على الرغم من الصدمة التي أحدثها خبر إصابة الروائي الأميركي «بول أوستر» بالسرطان، وفق ما نشرته زوجته الكاتبة سيري هوستفالدت على حسابها في «إنستغرام»، فإن منجزه السردي المتميّز مستمر في إذكاء نار الجدال على مختلف المنابر الإعلامية في الولايات المتحدة وغيرها، عبر ما أثاره كتابه الأخير «أمة حمام الدماء» الذي أطلقه مطلع هذه السنة. نزل خبر إصابة أوستر بالسرطان كالصاعقة، ليس فقط بسبب خطورة هذا المرض؛ بل لأن طريقة إعلان زوجته للخبر لم تخل من يأس ظاهر من إمكانية شفائه. وهو تشاؤم قد يكون مبرراً بسبب الحالة الصحية لأوستر المستمرة في التدهور منذ شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي. تقول هوستفالد: «غبت فترة عن (إنستغرام) بسبب تشخيص إصابة زوجي بالسرطان في ديسمبر، وهذا بعد أشهر قضاها مريضاً. هو الآن يتلقى العلاج في مستشفى (سلون كترينج) في نيويورك، وقد عشت هذه الفترة في مكان أسميته (أرض السرطان). أرض عبر حدودها أشخاص كثيرون، إما لأنهم كانوا مرضى، وإما لأنهم يحبون شخصاً ما أصيب بالمرض... بعض هؤلاء ينجون من المرض لكن البعض الآخر يموت. حقيقة يعرفها الجميع، ومع ذلك فإن العيش بالقرب من تلك الحقيقة يغير الواقع اليومي». غلاف «أمة حمام الدماء» وفي محاولتها الإفصاح عن الحالة النفسية التي تعيشها مع زوجها بول أوستر، تضيف سيري هوستفالد في منشورها: «أعتقد أنه سيكون أمراً فظيعاً أن تكون وحيداً في (أرض السرطان)، العيش مع شخص مصاب بالسرطان يتعاطى العلاج الكيميائي والمناعي، هو مغامرة في القرب والابتعاد. يجب أن يكون الشخص قريباً بما فيه الكفاية ليشعر بالعلاجات التي تنهك جسد المريض كما لو أنه هو المعني بتعاطيها، وفي الوقت نفسه يكون بعيداً بما فيه الكفاية ليتمكن من تقديم المساعدة الحقيقية. فالشفقة الزائدة قد تشعر المريض بأنه عديم الفائدة! ليس من السهل دائماً القيام بهذه المهمة الحساسة، لكنها العمل الحقيقي للحب». تأتي هذه المأساة بعد أشهر قليلة من وفاة دانيال، ابن بول أوستر عن زوجته الأولى الكاتبة ليديا ديفيس، إثر تعاطيه جرعة زائدة من المخدرات في أبريل (نيسان) العام الماضي، حيث وجد مغمى عليه في ميترو بروكلين بمدينة نيويورك، بعد أيام قليلة من إطلاق سراحه بكفالة إثر اتهامه بقتل ابنته ذات الأشهر العشرة خطأ، والتي كانت في حضانته. المآسي المتلاحقة في حياة أوستر لم تمنعه من التعاطي مع الكتابة بالتزام ندر وجوده عند الكتاب، فصاحب «اختراع العزلة»، الرواية التي جعلته في الصف الأول من الكتاب العالميين منذ صدورها عام 1982، لم يركن إلى ما حققه من رواج خاصة بفضل عمله الأشهر «ثلاثية نيويورك» (ترجمت إلى العربية، دار الآداب) والمتكونة من «مدينة الزجاج» (1985) و«الأشباح» (1986) و«الغرفة الموصدة» (1987)، بل استمر في كتابة أعمال اعتبر معظمها أعمق وأكثر أثراً من التي صنعت شهرته، آخرها روايته الموسومة «1 2 3 4» الصادرة عام 2017 (ترجمت إلى العربية، منشورات المتوسط)، التي اعتبرتها المنابر النقدية أهم حدث أدبي في تلك السنة، ليتبعه بـكتاب «أمة حمام الدماء» الصادر في منتصف شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، عن دار «غروف براس» الأميركية (ترجم إلى الفرنسية مباشرة بعنوان «بلد الدماء»، دار أكت سود). استند بول أوستر في هذا الكتاب إلى الصور التي أخذها المصور الأميركي سبنسر أوستراندر، ابن زوجته سيري هوستفالد، في مواقع شهدت جرائم قتل عنيفة خلال العشرين سنة الماضية، حيث يحاول أوستر تتبع تاريخ العنف في الولايات المتحدة الأميركية، المترتب أساساً عن البند المنصوص عليه في الدستور الأميركي، والمتعلق بحق امتلاك أي مواطن ومن دون سبب لسلاح ناري، وهو الحق الذي قسّم البلد عملياً إلى معسكرين لا يجمع بينهما شيء. يرى أوستر أن حيازة الأسلحة النارية في أميركا لم تشهد منذ تاريخ تقنينها هذا القدر من الانتشار، كما أن جرائم القتل بالرصاص زادت بنحو خيالي في أكثر من 40 مدينة أميركية. وهي مؤشرات توجب على الشعب الأميركي أن يختار أي نوع من الشعوب يرغب في أن يكونه: شعب دموي تسيّره قوانين العنف، أم شعب يؤمن بالنظام ويجنح إلى السلم والطمأنينة؟ لكنه عوض أن يطرح هذا السؤال مباشرة، استعان أوستر بذكائه السردي الذي جعله يستنطق صور أوستراندر الفوتوغرافية التي لم يختر من ضمنها إلا تلك التي غاب فيها الحضور البشري، فبحسب أوستر فإن غياب الشخصيات البشرية يلفت النظر أكثر، وعدم وجود أسلحة نارية في صور تتحدث أصلاً عن الأسئلة النارية، يجعل تناول الموضوع يملك بعداً فلسفياً استشرافياً بعيداً عن السياسة والمصالح المالية، فالصور التي استنطقها أوستر اكتفت بتصوير مبانٍ صارت قبيحة بسبب القتل والعشوائية، وهو الأمر الذي خلق نوعاً من الفراغ فيها، يعكس تماماً فراغ العالم الذي خلقه العنف. يشدد الكاتب على الهوة الفلسفية التي تفصل بين المعسكرين المتناقصين: المؤيدين والمعارضين لحق حيازة الأسلحة النارية، بين الذين يرون في حق حمل السلاح دعامة أساسية للمجتمع الأميركي والذين يريدون إنهاءها، الذين يرون أن المشكلة تكمن في الأسلحة النارية والذين يرون أنها تكمن في الأفراد الذين يتعاملون معها. هوة لا يمكن تجاوزها وتمنع أي مناقشة جادة وحقيقية، حيث لا يبدو أي من الطرفين على استعداد لاتخاذ أي خطوة. في هذه الظروف، يشعر بول أوستر بالتشاؤم بشأن المستقبل، فمن مدرسة ساندي هوك الابتدائية إلى يوفالدي وكنيسة بابتست الأولى وسذرلاند ونادي بولس الليلي في أورلاندو، لم يتم استخلاص أي درس ولم يتم اتخاذ أي إجراء عملي. الكثير من الوفيات، الكثير من الحياة التي تنتهي، والكثير من الحياة التي تدمر، والكثير من الحياة التي تتوقف، والكثير من الحياة التي تضيع. لكنه ومع هذا التشاؤم المتعلق بإدراكه لحجم الهوة التي تفصل الفريقين، يصرّح بأن ما يعطيه الأمل في المستقبل، هو العمل الذي يقوم به الأفراد والمنظمات للتغيير، فهو يعبر عن تفاؤله بشأن العديد من الحركات الاجتماعية التي تسعى إلى إنهاء العنف والتمييز، وكذلك الناس الذين يعملون بجدية في المجال السياسي للمطالبة بإصلاحات تجعل العالم أكثر عدلاً وإنصافاً، ويعلق الأمل على الذين يعملون بجدية على تحسين المستقبل، وإيجاد حلول جديدة للتحديات التي تواجه المجتمع. جاء كتاب «أمة حمام الدماء» عميقاً ومؤثراً على نحو سمح ببعث النقاش المتعلق بحيازة الأسلحة النارية من جديد، وتمّ تناوله بعيداً عن السياسة والتأثيرات الاقتصادية، ولعل هذا يرجع أساساً إلى أن بول أوستر ليس مؤرخاً ولا عالم اجتماع وليس فيلسوفاً ولا حتى رجل سياسة، بل لأنه كاتب فحسب، تناول الموضوع من زاوية الألم والشعور بالخوف على أمته من الاندثار كلما ازدادت حبّاً للعنف. فأوستر لم يتوان في وصف العلاقة التي تربط الأميركي بالأسلحة والعنف بعلاقة حبّ قديمة قِدم التاريخ الأميركي، شكّلها الخوف والشعور بالرعب الذي دفع المستوطنين الأوائل إلى تسليح أنفسهم دفاعاً عن حياتهم، ولكنهم ومع مرور الوقت تشكّل لديهم يقين بأن حياتهم تعني موت خصومهم، وشيئاً فشيئاً نسي الأميركيون الغاية الحقيقية التي دفعت بمحرري دستورهم إلى تقنين حق حيازة الأسلحة، حتى صاروا يعتقدون أن هذا الحق من الحقوق الأساسية التي لا تقبل التنازل عنها، وهو التصور الذي تكرس بشكل نهائي في ستينات القرن الماضي مع انتشار عمليات الاغتيالات والفوضى. تضمن كتاب أوستر مجموعة من صور سبنسر أوستراندر التي التقطت خلال عامين في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأميركية، لمواقع شهدت أكبر عمليات القتل الجماعية في السنوات العشرين الأخيرة. تم تصويرها بالأبيض والأسود ولا يظهر فيها شيء من المشاهد الدموية، فقط أماكن فارغة، حزينة، عادية، يتعلق معظمها بمدارس وكنائس ومتاجر شهدت في فترة ما عمليات قتل بالأسلحة النارية، ومع ذلك تمكن المصور من نقل مشاعر الذعر التي تلازم عادة من يكون شاهداً على وقائع دموية مرعبة.
مشاركة :