مع استمرار تعافي الاقتصاد العالمي من الصدمات التي تعرض لها بعد جائحة كورونا؛ حقق حجم التجارة العالمية مبلغًا إجماليًّا قياسيًّا بلغ 32 تريليون دولار في عام 2022. لكن بالنسبة إلى عام 2023، فإنه وسط مخاوف من حدوث ركود في الاقتصادات الكبرى، توقع «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية»، (الأونكتاد)، «نظرة قاتمة»، في ظل «التوترات الجيوسياسية، وارتفاع أسعار الطاقة، ورفع أسعار الفائدة، والتضخم المستمر»، والتي من المرجح أن «تقيد التجارة العالمية». وفي تأييد لهذا، أكدت «ماريان بيتسنجر»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، أن التجارة العالمية خلال العام الحالي، تواجه «تحديات متعددة»، مشيرة إلى الأهمية المتزايدة لـ«إعادة ضبط العولمة، واضطرابات سلاسل التوريد، والمنافسة بين القوى العظمى، وكذلك كيفية تأثر مستقبل التجارة الدولية بتحول الاقتصادات الرائدة نحو التقنيات الخضراء والرقمنة». وعلى الرغم من ارتفاع حجم التجارة العالمية بنسبة 12% في عام 2022، إلا أن توقعات «منظمة التجارة العالمية»، لمستوى نمو التجارة عام 2023، جاءت «ضعيفة» مع تأكيد أن «الصدمات المتعددة»، لا تزال «تؤثر في الاقتصاد العالمي». وأشار «كينيث روجوف»، من «مجلس العلاقات الخارجية»، إلى أن «اقتصادات الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، ومنطقة اليورو تعاني من «تضخم متزايد»؛ نظرًا إلى أن البنوك المركزية التي «انتظرت وقتًا طويلاً لرفع أسعار الفائدة مع تراكم التضخم»؛ تتدافع الآن للسيطرة على الوضع من دون دفع اقتصاداتها إلى ركود عميق». وعليه، توقعت «المنظمة» أن الطلب على الواردات في هذه الأسواق، سيكون «ضعيفا»؛ جراء انخفاض إنفاق الأسر، وارتفاع تكاليف التصنيع. ويبرز في تحليل اتجاهات التجارة العالمية في السنوات القادمة، مفهوم «إعادة ضبط العولمة»، وهي عبارة استخدمتها «نغوزي إيويالا»، مديرة «منظمة التجارة العالمية». وأشار «مولي سميث»، و«فينس جوللي»، من «وكالة بلومبرج»، إلى أنها «نظام تقوم من خلاله الشركات متعددة الجنسيات بتكوين شبكة تجارية لاستيعاب التحديات الاقتصادية والجيوسياسية الجديدة». ورأت «بيتسنجر»، أنها «أفضل وصف للنمط الحالي والمستقبلي المحتمل للتكامل الاقتصادي، وتدارك الانقسامات عبر الاقتصادات المختلفة»، مؤكدة أن العولمة نفسها لا تزال فكرة «مستمرة»، تؤكد الروابط التجارية الإقليمية الأقرب، وتشكيل تكتلات اقتصادية تتسم بأنها «حساسة» للمنافسة، و«مهمة من الناحية الاستراتيجية». وكما أوضح «نيل شيرينج»، من مجموعة «كابيتال إيكونوميكس»، فإن الاقتصاد العالمي «ينقسم إلى كتلتين إحداهما مع الصين، والأخرى مع الولايات المتحدة». وأظهرت «منظمة شنغهاي للتعاون»، الكتلة الأولى منها، والتي تضم «روسيا، والهند، وباكستان، والعضوية الإيرانية المحتملة»، والتي شبهها «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» بـ«الناتو المارق»، نظرًا إلى موقفها المعادي للغرب. وتحدث «لاري إليوت»، في صحيفة «الجارديان»، عن «تجزئة الاقتصاد العالمي» في وصفه الاجتماع السنوي لـ«صندوق النقد الدولي»، في أكتوبر 2022، حيث كانت أمريكا معترضة على سياسة إنتاج النفط السعودي، وكانت الهند «غير راضية»، مع ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، فيما وُصفت العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة، والصين، بأنها «فاترة». ومع إشارة «شيرينج»، إلى أن المنافسة بين القوى العظمى التي تزيد في العلاقات التجارية، «ستقود إلى تحولات في سلاسل التوريد، وتقليل تدفقات التكنولوجيا والاستثمار»، بين الكتلتين السابق الإشارة إليهما؛ فإن «الاعتبارات الجيوسياسية» من المقرر أن تلعب «دورًا أكبر في السياسة الاقتصادية». وفي حين رأت «بيتسنجر»، أنه من «غير المحتمل» أن يسعى أعضاء الكتلة الاقتصادية الغربية إلى «تكامل طموح وعميق لأسواقهم»؛ فقد أشارت إلى احتمالية تركيزهم على بناء سلسلة توريد مرنة، وتقليل اعتمادهم الاقتصادي على الصين. ومع تأكيد المنافسة الاقتصادية والتجارية المباشرة بين «واشنطن»، و«بكين»؛ باعتبارهما أكبر اقتصادين في العالم، أشار «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، إلى احتلال الأخيرة مكان الأولى خلال العشرين عامًا الماضية. وفي حين أنه عام 2001 -عندما انضمت «بكين» إلى منظمة التجارة العالمية – كان لدى 80% من الدول حول العالم تبادل تجاري مع أمريكا؛ فإنه بحلول عام 2018، انخفض الرقم إلى 30% فقط، وفي عام 2020 تفوقت الصين على الولايات المتحدة، باعتبارها الشريك التجاري الأكبر للاتحاد الأوروبي. وأقرت «جينا ريموندو»، وزيرة التجارة الأمريكية، بأنه «ليس سرا» أن أمريكا منخرطة في «منافسة عالمية شديدة مع الصين»، وأن التكنولوجيا، في عام 2023 وما بعده، هي «جوهر» هذه المواجهة. وفي ظل تصاعد التوترات التجارية العالمية، فرضت «واشنطن»، قيودًا اقتصادية على العلاقات المالية بين الشركات في أراضيها، ومثيلاتها في الصين، وأبرزها ما يتعلق بصناعة «أشباه الموصلات». وفي عصر التقدم التكنولوجي، أصبح دور هذه الصناعة والوصول إليها مصدرًا للمنافسة والارتياب بين «بكين»، و«واشنطن». وأوضحت شركة «ماكينزي»، أنه في حين صنعت الأخيرة خلال التسعينيات ما يقرب من 40% من أشباه الموصلات في العالم، فقد انخفض هذا حاليا إلى 12% فقط. ومع نقص الإنتاج خلال عام 2021، أثر ذلك في النمو الاقتصادي، «بحوالي ربع تريليون دولار». وفي إدراك لذلك، أشار «مات شيهان»، من «مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي»، إلى فرض «إدارة بايدن»، في أكتوبر 2022 قيودًا على وصول الصين إلى أشباه الموصلات غربية الصنع، والتي كان لها تأثير في حرمانها من «القوة الحاسوبية التي تحتاجها لتدريب الذكاء الاصطناعي (AI)». وبالمقارنة، سيوفر «قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم الأمريكي» الصادر في أغسطس 2022، مبلغ 52 مليار دولار أمريكي للبحث والتطوير وتصنيع أشباه الموصلات. وفي حين تمت الإشارة إلى أن هذه السياسة «من المحتمل أن يكون لها تأثير بالغ على وصول «الصين»، إلى أشباه الموصلات المتقدمة»، وكذلك «قدرتها على صنعها في الداخل»؛ فإن الولايات المتحدة تسعى إلى استعادة أسبقيتها بالسيطرة على تقنيات وموارد الحوسبة المتقدمة. وعلى الرغم من استمرار التصعيد في العلاقات التجارية بين الكتلتين، فقد أصرت «بيتسنجر»، على أن «الانفصال الكامل»، عن الصين من قبل الدول الغربية «غير قابل للتحقيق، ولا مرغوب فيه». وبدلاً من ذلك، توقعت «درجات متفاوتة من «عدم