سيطرت المؤشرات الحمراء على كثير من البورصات العالمية في أعقاب أزمة انهيار بنك "سيليكون فالي"، حيث تخوفت الأسواق من تأثير "نظرية الدومينو" بمعنى سيادة حالة من الهلع بين المودعين في بنوك كثيرة تؤدي لإفلاس عدد منها بما يؤثر على النظام المالي في أقوى اقتصاد في العالم: الأمريكي. والشاهد أن السوق الأمريكية هوت بنسبة 2% يوم الجمعة العاشر من مارس، في أسوأ يوم منذ الإعلان عن انتهاء جائحة كورونا رسميًا، منذرة بعاصفة في سوق الأسهم، وترقب غالبية المتعاملين لأزمة مالية جديدة تنطلق من الولايات المتحدة، وبدأت مخاوف الأزمة المالية العالمية في الظهور مجددًا. لماذا القلق على الشركات الناشئة؟ غير أن التطمينات الرسمية آتت أكلها سريعًا إلى حد ما -حتى الآن- بفرض حالة من الاستقرار في الأسواق المغلف بالترقب والحذر، ليبقى التساؤل عن تأثير الأزمة مستقبلًا على الأسواق، وخاصة على الشركات الناشئة. والذي يدفع للتساؤل عن تأثير الأزمة على الشركات الناشئة تحديدًا هي حقيقة أن بنك "سيليكون فالي" كان يسمى بـ"صديق الشركات الناشئة"، ويأتي انهياره مسبوقًا بانهيار بنك "سيلفرجيت" الذي يشارك بتوسع في العملات الرقمية والشركات الناشئة في هذا المجال، متبوعًا بانهيار بنك "سجنتشر" الذي يأتي في المرتبة 21 من حيث الحجم في الولايات المتحدة وأجبرته واشنطن على إغلاق أبوابه. وفي هذا الإطار، قدرت السلطات الأمريكية حجم "الأصول عالية المخاطر" أو تلك التي حظيت بخسائر كبيرة بحوالي 750 مليار دولار، ونصيب بنك "ميريل لينش" العملاق حوالي 100 مليار دولار، وهو رقم كبير ولكن الأكثر خطورة هو أن حجم بعض الأصول الرديئة لدى بعض البنوك يقارب حجم رأس المال، وإن كانت هذه البنوك قليلة بما يبعث بعض الطمأنة بإمكانية عزل بعض حالات الإفلاس عن التأثير السلبي على باقي المشهد المالي. وعلى الرغم من أن السلطات الأمريكية حتى الآن لم تعلن عن نتائج تحقيقاتها في إفلاس المصارف الثلاثة (سيلفرجيت، وسيليكون فالي، وسجنتشر)، فإن الترجيحات تشير إلى أن أيًا منها لا يرتبط بالاستثمار في الشركات الناشئة، فالأول بسبب الاستثمار في العملات الرقمية تحديدا، والاثنان الآخران بسبب ما وصفته مصادر بـ"غياب الشفافية". تأثير مباشر وبرغم ذلك فإن الترجيحات تشير إلى تأثر الشركات الناشئة وتمويلها، ولذلك انتشرت على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي للكثير من الشركات الناشئة عبارة متكررة، مضمونها أن "الشركة في وضع مالي صلب رغم وجود ودائع في "سيليكون فالي" أو عبارة أخرى: "الشركة ليست لديها مساهمات في البنك المفلس"، في محاولة لطمأنة المتعاملين بمحدودية تأثير انهيار البنك عليها (بما يبدو لدى البعض أنه تأكيد لعبارة أن نفي النفي إثبات). ففي مجال العملات الرقمية فإن شركات مثل "ريبل" و"بانيترا" و"سيركل" و"بلوك فاي" وغيرها من الشركات الرائدة في العملات الرقمية أصبحت مهددة بخسارة جزء من ودائعها في البنك الصديق، حيث تأتي من بين 32 ألف مؤسسة صغيرة لديها ودائع أكبر من 250 ألف دولار في بنك "سيليكون فالي" المفلس. والشاهد أن 90% من الشركات الناشئة لا تستطيع إكمال عامين، وأن نصفها يغلق أبوابه خلال العام الأول، والسبب الأول لدى قرابة 80% من تلك الشركات للفشل هو العجز عن توفير التمويل الملائم للمشروعات المزمع العمل عليها، أو توفير التمويل بشروط سيئة تعجز الشركات عن العمل بها. ومع زيادة المخاطر المتعلقة بالشركات الناشئة قبل إفلاس البنوك، بسبب ارتفاع سعر