في مارس 2023، أصدرت «المحكمة الجنائية الدولية»، أبرز مذكرة توقيف لها منذ إنشائها، ضد الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين»؛ حيث اتهمته بالمسؤولية عن جرائم حرب في أوكرانيا، وكذلك مذكرة أخرى ضد «ماريا لفوفا بيلوفا»، مفوضة الرئاسة الروسية لحقوق الطفل، فيما حُكم على كليهما بالمسؤولية عن إبعاد الآلاف من الأطفال الأوكرانيين من وطنهم ومحاولات جعلهم مواطنين روس بالقوة. وفي حين أنه من المتوقع عدم اتخاذ أي إجراءات مباشرة من قبل «المحكمة»، في هذا الصدد، فقد رأى «فرانك جاردنر»، و«أنطوانيت رادفورد»، من شبكة «بي بي سي»، أنه من غير المرجح أن تؤتي تلك المذكرة الكثير من النتائج الإيجابية؛ لأن المحكمة «ليس لديها صلاحيات لتوقيف المتهمين»، و«يمكنها فقط ممارسة مهام الولاية القضائية داخل أعضائها من الدول»، والتي ليست روسيا واحدة منهم؛ غير أن تلك الخطوة الرمزية تضع «بوتين»، في مصاف كل من الرئيس الليبي «معمر القذافي»، والسوداني «عمر البشير»، من بين أولئك الذين يواجهون اتهامات رسمية مباشرة بارتكاب جرائم حرب. وفي حين أن توقيت المذكرة يتزامن مع الذكرى العشرين لغزو «الولايات المتحدة» للعراق، والذي وصفته «كاثرين غالاغر»، من «مركز الحقوق الدستورية»، بأنه حرب «عدوانية وغير قانونية»؛ فقد أوضحت «أليس سبيري»، في موقع «ذي انترسيبت»، كيف أدى دعم الغرب للمساءلة الدولية عن جرائم الحرب الروسية ضد أوكرانيا، إلى «إثارة اتهامات بالنفاق والازدواجية»، بشأن الأعمال العسكرية التي ارتكبها الغرب، بحق العراق ودول أخرى. ومنذ بداية حرب أوكرانيا، تم توثيق مزاعم واتهامات متعددة بارتكاب جرائم حرب من قبل القوات الروسية. وعلى وجه الخصوص، أثار اكتشاف مقابر جماعية لضحايا مدنيين في بلدة «بوتشا»، الأوكرانية، دعوات إلى إنشاء محكمة دولية للنظر في الجرائم المرتكبة على غرار محاكمات «نورمبرغ» الألمانية الشهيرة، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية من أجل التحقيق وإدانة المسؤولين الروس عن تلك الجرائم. وبينما أشار كل من «آمي ماكينون»، و«كريستينا لو»، و«جاك ديتش»، في مجلة «فورين بوليسي»، إلى أنها «أول اتهامات دولية تُوجه ضد كبار المسؤولين الروس»، منذ بدء الحرب؛ فقد أشير أيضا إلى أن «بوتين»، و«بيلوفا»، اتهما بعمليات «ترحيل غير قانونية»، لأطفال أوكرانيين من أراضيهم، التي استولت عليها روسيا. ووفقًا لـ«جامعة ييل»، فإن «موسكو»، توظف «شبكة من المعسكرات والمرافق الأخرى ذات الصلة» من أجل «إعادة التعليم»، والتبني القسري لما لا يقل عن 6000 طفل أوكراني داخل روسيا، وهو ما يعد في حد ذاته بمثابة خرق لاتفاقيات جنيف، ناهيك عن كونها «جرائم حرب صريحة ضد الإنسانية». وقال «هارولد كوه»، المستشار القانوني السابق للخارجية الأمريكية، إن سرقة الأطفال عمل «يبدو أنه لا يوجد تفسير بريء له». وفي حين أوضحت «ديان ديزييرتو»، من جامعة «نوتردام»، أن لائحة الاتهام الصادرة عن المحكمة الجنائية، ستفتح الباب للتحقيق مع موسكو في «الانتهاكات المتعددة» لحقوق الإنسان؛ فقد أكد مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي «جوزيب بوريل»، أن