التكامل»، على أساس الأمن القومي، وحماية «القطاعات الحساسة»، مثل التقنيات المتقدمة، والمستحضرات الصيدلانية، واستخدام المواد الخام. ومع ذلك، لا يمكن التقليل من أهمية المخاطر الاقتصادية للصين، وتداعياتها بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ودورها الريادي في الاقتصاد العالمي. وأوضح «هوارد فرينش»، من «جامعة كولومبيا»، أنه على الرغم من كل «نجاحاتها» لتصبح واحدة من أكثر دولتين تأثيرًا في العالم، فلقد حققت «بكين»، «نتائج متواضعة جدًا في تحديد نشاطاتها الاقتصادية المستقبلية، التي يجب الاهتمام بها وتعزيز قطاعاتها». وبدلا من أن تكون شركات الطيران التجاري، والمعالجات، والمشغلات الدقيقة «الأقوى اقتصاديًا عالميًا»، أوشكت على الإفلاس»، وطلبت دعمًا ماليًا حكوميًا للبقاء مستمرة. وفي ضوء التنافس الاقتصادي بين البلدان، أشارت «بيتسنجر»، إلى أن هناك دولا «لا تريد أن تختار جانبًا ما»، بالنظر إلى المزايا والمكاسب الواضحة للحفاظ على العلاقات مع كليهما. وينطبق هذا الأمر على عديد من دول الشرق الأوسط، بما فيها دول الخليج التي استفادت من كون «الصين»، أكبر شريك تجاري، كما مكّنتها علاقاتها الأمنية مع «الولايات المتحدة»، من تعزيز أمنها الإقليمي. وبالنسبة إلى منطقة الشرق الأوسط، فإنه بينما أشار مؤتمر (أونكتاد) إلى أن «معدلات النمو التجارية الكبرى» خلال عام 2022، كانت «ترجع إلى ارتفاع قيمة تجارة منتجات الطاقة وصادراتها»؛ توقعت «منظمة التجارة العالمية»، أن حجم الصادرات السلعية غير البترولية عام 2023، ستشهد انخفاضًا طفيفًا، على الرغم من توقع نمو حجم الواردات بالمنطقة ذاتها بنسبة 5.7%. وفي ظل هذه الديناميكيات، أشار «فيليكس تشانغ»، من «معهد أبحاث السياسة الخارجية»، إلى سعي كل من الصين، وتركيا، و«معظم مناطق دول آسيا الوسطى»، و«القوقاز»، إلى إنشاء ممر أوسط تجاري يربط بين شرق آسيا وأوروبا»، يجنب تلك الدول مناطق النفوذ والهيمنة الروسية والأمريكية، ويمر عبر «كازاخستان، وجورجيا، وأذربيجان، وتركيا»، والذي شبهه بـ«طريق الحرير القديم»؛ حيث إن لديه القدرة على «تحويل مسار التجارة عبر أوراسيا»، عن طريق تقليل الاعتماد على التجارة البحرية. ومع ذلك، فإن إنشاء هذا الطريق قد تعطل بسبب «التدابير الروتينية»، والإجراءات المتعلقة بالجمارك والتعريفات والرسوم عبر العديد من البلدان، ناهيك عن أن حجم التجارة عبره أقل بكثير من تلك الموجودة في «الممر الدولي للنقل بين الشمال والجنوب»، والذي يعد طريقا سريعا ورخيصا. وفي حين أن قدرة الممر الأوسط عام 2020 على النقل بلغت حوالي 10 ملايين طن من البضائع؛ تم نقل بـ 144 مليون طن أخرى عبر السكك الحديدية السيبيرية في العام ذاته. وبالنسبة إلى دول الشرق الأوسط، لا سيما التي تصدر النفط إلى مناطق شرق آسيا والدول الغربية، لا تزال حماية طرق وسلاسل الإمداد «مسألة ضرورية». وأشار «المنتدى الاقتصادي العالمي»، إلى أن «سلاسل التوريد المرنة، والأسواق المفتوحة»، ستكون «حاسمة لضمان الوصول إلى المواد الخام» للدول، بالإضافة إلى ضمان تنفيذ إجراءات نحو «إزالة الكربون من سلاسل القيمة العالمية بالنسبة إلى الاقتصادات الرائدة. واتساقا مع هذا، أوضح مؤتمر (أونكتاد)، أن «تطور سلاسل التوريد العالمية»، يمكن أن يؤثر في أنماط