على رغم كلّ الجنون والمعاناة في سورية، أُعطيت الديبلوماسيّة فرصة جديدة في جنيف. ولكن إيّاكم أن تعتبروني من المتفائلين الساذجين، فأنا قلّما أؤمن بقدرة الديبلوماسيّة على وضع حدّ لحرب ضروس. كما أنّني لم أكن متفائلاً على الإطلاق منذ سنتين، عندما عقد مؤتمر جنيف 2. خلال آخر مؤتمر دوليّ استضافته جنيف في كانون الثاني (يناير) 2014 وتلته مفاوضات في مدينة مونترو، في ما عُرِف باسم «جنيف 2»، لم أكن مؤمناً بوجود فرصة، ولو ضئيلة، بحصـــول انفراج. بل كنت أرى، في تلك المرحلة، أنّ كل العناصر المجتمعة في جنيف ضعيفة للغاية ولا يمكنها أن تضع حدّاً للمجزرة الحاصلة. أوّلاً، لم يكن النظام السوري يريد حلاًّ لإنهاء الحرب، وهو بارع جدّاً في التلاعب بالسياسة الدوليّة، ويفهم طبيعة توازن القوى، ويعرف كيف يتجنّب أن يتمّ استهدافه، كما أنّه يحاول دائماً كسب الوقت. ومع ذلك، بقي هذا النظام نفسه يرفض استعمال أيّ من مهاراته الديبلوماسيّة داخليّاً، في وجه قوى معارضة آتية من شعبه وبلاده. إلى ذلك، لم تملك المعارضة السوريّة بحدّ ذاتها فرصاً كبيرة للانتصار، لأنّ القادة السياسيّين كانوا يقيمون في المنفى، ولم يملكوا أيّ رأس مال سياسيّ بين المجموعات المقاتلة. وبالتالي، كانت أيّ تنازلات من قِبلهم - والتنازلات هي جزء من أيّ مفاوضات ديبلوماسيّة - ستُعتَبر «خيانة» بنظر الشباب المقاتل في أرض الميدان. علاوةً على ذلك، بدأت المجموعات المقاتلة في تلك المرحلة تتبع منحى أصوليّاً، وراح تنظيما «داعش» و»النصرة» يكتسبان شعبيّة متزايدة. وكان أمل المعارضة الوحيد يتمثّل بالتدخّل الأجنبي، مع أنّه في العام 2014، أصبح هذا التدخّل الأجنبي عاملاً تسبّب في توسيع نطاق القتال، بدلاً من كبح جماحه. كما أنّ الجهتين الراعيتين لمؤتمر «جنيف 2» - أي واشنطن وموسكو - لم تعربا عن حماسة فعليّة، ولم تعلنا عن أيّ استراتيجيّة موحّدة لإخراج سورية من دوّامة العنف. في العام 2014، تمثّلت المشكلة الرئيسيّة في سورية بما إذا كان يتوجّب على الأسد البقاء أو الرحيل. لكنّ هذه المسألة ما عادت من المشاكل الرئيسيّة في العام 2016، لأنّ الأسد اليوم لم يعد شخصيّة محوريّة في المأساة السوريّة، بل فقط عاملاً بين جملة من العوامل الأخرى. وكانت استراتيجيّة الأسد لقمع الانتفاضة الشعبيّة في العام 2011 تهدف إلى عزلها عن الدعم الدولي، وإلى تحويل الصراع إلى مواجهة مسلّحة بين قوات النظام العليا والمتمرّدين الإسلاميّين. وقد نجح النظام في استراتيجيّته هذه إلى حدّ كبير، ولكنّ تعذّر عليه تحقيق النصر في القتال. واليوم، يفتقر الأسد إلى الموارد البشريّة الضروريّة لمعاودة فرض حكمه الديكتاتوري على سورية. ذلك أنّ عديد الجيش السوري بات يشكّل ثلث ما كان عليه في الماضي، مع تراجع عدد الجنود فيه من 250 ألفاً إلى 125 ألفاً، علماً أنّ صمود النظام يُعزى في شكل خاص إلى الانقسام في صفوف خصومه، وإلى الدعم الكبير الذي يحصل عليه من إيران وروسيا. وقد تبدّلت الأمور أيضاً في صلب المعارضة. فبادئ ذي بدء، اجتمع القادة السياسيّون والميدانيّون في الرياض وأنشأوا