طرأت في العقدين الأخيرين تغييرات جسيمة، لم تخطر على بال، على المدينة المنورة، ابتداء من المسح العمراني التطويري الهائل في نواتها، المنطقة المركزية، إلى التدفق الهائل في أعداد الزوار والمعتمرين القادمين إلى الحج والعمرة، وقد أدى هذان التغيران إلى ارتفاع رهيب في أسعار الأراضي وإيجارات المساكن، وإلى انحسار الأراضي الزراعية وتراجعها إلى القرى والهجر، وبالتالي عانت مزارع المدينة من إهمال غير مبرر من قبل وزارة الزراعة ومن تذمر مزارعيها، الذين باتت مزارعهم عبئا مادياً عليهم، فتأخر إنتاج تمور مزارع النخيل التي اشتهرت بها أرض المدينة في ظل وجود منافسين أقوياء، لا قبل لها بهم ولا حسبان، من مناطق أخرى بالمملكة. إلا أن الذي لم يكن في حسبان أهل المدينة حقيقة، هو التشكيك في أصالة تمورهم التي حفظوا عنها بالتواتر كابراً عن كابر. فقد خرج أحد الأكاديميين الباحثين في مجال السنة بحديث، ضج له المجتمع المديني، يدور حول حقيقة عجوة المدينة ولونها، يؤكد أن التمر الأسود الموجود في الأسواق حاليا اسمه «الوزنة»، وأن سعره مبالغ فيه وهو من التمور التي كانت تباع بالوزن وبسعر رخيص لرداءتها، لتصبح طعاما للبهائم وأن لون تمر «العجوة» الحقيقي عسلي وليس أسود. وقد يشكك هذا الحديث في مصداقية بيع عجوة المدينة الحالية وفي صفاتها وشكلها، فيزيد طينة المزارعين والبائعين بلة، وربما قاد ذلك إلى التشكيك في ذممهم المالية. هذا الحديث الذي أثار غضب المزارعين جعل بعضهم ينبري للدفاع عنها وعن هويتها، فهوية عجوة المدينة نبوية الأثر، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم إنه من أكل منها سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح، لم يضره سمّ حتى يمسي. وإذا كان الباحث قد تراجع عن رأيه وقدم اعتذاره للجميع، خاصة لوجهاء المدينة المنورة، لافتاً إلى أنه لم يقصد الإساءة لهم وإنما التحذير من غش بعض الباعة، مشيراً إلى أنه سيتوقف عن النقاش حول عجوة المدينة، فإن الباب مازال مشرعا بل وعلى مصراعيه لكل باحث يريد أن يكون له رأي في فضائل المدينة، فتمرها علاج وهواؤها نقي من الأوبئة وتربتها مباركة وشافية. ولعل الخطوة الكريمة التي أقدمت عليها جامعة طيبة في إنشاء «كرسي خاص بأبحاث نخيل عجوة المدينة المنورة»، بإيعاز من مدير الجامعة الدكتور عدنان المزروع، جزاه الله خيرا، تكون نواة لمركز أبحاث متكامل يضم علماء وباحثين متخصصين، ليس في السنة والفقه فحسب، بل في الطب والصيدلة والجيولوجيا ليوثقوا لنا علميا عن فضائل المدينة من حيث السكنى فيها ومناخها وتربتها ومائها وتمورها، تلك المحبوبة التي دعا لها حبيبها بالبركة قائلا: اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا. اللهم آمين.
مشاركة :