوب هو تأمين الفرص لكي يصل كل إلى أعلى ما لديه من مستوى القدرات والمهارات. هنا نسأل: "هل هذا الواقع فعلا؟"، كلا، فالمدارس تختلف بنوعيتها سواء كان ذلك في البنية التحتية أو الهيئة التعليمية أو الإدارية أو البرامج الإثرائية المصاحبة إن وجدت، فهنالك شريحة، وهنا أعني التي تنتمي للمدارس الخاصة المميزة وهي قلة، والتي عادة ما تكون أقساطها فوق استطاعة الغالبية، حيث يقدم أفضل ما يمكن من الخبرات للرفع من مستوى الطلبة مهاريا وعلميا وفكريا، وهنالك شريحة لا يقدم لها شيء إضافي سوى التجهيز والتدريب على اجتياز اختبارات الشهادة إضافة إلى أنها ترهق أيضا الطبقة المتوسطة بالأقساط، وهنالك الشريحة الباقية التي تقع ما بين المدارس النموذجية والمدارس المستأجرة المتهالكة التي لا تصلح كمدارس أصلا، فيتفاوت ما يقدم ضمن المناهج الرسمية فقط، أي بناءً على مستوى الهيئة التعليمية والإدارية، وإذا كان كل ما سبق هو الواقع، فعلى ماذا نفرح حين نقرأ اليوم أنه في غالبية المدارس لدينا تظهر النتائج بـ"لم يسقط أحد"! أنا لا أتحدث بأنه يجب أن يسقط العدد الكافي من الطلبة لكي نثق بمنتج التعليم، ولكن بالمقابل أتوقع حين نقرأ عبارة "لم يسقط أحد" ندرك تماما أن المنتج قادر على الولوج إلى سوق العمل أو مؤسسات التعليم العالي ومواجهة التحديات كما هو قادر على التفاعل الإيجابي مع الفشل، مدركا أهمية تقديم أقصى ما يمكن من الجهد والتفاني كثمن يسبق النجاح والتميز. دعونا نعد للنجاح طعمه وقيمته، لقد آن الأوان كي نعترف بأننا لا نعيش في المدينة الفاضلة، فالقرية الصغيرة التي يريدون لنا أن نكون جزءًا منها شرسة لا ترحم، لا نريد مسارح تضج بالتصفيق، أو شهادات تقدير توزع لكل من حضر ولكل من تنفس أو عطس! إن النجاح في الحياة له ثمن والتميز له ثمن والتنافس له ثمن. بالطبع نحن لا نريد جيلا يأكل بعضه البعض بل نريد جيلا متعاونا مترابطا. الخلاصة أننا كمجتمع تربوي مطالبون ببناء جيلٍ قادر على المواجهة واجتياز التحديات، يتعلم من الفشل، ويقدر قيمة النجاح، فبمثل هؤلاء يبنى الوطن.
مشاركة :