التجارة وطرق تكيفها مع التغيرات المناخية خلال عام 2023، بسبب الشكوك حول تنويع الموردين لمصادر الطاقة بشكل تدريجي. وأكد «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، أن الاضطرابات التي طالت الموانئ في الولايات المتحدة والصين، والتي تعود إلى عام 2020، قد «تم حلها في الغالب»، وهو ما سمح بتدفق أكثر كفاءة للتجارة من أكبر اقتصادين عالميا. من جانبه، أشار «بيتر تيرشويل»، من وكالة «إس آند بي جلوبال»، إلى أن هناك «مؤشرات قوية» على أن الاقتصاد العالمي، يتجه نحو تخفيف «أكبر لاضطراب سلاسل إمداد الشحن بالحاويات. ومع ذلك، حذرت «بيتسنجر»، من أن أكبر التهديدات لسلاسل الإمدادات التجارية العام الحالي، هي «التغيرات المناخية القاسية». وحث «الأونكتاد»، على زيادة الاستثمارات من أجل «تعزيز القدرة على الصمود في مواجهة الأزمات المستقبلية»، سواء كانت طبيعية أو جيوسياسية. علاوة على ذلك، هناك عوامل ديناميكية أخرى قد تؤثر في مستقبل التجارة العالمية، مثل الجهود الدولية لتطوير اقتصاد عالمي أكثر اخضرارًا واستدامة بيئيًا، وهو عامل أوضح «الأونكتاد»، أنه «يحفز الطلب على المنتجات المستدامة بيئيًا، «وتقليل مستويات الطلب على الوقود الأحفوري». وسلط «مونكيلبان» و«كار»، الضوء على كيف تُشكل التجارة «إحدى الركائز الرئيسية» للخطة الخضراء للمفوضية الأوروبية، الذي أكدت رئيستها «أورسولا فون دير لاين»، «أن التجارة والمنافسة مفتاح لتسريع وتيرة اللجوء للتكنولوجيا النظيفة، وتحسين درجة الحياد الكربوني المناخية». فيما سعى وزراء التجارة الأوروبيون إلى إطلاق تحالف عالمي قوامه 50 طرفًا بشأن المناخ، والذي أكد «المنتدى الاقتصادي العالمي»، أنه «سيوفر توجيهًا سياسيًا من أجل «تعزيز التعاون الدولي»، بشأن التجارة والمناخ والتنمية المستدامة». ومع ذلك، فإن التوترات في هذا المجال داخل التحالف الغربي تظل جديرة بالملاحظة. وواجه «قانون خفض التضخم»، لإدارة بايدن لعام 2022 معارضة أوروبية؛ نظرًا إلى أن استثمارات «واشنطن»، المخطط لها بقيمة 369 مليار دولار والمخصصة للتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة؛ تترك تلك الدول قلقة من «خسارتها الكثير من الوظائف، والاستثمارات التي قد توفرها الولايات المتحدة لها، في حال تم هذا التحول بشكل فوري دون تعاون مشترك». وبينما أشاد نائب رئيس موظفي البيت الأبيض «جون بوديستا»، بالقانون، باعتباره يساعد في «تحول الاقتصاد العالمي بحجم ونطاق واسع وبشكل فجائي»؛ حذر الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، من أنه يهدد بـ«التأثير في الغرب»، والوفاء بتعهدات الانبعاثات الكربونية الصافية الصفرية بشكل تدريجي. على العموم، هناك عديد من التحديات والضغوط الكبرى حول أنماط التجارة وتغيرها، بما في ذلك التجزئة الاقتصادية للأسواق، ومنافسة القوى العظمى، ومشاكل سلاسل التوريد، والاستدامة وغيرها. وفي حين أن زيادة التعاون بين الدول يمكن أن يطور بدوره أنظمة مالية «أكثر شمولاً واستدامة»، ومرونة، بالإضافة إلى «زيادة معدلات النمو الاقتصادي»؛ يبقى أن نرى ما إذا كانت الصدمات الجيوسياسية أو الاقتصادية الكبرى ستسبب مرة أخرى قلقا بشأن أنماط التجارة العالمية، وعملية تحولها للتكيف مع التغييرات المناخية أم لا؟
مشاركة :