المحكمة «مجرد بداية لعمليات المساءلة ومحاسبة روسيا وقادتها». ومع ذلك، أشار مراقبون إلى تحديات كبرى أمام ضمان المساءلة الدولية. ومع تحذير كل من «ماكينون»، و«جرامر»، من أن «الحجم الهائل»، لجرائم الحرب المزعومة «قد يكون أمرا مرهقًا للغاية»، بحيث لا تستطيع المحكمة وحدها معالجتها والتحقيق فيها؛ فإن هناك حقيقة واضحة هي أن روسيا لا تعترف بشرعية المحكمة، وهو ما يعني أن «بوتين»، سيتجنب اعتقاله. وعلى الرغم من أنه من الصعب تخيل أن الرئيس الروسي سيواجه أية مساءلة من قبل «محكمة العدل الدولية»، في أي وقت؛ إلا أن «ماكينون»، و«لو»، و«ديتش»، أكدوا أن هذه الانتقادات والاتهامات سوف «تزيد من عزلته على الصعيد الدولي». وأضاف «كوه»، أن «أي إجراء يؤدي إلى نزع شرعيته أو عزله؛ سيضر بقوته التفاوضية حال انعقاد أية محادثات مستقبلية لإنهاء الحرب». وأضافت «دانييل جونسون»، من مبادرة «آكابس» أنه نظرًا إلى أن مذكرة المحكمة ليس لها تاريخ انتهاء أو قيود، فإنه حتى لو لم يتم القبض على «بوتين»؛ فإنه سيتم «مطاردته». وعلى الرغم من أن الإدانة الرسمية لـ«بوتين»، واتهامه بارتكاب جرائم حرب، كانت موضع ترحيب بين المراقبين الغربيين، فإنه بالتزامن مع الذكرى العشرين لحرب العراق، برزت هناك مقارنات واضحة مع مسألة الافتقار إلى المساءلة والرقابة ذاتها ضد «الولايات المتحدة»، خلال غزوها العسكري للعراق والإطاحة بنظامه. وبشكل كبير، عارضت «واشنطن»، المحكمة الجنائية الدولية وأحبطت جهودها المتكررة للمساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان خلال غزوها للعراق. وأشارت «سبيري»، إلى أنها «اتخذت منذ فترة طويلة موقفًا عدائيًا تجاه المحكمة»، وهو ما تجلى في محاولتها تقييد تفويضها وسلطاتها، فضلا عن «المعارضة الشديدة للتحقيقات معها وحلفائها». وتمت الإشارة أيضا إلى كيف أن المسؤولين الأمريكيين بذلوا «جهودًا كبيرة»، لعرقلة تحقيقاتها في جرائم الحرب التي ارتكبتها في أفغانستان. من جانبه، انتقد محامي حقوق الإنسان «ريد برودي»، كيفية ربط «واشنطن»، دعمها لتلك المحكمة بـ«ضمان عدم محاكمة أي مسؤول أمريكي من قبلها أو أي مؤسسة أخرى معنية بالعدالة الدولية». وكتب «تشارلي سافاج»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، إن مسؤولي الدفاع الأمريكيين منعوا «البيت الأبيض»، من مشاركة أدلته حول جرائم الحرب الروسية المزعومة؛ خوفًا من وقوع انتهاكاتها الماضية تحت طائلة المساءلة في وقت لاحق. وبالنسبة إلى قضية غزو العراق، أشار «سافاج»، إلى أن «واشنطن»، في عام 2002، سحبت دعمها للمحكمة الجنائية الدولية. وفي حين أوضحت «سبيري»، أن تلك المحكمة لم تفتح أي تحقيقات في أية قضية أمريكية مزعومة متعلقة بالانتهاكات المرتكبة في العراق، فإنه لم يتم التحقيق سوى في قضيتين حول ممارسات «المملكة المتحدة» دون إنهائهما، وبالتالي» أسهم هذا الأمر في التشكيك في مصداقيتها». ووفقًا لما ذكرته «غالاغر»، فإنه مع الافتقار إلى الإشراف الدولي من جانب «منظمات حقوق الإنسان الدولية»، على غزو الولايات المتحدة للعراق، «فلن يكون هناك أي نوع من المساءلة لإنصاف ضحايا التعذيب في السجون