الفائدة من جهة، وبسبب ضبابية المشهد الاقتصادي العام عالميًا من جهة أخرى، فإن الشركات الناشئة ستعاني بصورة أكبر من أجل الحصول على تمويل عن طريق القروض أو المشاركة أو عبر "المستثمر الملاك" (الذي يتبنى فكرة الشركة ويضخ فيها استثمارات كبيرة تنقلها لمستوى أعلى). قلق أمريكي - عالمي وكشفت "وول ستريت جورنال" عن توجهات قوية في الإدارة الأمريكية من أجل تقييد "رأس المال المغامر" وذلك من خلال زيادة سلطة الفيدرالي في الرقابة على البنوك، ولا سيما البنوك المتوسطة والمحلية والتي لا تحظى بنفس الدرجة من الاهتمام، ليصبح التقييد المحتمل على تمويل الشركات الناشئة رسمي الطابع مع قيود السوق أيضًا. ويمتد القلق من هذا الاتجاه خارج الولايات المتحدة، فبنك "سيليكون فالي" كان يعمل في الاقتصادين الأوروبي والصيني أيضًا (يوفر القروض ولكنه لا يستقبل الودائع)، لذا فإن استطلاعًا للرأي كشف أن أكثر من 50% من الشركات الصينية الناشئة تشعر بالقلق من تأثير انهياره المباشر وغير المباشر على أعمال تلك الشركات مستقبلًا. وهنا يجب التنويه على أن الشركات الناشئة في الصين ليست رأس مال مغامر كما هي الحال في الولايات المتحدة (على الأغلب)، ولكنها شركات تجارية وصناعية صغيرة ومتوسطة تشكل رافعة الاقتصاد الصيني للنمو، بينما يشكل الأخير أداة النمو الرئيسية للاقتصاد العالمي. وبشكل عام كشفت الشركات الناشئة في الولايات المتحدة عن وجود ودائع تزيد قيمتها على 4 مليارات دولار إلى جانب تسهيلات ائتمانية مختلفة لدى البنك، في مقابل حجم أقل كثيرًا في أوروبا بـ190 مليون دولار فحسب، وتقديرات بمبالغ مساوية تقريبًا في أستراليا التي ينشط بها البنك المفلس. "أمنيات" الفائدة ويقول "دامين بوي" كبير محللي استراتيجيات الأسهم في بنك "بارينجوي" الاستثماري في سيدني: "بدأ التدافع على البنوك وسوق ما بين البنوك واقعة تحت ضغط"، مشيرًا إلى أن الأمل الوحيد للشركات الناشئة هي ألا يواصل البنك الفيدرالي سياسته برفع الفائدة. فبغض النظر عن اتباع الفيدرالي الأمريكي لـ"تمنيات" كثيرين في السوق بعدم رفع الفائدة (كما توقع 50% من المتعاملين في الأسواق وفقًا لاستطلاع) من عدمه فإن الفيدرالي سيضطر في المدى القريب للموازنة بين رغبته في تقييد التضخم باستخدام أداة سعر الفائدة ومحاولته عدم التسبب في أزمة انهيار لبنك أمريكي جديد. فكما هو معلوم أن انهيار "سيليكون فالي" جاء بسبب استثماره في السندات الأمريكية التي تدنت قيمة المخزون القديم منها (قبل رفع أسعار الفائدة منذ مارس 2022)، فضلًا عن تقديمها لعائد يقل عن سعر الفائدة الذي يمنحه البنك للمودعين. وعلى الرغم من أن البنوك الأخرى ليس لديها نفس الحصة من رأس المال في سوق السندات كما هي الحال لـ"سيليكون فالي" (أكثر من 50% في سوق السندات)، ولكن المزيد من الرفع سيؤدي للمزيد من الخسائر لكافة البنوك الأمريكية التي تستثمر نسبًا في السندات، ويزيد من الضغط على القطاع المصرفي بعد أزمة انهيار "سيليكون فالي". وبغض النظر عما ستؤول إليه أزمة "سيليكون فالي" (ومعها سيلفرجيت وسجنتشر) وعدم ارتباطها بشكل مباشر بالشركات الناشئة، فإن الإجراءات والقلق الذي سيعقبها سيحد من تمويل تلك الشركات، وقد يكون هذا أمرًا إيجابيًا من جهة بفرض المزيد من التدقيق على التمويل وتجنب المغامرات غير المحسوبة، لكنه قد يكلف الاقتصاد تكلفة الفرصة الضائعة بفقدان مبادرات قد تسهم في عمل حالة من الرواج التي تدعم تحركه سريعا نحو الاقتصاد الرقمي.
مشاركة :