وفداً مشتركاً. وبهذه الطريقة، أُلغي التناقض القائم بين المتفاوضين والمقاتلين، الذي كان متجلّياً للعيان في «جنيف 2». والأهم من ذلك هو أنّ المعارضة السوريّة والقوى المتمرّدة اليوم ليست متوهّمة في شأن احتمال دخولها كفريق منتصر إلى دمشق، كونها مقسّمة وتعتمد على الأموال والإمدادات الأجنبيّة. وإلى جانب تصدّيها للنظام وحلفائه، تواجه المعارضة معضلتي مجموعتي «داعش» في الشرق و «النصرة» المرتبطة بتنظيم «القاعدة» في الغرب. وبالتالي، أفضل أمل تملكه المعارضة هو وقف النزف اليومي لدماء الشعب السوري، وتحرير البلدات المحاصرة، والمباشرة في عمليّة سياسيّة. وكذلك، باتت قيود التدخّلات العسكريّة الخارجيّة ظاهرة للعيان، مع وصول تركيا إلى حائط مسدود، بعد أن قدّمت دعماً هائلاً للمجموعات المقاتلة الإسلاميّة، لأنّ مطالباتها «برحيل الأسد» لم تلقَ آذاناً صاغية، ولأنّها عجزت عن تحقيق هدفها الثاني، المتمثّل بإنشاء منطقة حظر طيران في شمال سورية، أي بكلام آخر منطقة من التواجد التركي المباشر. وكذلك، كانت القوى الأوروبية تتصرّف، في العام 2014، وكأنّ مشكلة سورية هي مسألة سياسة خارجيّة. بيد أنّ هذه المشكلة السوريّة اجتاحت مساحتها الداخليّة في العام 2015، وسبّبت لها مشاكل كبرى، بعد أن كشف هجوم «داعش» المزدوج على باريس أمراً محتّماً، وهو أنّ وقف العنف في الشرق الأوسط مستحيل خارج جدران «الحصن الأوروبي»، وبعد أن أثبتت موجات اللاجئين اليائسين، وجود قيود على العمل بالقيم الكونيّة التي تعتمدها أوروبا، بعد أن عجزت المستشارة الألمانيّة المتعاطفة، حتّى هي، عن إظهار تضامنها لوقت طويل، وأظهرت القيادة الروسيّة، التي بدت وكأنّها تحقّق نجاحات ميدانيّة كبيرة لبعض الوقت، أنّها تعرف قيود اللعبة، وتدرك أنّ فعاليّة قوّاتها الجوّية سرعان ما ستصبح محدودة، إن تمّ تزويد المتمرّدين بصواريخ مضادّة للطائرات، كما حصل في الهجوم الكبير الذي شنّه الجيش السوري في ربيع العام 2015، والذي تمّ كبحه عبر تزويد المتمرّدين بآلاف صواريخ «تاو» المضادّة للدبّابات. واللافت هو أنّ تنظيم «داعش»، الذي ظهر فجأة في العام 2014، بلغ أقصى قدراته. فبعد الانتصارات المذهلة التي حقّقها، ها أنّه يتكبّد الخسائر المتتالية، في كلّ من كوباني، وتل أبيض، وسنجار، والرمادي. ومع أنّ «داعش» لا يزال قادراً على إظهار وحشيّته عبر صلب السجناء في ساحة الرقّة، من المستبعد أن يقلب هذا التنظيم موازين القوى ميدانيّاً. فمع تورّطه في الكثير من المعارك ومواجهته لعدد كبير من القوى المحلية والدولية، أصبحت احتمالات إنشائه إمارة صحراويّة مقوَّضة إلى حدّ كبير. في العام 2014، ساد اقتناع لدى شتّى الأطراف المحلية والدولية في سورية بأنّ الوقت يخدم مصلحتها، وكانت مصرّة على أنّها قادرة على تحقيق النصر. أمّا اليوم، فتجلّت قيود المنطق العسكري للعيان، وتبيّن أنّ الحرب في سورية تؤذي الجميع. ولا تزال الجهات المجتمعة في جنيف تملك خياراً بمواصلة القتال، أو باتّخاذ قرارها، أخيراً، بسلوك درب المحادثات والبحث عن تسوية. * كاتب لبناني من أصل أرمني
مشاركة :