الأمريكية بالعراق وغيرها. واستنادًا إلى الاستشهاد بالمسؤولين الأمريكيين والبريطانيين الذين أيدوا غزو العراق، ولكنهم انضموا إلى إدانة روسيا في حربها الراهنة؛ فقد أُشير إلى دعوة وزير المالية البريطاني السابق «جوردون براون»، إلى إنشاء «محكمة خاصة»، بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في أوكرانيا، كما أن مستشارة الأمن القومي في فترة رئاسة «جورج دبليو بوش»، «كوندوليزا رايس»؛ ذكرت أن الحرب الروسية في أوكرانيا، «ضد كل مبادئ القانون الدولي». وتعليقا على ذلك، أشار «جورج مونبيوت»، في صحيفة «الجارديان»، إلى أن هذه التصريحات «يشوبها النفاق»؛ لأن العديد من هؤلاء الذين اختاروا إدانة «بوتين»، هم أنفسهم «مسؤولون عن الانخراط في «حرب غير قانونية بالعراق». وخلص إلى أنه في حين أن المسؤولين الغربيين «على حق بشأن روسيا»؛ لأنها «ارتكبت جرائم وانتهاكات»؛ فإن الأمر نفسه يجب أن يطبق على الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة في عهد «بوش»، و«توني بلير»، في غزوهما عام 2003. وأشارت تحقيقات لجنة «تشيلكوت لتقصي الحقائق حول غزو العراق»، إلى أن تورط بريطانيا في الغزو «عسكريا»، لم يكن «الملاذ الأخير»، ووصفه كل من اللورد «ستاين»، واللورد «توم بينغهام» على التوالي، بأنه «غير شرعي»، و«انتهاك خطير للقانون الدولي»، فيما أدانه أيضًا «مونبيوت»، ووصفه بأنه «يكاد يكون من المؤكد أكبر جريمة ضد الإنسانية حتى الآن خلال هذا القرن»، ووصف المسؤولين عنه بأنهم «مذنبون» بنفس القدر المماثل لحرب «بوتين»، على كييف. وعند تسليط الضوء على معايير الازدواجية الغربية تجاه كل من حالتي «أوكرانيا»، و«العراق»، يجب أيضًا الوضع في الاعتبار، أن هناك ترددا واضحا للقيام بالإشراف الدولي، وكبح جماح الإجراءات التصعيدية، التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية داخل الأراضي المحتلة، وسجلها في انتهاكات حقوق الإنسان المتكررة ضد الفلسطينيين. وبنفس الطريقة التي حاولت بها «موسكو»، ضم الأراضي الأوكرانية رسميا لسيطرتها، اعتبارًا من عام 2023، يعيش الآن ما يقرب من 700000 إسرائيلي في 250 مستوطنة في الضفة الغربية والقدس الشرقية، في انتهاك واضح للقانون الدولي. وإلى جانب هذا، تصاعد عنف المستوطنين والعمليات الأمنية الإسرائيلية في العام الماضي. ووفقا لبيانات «الأمم المتحدة»، «وقع ما لا يقل عن 849 هجومًا من قبل المستوطنين الإسرائيليين ضد الفلسطينيين في عام 2022 وحده، أي ما يقرب من ضعف العدد في العام السابق، ناهيك عن مقتل أكثر من 80 فلسطينيًا في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2023، فيما قام المستوطنون بهجوم مدمر على بلدة «حوارة» الفلسطينية، والذي وصفه «بيثان ماكيرنان»، في صحيفة «الجارديان»، بأنه «غير مسبوق من حيث حجمه وضراوته». وفي حين دعمت الحكومتان البريطانية والأمريكية، الجهود الدولية لمحاسبة «روسيا»؛ تجاهلت الدول الغربية الانتهاكات المرتكبة في الأراضي المحتلة، أو تدخلت بشكل مباشر لحماية إسرائيل من المساءلة الدولية. وبالفعل، عارضت إدارات «البيت الأبيض»، المتعاقبة، مسألة تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في ممارسات إسرائيل، واستخدمت حق النقض «الفيتو»، ضد انتقادات وقرارات الأمم المتحدة المناهضة لها. وفي عام 2021، بدأت «المحكمة»، تحقيقًا رسميًا في جرائم الحرب المرتكبة ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، والتي رد عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو»، بأن تلك الجرائم كانت «تجاوزًا»، فحسب وأنه «سيحاربه»، فيما أيدته الولايات المتحدة –آنذاك- ودعمته. وانعكاسًا أيضًا لازدواجية المعايير، تفاوضت «إدارة بايدن» -قبل فترة وجيزة من صدور قرار مدعوم من «الولايات المتحدة»، بإدانة التحركات الروسية ضد أوكرانيا من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة- على لوم إسرائيل في مجلس الأمن، بسبب العديد من الانتهاكات التي قامت بها، لمنع إحراج «واشنطن». وعلى الرغم من وجود معايير مزدوجة واضحة بين دعم الغرب لأوكرانيا وإسرائيل وتسليط الضوء عليه عبر العديد من وسائل الإعلام، بالمقارنة بالدعم ذاته للقضية الفلسطينية والعراقية؛ فقد أكد «برودي»، «أن الولايات المتحدة لن تقف وراء التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية في فلسطين مطلقا»، وأن هذا الشيء «لن يحدث أبدًا». وفي الوقت نفسه، أشارت «جونسون»، إلى الأزمة الأوسع نطاقًا التي تتعلق بالمساءلة الدولية عن جرائم الحرب؛ حيث أوضحت كيف أدى «سجل الإدانة الهزيل» للمحكمة الجنائية، و«الميل إلى التركيز على مساءلة البلدان الإفريقية جراء انتهاكاتها إلى «عدم الرضا»، عن عملها، وهو ما «قوض شرعيتها». وبالإشارة إلى سبب سرعة معالجة كل القضايا المتعلقة بشأن مدعى عليهم أمام المحكمة من مسؤولين أفارقة؛ أفاد «مونبيوت» أن هذا الأمر يعود إلى أنهم لا يتمتعون بالحماية السياسية الممنوحة للزعماء الغربيين، الذين «يرتكبون فظائع أكبر من نظرائهم الأفارقة». على العموم، مع إصدار «المحكمة الجنائية الدولية»، قرارها بشأن «بوتين»، بالتزامن مع الذكرى العشرين لغزو الولايات المتحدة للعراق، أثيرت أوجه تشابه بين العدوان العسكري لـ«واشنطن»، و«لندن»، على العراق من جهة، والعملية العسكرية لموسكو في أوكرانيا من جهة أخرى، حيث برزت ازدواجية المعايير بشكل لا جدال فيه عند محاسبة الأخيرة جراء انتهاكاتها، فيما تم تجاهل جرائم الحرب التي ارتُكبت أثناء غزو العراق وأفغانستان. علاوة على ذلك تم تجاهل الفظائع والخروقات والانتهاكات التي تقوم بها إسرائيل في الأراضي المحتلة، بل واستمرار دعم الولايات المتحدة لها من خلال عرقلة التحقيقات الدولية أو الانتقادات المنبثقة من المحكمة الجنائية، والأمم المتحدة وغيرها. وعليه، خلصت «غالاغر»، إلى أنه مع سعي «واشنطن»، إلى استخدام القانون الدولي، «كأداة لممارسة سياستها الخارجية»، فقد «شاركت في إنتاج قانون وفق منظورها الخاص». ومن وجهة نظر «سبيري»، ففي حين حاولت الحفاظ على مستوى من السيطرة على تصرفات المحكمة الجنائية وولايتها القضائية، فإن «عدم قدرة المحكمة على محاسبتها كان له أثر في ترك انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان، وكذلك الخروقات الإسرائيلية، «بلا عقاب» لعقود.
مشاركة :